أبو زهرة.. الكنز المطمور
السبت، 10 أغسطس 2019 01:33 م
عندما أسمع أو أقرأ اسم الشيخ الأستاذ محمد أبو زهرة، أضرب كفًا بكف، تعجبًا من ذاكرة مصرية وعربية وإسلامية تبدو كالغربال، تحتفظ بالقش وتُسقط الحَب، وقد كان أبو زهرة، رحمه الله حَبًا ثمينًا من الحبوب التى تقوم عليها الحياة، وكان ثمرة عظيمة من ثمار الحضارة الإسلامية الشاهقة، وبرغم تلك المكانة التى لا ينكرها إلا جاحد، فقد اختفى تراث الشيخ الأستاذ المعلم، اختفى فى لحظة من لحظاتنا المفصلية، فنحن الآن نلوك مصطلح «تجديد الخطاب الدينى»، ثم لا نسارع باللجوء إلى عطاء الشيخ فى هذا المجال، حقًا ما أعجبنا!
عندما أسمع أو أقرأ اسم الشيخ الأستاذ محمد أبو زهرة، أضرب كفًا بكف، تعجبًا من ذاكرة مصرية وعربية وإسلامية تبدو كالغربال، تحتفظ بالقش وتُسقط الحَب، وقد كان أبو زهرة، رحمه الله حَبًا ثمينًا من الحبوب التى تقوم عليها الحياة، وكان ثمرة عظيمة من ثمار الحضارة الإسلامية الشاهقة، وبرغم تلك المكانة التى لا ينكرها إلا جاحد، فقد اختفى تراث الشيخ الأستاذ المعلم، اختفى فى لحظة من لحظاتنا المفصلية، فنحن الآن نلوك مصطلح «تجديد الخطاب الدينى»، ثم لا نسارع باللجوء إلى عطاء الشيخ فى هذا المجال، حقًا ما أعجبنا!
ولد الشيخ محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبى زهرة بمدينة المحلة الكبرى فى (6 من ذى القعدة 1315هـ=29 من مارس 1898م)، حفظ القرآن فى طفولته، والتحق بالجامع الأحمدى، الذى كان يطلق عليه الأزهر الثانى؛ لمكانته الرفيعة.
وبعد الدراسة بالجامع الأحمدى، انتقل للدراسة فى مدرسة القضاء الشرعى، حتى تخرج فيها سنة 1924، حاصلا على عالمية القضاء الشرعى، ثم اتجه إلى دار العلوم لينال معادلتها سنة 1927.
بعد تخرجه عمل الشيخ فى التعليم ودرّس العربية فى المدارس الثانوية، ثم جرى اختياره للتدريس فى كلية أصول الدين.
انتبه قبل مواصلة قراءة بيانات الشيخ، إلى أن تعامله مع خريجى المدارس العامة، سيجعله قريبًا جدًا من طبقات الشعب المختلفة، فقد عرف مزاج الناس وخبر ثقافاتهم، وكتب إليهم بأسلوب بسيط واضح لا لبس فيه ولا تعقيد.
عندما ذهب الشيخ إلى كلية أصول الدين، قام بتدريس الخطابة.
لاحظ أن الخطابة كانت علمًا يُدرس وله أساتذة، وليس هذا الذى نسمعه الآن من فوق المنابر أو فى المؤتمرات العامة.
فى كلية أصول الدين، كانت محاضرات الشيخ فى أصول الخطابة، وقد تحدث لطلابه عن تاريخ الخطباء من الجاهلية إلى الإسلام، ثم كأنه خاف على محاضراته من الضياع فجمعها فى كتاب عده العارفون الأول من نوعه فى اللغة العربية.
محاضرات الشيخ عن الخطابة، جعلت نجمه يعلو فوقع اختيار كلية الحقوق بالجامعة المصرية ليدرس الخطابة بها.
ثم من تدريس الخطابة أصبح مدرسًا للشريعة الإسلامية، وقد ظل الشيخ بكلية الحقوق حتى أصبح رئيسًا لقسم الشريعة، كما شغل بها منصب الوكيل، ولم يترك الحقوق إلا بعد وصوله لسن التقاعد عام 1958.
فى السيرة الذاتية الفذة «الوسية» لصاحبها الراحل الكريم الدكتور خليل حسن خليل، فصل عن أساتذته بكلية الحقوق، وفى ذلك الفصل ثناء عظيم جدًا على شيخ أنيق الملبس، والعبارة كان يدرس له الشريعة، ظنى أن خليلًا كان يقصد أبا زهرة، فالأوصاف التى كتبها خليل تكاد تكون أوصاف الشيخ التى شاعت عنه، ولكن لا أعرف سببًا دعا خليلًا لأن يكتم اسم الشيخ ولا يصرح به.
وبعد صدور قانون تطوير الأزهر، اختير الشيخ أبو زهرة عضوًا فى مجمع البحوث الإسلامية.
كان الشيخ غزير الإنتاج فقد كتب كتبًا كثيرة، تناولت أدق الموضوعات، مثل نظرية العقد، والوقف وأحكامه، والوصية وقوانينها، والتركات والتزاماتها، والأحوال الشخصية، وكتب عن الأئمة أبو حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وابن حزم، وابن تيمية، وزيد بن على، وجعفر الصادق.
أيامها لم يكن مسموحًا بالهراء الذى من نوعية: كيف يكتب إمام سنى عن أئمة الشيعة مثل الإمامين الجليلين زيد بن على وجعفر الصادق؟.
أيامها كان صوت العلم يعلو فوق كل صوت.
عاش الشيخ حياته راهبًا فى محراب العلم، فأصبح لديه المئات من التلاميذ النوابغ، الذين تقلدوا أرفع المناصب، وكان أكثرهم به بارًا.
رجل بهذه المواصفات كيف يختفى ذكره؟.
متى ضُرب الحصار حول اسمه وإنتاجه؟.
كيف نتجاهله، ونحن فى أشد الحاجة له ولأمثاله؟.
تلك الأسئلة كانت تشغلنى، وكنت أبحث عن إجابات مقنعة لا تتجاهل الوقائع ولا تقفز فوق السياق.
طال بحثى عن إجابات حتى عرفت قصة المؤتمر الذي فجّر فيه الشيخ قنبلته المدوية ، وظني أن تلك القنبلة كانت السبب فى الحصار الذى ضربه بعضهم حول اسم الشيخ.
أصل القصة أن الشيخ دعى قبل رحيله بعامين لمؤتمر إسلامى بليبيا، والشيخ صاحب كبرياء وصاحب جلالة كالملوك، ولذا بدأ صدامه مع المؤتمر مبكرًا.
كان أعضاء المؤتمر قد التقوا بالقذافى، فكان مما قال أحد الشيوخ : إن العلماء خدم لمن يخدم الشريعة.
فرد أبو زهرة عليه قائلًا: إننا لسنا خدما لأحد كائنا من كان.
فقال الشيخ: يا مولانا، إننا خدم لمن يخدم الشريعة، فخدمتنا فى الحقيقة إنما هى للشريعة.
فرد أبو زهرة: نحن سادة ولسنا خدما.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ وقف الشيخ رحمه الله فى المؤتمر، وقال: إنى كتمت رأيًا فقهيًا فى نفسى من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به، قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟ قال: بلى.
وآن لى أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألنى: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟
هذا الرأى يتعلق بقضية (الرجم) للمحصن، فى حد الزنا، فرأيى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول فى أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد فى سورة النور.
قال الشيخ: ولى على ذلك أدلة ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى قال فى سورة النساء: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب فى الآية هو المذكور فى سورة النور: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
والثانى: ما رواه البخارى فى جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى: أنه سئل عن الرجم؟ هل كان بعد سورة النور أو قبلها؟ فقال: لا أدرى. (رواه البخارى ومسلم ).
فمن المحتمل جدًا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التى نسختها.
الثالث: أن الحديث الذى اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنا ثم نسخت تلاوته وبقى حكمه: أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان فى صحيفته، فجاءت الداجن وأكلتها: لا يقبله منطق.
وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور فى كتب الفقه حول هذه الأدلة، ولكن الشيخ ثبت على رأيه، كالطود الأشم.
وختم الشيخ كلامه قائلًا : هل معقول أن محمد بن عبد الله الرحمة المهداة، يرمى الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهى أليق بقساوة اليهود.
ثم فى الحادى عشر من أبريل من العام 1974 توفى الشيخ أبو زهرة، فأصبح كنزًا مطمورًا.