أمين الخولي ... رائد التجديد المنسي
السبت، 05 أكتوبر 2019 09:58 ص
كان الأب ، العالم الجليل أمين الخولي يجلس مع زوجته الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) ثم دخلت عليهما ابنتهما ، وسألت أمها :" لماذا حرم الله على المسلمين لحم الخنزير؟".
بنت الشاطئ وهى من هى لم تجب بأي إجابة كانت ، وقالت لابنتها :" وجهي سؤالك لأبيك ".
قال الأب بهدوئه المعروف :" ظني أن الله قد حرم ما حرم وأحل ما أحل ليعود عباده على طاعته ".
أرى أن تلك القصة البسيطة تصلح مفتاحًا لقراءة شخصية عالمنا الجليل الأستاذ أمين الخولي ، الراجل كان يمكنه تقديم عشرات الإجابات ، ولكنه بسيط متواضع شأن العلماء الأفذاذ الذين يقطعون بكلمة واحدة حبال مجادلة ستكون عبثية ، ثم الرجل مؤمن هذا الإيمان العميق المستقر بحكمة الله سواء علينا عرفناها أم لم نعرفها.
شيخ من مشايخ زماننا ألقمه شاب عابث حجرًا عندما سأله :" لماذا حرم الله الزنا ؟ ".
فرد الشيخ بإجابة محفوظة :" لمنع اختلاط الأنساب ".
فقهقه الشاب قبل أن يرد :" لقد أبطل تحليل الحامض النووي هذه الحجة ".
فلم يرد الشيخ سوى بصياح مضحك فضح به عجزه.
سعيد الحظ هو ذلك الذي يولد في بيئة حاضنة لأحلامه وراعية لمواهبه ، وقد كان الخولي واحدًا من سعداء الحظ هؤلاء .
ولد لأبوين أولاد عمومة بقرية شوشاي بمركز أشمون بمحافظة المنوفية في العام 1895 ، ومن الواضح أن أباه كان ميسور الحال ، لأنه فرغّه لتلقي العلم ، والعلم أيام الخولي كان أيسره حفظ القرآن الكريم كاملًا ، فأتم حفظه وهو ابن عشر سنوات .
البيئة الحاضنة سمحت له بمغادرة القرية البسيطة إلى القاهرة ، نقرأ نحن الآن جملة المغادرة فتعجب من ورودها في المقال ، في زمن الخولي أي قبل ما يزيد على المئة سنة ، كانت القاهرة هى آخر حدود العالم بالنسبة للمصريين ، وكان الوصول إليها والإقامة بها يعد عملًا لا يستطيعه سوى أولو العزم من الرجال .
واصل الخولي تعليمه وفي قرار قلبه عزم أكيد على المضي لآخر شوط يستطيع قطعه في طريق العلم ، من معالم الشخصيات الفذة ، والخولي على رأسها ، أنهم يعرفون مواهبهم ويحددون بدقة مذهلة الأهداف التي يسعون لتحقيقها .
بعد اجتيازه للدراسة المؤهلة للالتحاق بمدرسة القضاء الشرعي ، أصبح للخولي مقعدًا بمدرسة القضاء الشرعي ليتتلمذ على يد أستاذه عاطف بركات .
عاطف بركات هو ابن شقيقة سعد باشا زغلول ، وكان يسير على درب خاله فأصبح وجهًا من وجوه الوفد اللامعة صاحبة الإسهام الكبير في السعي لتحرير الوطن من الاحتلال الإنجليزي.
كان عاطف بركات المدرس ناظرًا لمدرسة القضاء الشرعي ، وكان من تلاميذه أحمد أمين وعبد الوهاب عزام وأحمد فرج السهنوري وعبد الحميد العابدي ، وقد لحق بهم أمين الخولي .
طريقة بركات في التدريس كانت تقوم على غرس ضرورة البحث في نفوس تلاميذه ، فلم يكن يؤمن بمسألة التلقين ، إضافة إلى تنمية الاستقلال بالرأي وعدم السير بمنهج القطيع .
تلك المبادئ ستكون فيما بعد هى ذاتها مبادئ أمين الخولي عندما يجلس على كرسي الأستاذية .
فرض أمين على نفسه الزي الأزهري رغم أنه لم يدرس بالأزهر ، وذلك الزي كما هو معروف يفرض على لابسه أشياء لا يفرضها على غيره ، منها مثلًا الابتعاد عن أجواء الفنانين ، ولكن الشيخ أمين كانت له وجهة نظر مغايرة ، فقد رأى أن من الواجب على أدباء عصره تغذية المسرح العربي وقد كان أيامها في مهده بثمرات أقلامهم ، وعلى ذلك ، أتفق الشيخ أمين مع فرقة عكاشة المسرحية على تقديم مسرحية كتبها تحت عنوان " الراهب المتنكر ". عندما نعرف أن مسرحية الشيخ أمين الخولي قد عرضت على مسرح الأوبرا قبل مئة عام من عامنا هذا فسندرك أي رجل كان هذا الرجل ، لقد أسهم في تطوير المسرح العربي الذي لم يكن في ذلك الوقت يقدم سوى الروايات التي يقوم الأشقاء الشوام بتعريبها ، فجاء الشيخ أمين وكتب مسرحية عربية من ألفها ليائها .
عن تلك المغامرة الجريئة كتب الناقد الكبير الدكتور محمد حسن عبد الله :" تستمد مسرحية الراهب المتنكر موضوعها من زمن الخليفة الأندلسي الناصر لدين الله، آخر الخلفاء الأمويين الأقوياء في الأندلس ، وقد عرضت على مسرح الأوبرا أول مرة مساء 16/12/1917 .
المسرحية قصيرة (20 صفحة) في ثلاثة فصول، كثيفة الأحداث، متعددة المشاهد المتداخلة، تضمنت أبياتاً من الشعر، وحكماً وأمثالاً، وفيها مواقف يسودها المونولوج، وهذا كله متوقع ومغفور لكاتب رائد (متطوع) للمشاركة في إنعاش شكل فني مستحدث بالنسبة للغة العربية ".
الجانب الفني في حياة الشيخ الخولي لم يكن مقصورًا على مغامرته المسرحية ، لأنه كان محبًا للموسيقى متذوقًا لها .
تقول كريمته الموسيقة الشهيرة سمحة الخولي :" سمع أبي أثناء وجوده خارج الوطن عزف عازفة مصرية على البيانو ، كانت المصرية تدعى عايدة عالم ، ولم تكن معروفة بمصر لكن أعجب بعزفها وتمنى لو تكون كنت مثلها .
كان أمين في طليعة ثوار 1919، فهو قريب جدًا من ابن شقيقة زعيم الثورة ، إضافة إلى حسه الوطني الذي كان يملأ قلبه .
يقول الكاتب الصحفي أحمد نور الدين :" في يوم الثورة الأول تقدم أمين وهو يحمل علم مدرسة القضاء الشرعي ، وقاد المظاهرة إلى الأزهر ، حيث تقرر أن يتجمع طلاب مدارس القاهرة. وحاصرهم حكمدار القاهرة بجنوده وهددهم بإطلاق الرصاص إذا لم يتفرقوا. وتقدم إليه "الخولي" قابضا على العلم وكاشفا صدره قائلا:" ها أنا ذا".
تماسك الطلاب وتراجع الحكمدار وأنسحب الجنود وسارت المظاهرة تهتف للاستقلال وبحياة سعد ، وتطالب الإفراج عن زعيم الأمة ، وعندما وصلت المظاهرة إلى ميدان رمسيس قاد الخولي المظاهرة إلى حي الفجالة ، وهو يهتف بصوته القوي بحياة الأقباط .. الإخوة في الوطن .. وبحياة الهلال مع الصليب. كان الخولي يؤمن بأن " الشخصية المصرية عقيدة يخفق بها قلب المصري ، وأن ما بين مسلمي مصر وأقباطها أقرب مما بينهم وبين المسلمين الأتراك".
وقتل الإنجليز صبيا صغيرا لأب فقير يبيع القباقيب. فحملت المظاهرة جثمان الصبي وأندفع الخولي يهتف " فلتسقط بريطانيا السفلى".
ترقى الخولى في سلك التدريس حتى أصبح أستاذًا بكلية الآداب بجامعة القاهرة التي كانت تسمى جامعة فؤاد الأول.
في تدريسه كان مثل أستاذه عاطف بركات ، يحرض طلابه على البحث وإعمال عقولهم ، منهج ومبدأ الأستاذ شرحه خير شرح تلميذه الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي قال :" كان أكثر ما يؤلمه أثناء الدرس أن يجد طلابه يسلمون برأيه ، لا يجادله أحد فيهم ، عندئذ تنقطع الدائرة وتخبو النار. أما إذا أرتقت العقول ، وأصطرع الرأي بالحجة ، عندئذ ينفجر وجه الخولي المقطب ، ويشتد لمعان عينيه ، وتفيض الفتوة العقلية والذهنية من مكامنها وتتألق الحكمة ".
يقول الكاتب الصحفي علي المطيعي :" في 7 نوفمبر 1923 عين الشيخ الخولي إماما للسفارة المصرية في روما ، وأبحر من الإسكندرية في 14 ديسمبر ، وتعلم اللغة الإيطالية حتى أجادها. وفي يناير عام 1926م نقل من روما إلى مفوضية مصر في برلين وأتقن الألمانية. وعاد إلى مصر عام 1927 "
هذا الدأب سيلفت نظر الكاتب الأستاذ يوسف نوفل الذي كتب عن الشيخ الخولي :" مضى الشيخ جامعا حوله، وتحت جناحيه أبناءه من أبرز نجوم الجيل التالي من أمثال: قرينته عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)،وحسين نصّار، وشكري عياد، وعبد الحميد يونس، ورجائي عطية، وعوني عبد الرءوف، وصلاح عبد الصبور، وفاروق خورشيد، وأحمد كمال زكي، وسامي داوود، وعبد الغفار مكاوي، وعبد المنعم شميس، وماهر شفيق، ومن سوريا شكري فيصل، ومعظمهم من أعضاء جماعة الأمناء، التي أسسها الشيخ في العام 1944 .
كان التجديد هو قضية حياة الخولي الذي كان يقول لتلاميذه :" لا يمكن تقديم الجديد إلا إذا قُتل القديم بحثًا"
وللمساهمة في التجديد كان أبرز كتب الشيخ حاملًا عنوان " المجددون في الإسلام " ثم توالت كتبه مثل " من هدي القرآن " و " تاريخ الملل والنحل " صلة الإسلام بإصلاح المسيحية " أما كتابه عن حياة وفقه الإمام مالك فقد أصبح الكتاب العمدة الذي لا يستغني عنه طالب علم .
وظل الشيخ يعلم ويتعلم إلى أن رحل في العام 1965 مخلفًا وراءه كتبًا تعد من كنوز المكتبة العربية نحتاجها بشدة لو كنا جادين في التجديد .