فن صناعة الهلع

السبت، 22 يونيو 2019 03:00 م
 فن صناعة الهلع
حمدى عبد الرحيم يكتب:

قبل أيام قالت وكالة «أسوشيتد برس» ما نصه: «إن طائرة تابعة للخطوط التركية، قد شهدت حالة من الارتباك، خلال رحلة صوب السودان، إذ قام أحد الركاب من مقعده، بعد الإقلاع، وشرع فى الصراخ، وهو يقوم بتهشيم قناع التنفس والنافذة. وقد تمكن  الركاب من السيطرة على الراكب الهائج الذى كان فى درجة رجال الأعمال، وأخذ يدفع المضيفين ويهرع باتجاه قمرة القيادة.
 
قام طاقم الضيافة بتهدئة الرجل ثم أعلن  الطيار أن الطائرة ستعود إلى إسطنبول، فوقف الرجل فجأة واتجه إلى مقدمة الطائرة، وعندها أمسك به ركاب آخرون وقيدوه بقيود بلاستيكية.
 
وفور هبوط الطائرة فى إسطنبول، اقتادت الشرطة الرجل إلى خارج الطائرة».
 
انتهى الخبر الذى بحثت عن تداعياته على مدار الأيام الماضية فلم أجد أحدًا يذكره بشىء!
 
وتجاهل تداعيات خبر كهذا أمر طبيعى جدًا، ومألوف للغاية، فلم تقع خسائر بشرية ولا مادية، ولم يتم اختطاف الطائرة أو إلحاق الأذى بركابها أو طاقمها، الأمر لم يتجاوز حالة هياج تحدث أحيانًا لأسباب مختلفة لهذا الراكب أو ذاك.
 
ولكن دعنا نرى الموقف لوـ لا قدر الله تعرضت له طائرة مصرية!
 
كانت جهات نعرفها جميعًا ستتعامل مع هذا الخبر كما لو أن أهرام الجيزة قد هربت إلى خارج البلاد، كنا سنسمع أدق التفاصيل، ثم مطولات من التحليل السياسى والاقتصادى، ثم تحليلا لتلك التحليلات، ثم دعوة لمحاربة الإهمال، ثم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.
 
تلك الجهات تتعامل مع أى شأن مصرى باهتمام يدعو إلى الريبة، لأن اهتمامهم- بل ولعهم بمتابعة شئوننا-  هو فى حقيقته وعلى صورته الصحيحة ترويج لصناعة الهلع، ونحن- أو معظمنا من أجل الإنصاف والدقة- نقع أسرى لتلك الصناعة الخبيثة، فكل ما فى مصر إما معطوب أو سيعطب، وكل ما فى مصر إما مخيف أو يدعو للخوف، فى بلاد غير بلادنا تقع حوادث كارثية، توضع فى حجمها الحقيقى دون تهويل أو تهوين، ثم تمر وتمضى، أما عندنا نحن، فكل مشكلة تافهة هى فرصة ذهبية لجلد الذات وصب اللعنات فوق رأس هذا الشعب المقاوم الصابر المحتسب، وأقرب دليل على ذلك، هو ظهور كوم صغير من القمامة فوق محور روض الفرج، وجود القمامة معيب دون أى نقاش، والتخلص منها جد يسير، ولكن تفاعل السوشيال ميديا مع الأمر جعلنى أظن أن القيامة قامت، وأن هذا الشعب قد فقد كل أمل فى أدنى درجات التقدم.
 
تلك التفاعلات أحسن النظر إليها الطبيب النفسى الدكتور يحيى موسى، الذى كتب مقالًا لافتًا عن الهلع جاء فيه: «النضج النفسى له أدواته، وأهم أدواته هزيمة الهلع أتحدث عن عن الهلع، وليس الخوف، هناك فارق ظاهرى بين الهلع والخوف، الخوف متغير، ولكن الهلع ثابت، الخوف شعور، يحدث لأسباب، وينقطع بانقطاعها، لكن الهلع تكوين عقلى ثابت.. مؤسس على عقيدة، ويخدم تصورًا مسبقًا، الشخص الهَلِع أو الهلوع؟ هو الذى يجزع من الشر، ولا يصبر على المصائب، تكوينه العقلى الثابت يكون غير متقبل لحدوث مصيبة له، أو نزول حادثة به، أو إلمام نقص به، مثل نقص المال مثلا، أو حدوث مرض، أو مصاب فقد عزيز، تكوينه العقلى غير متقبل لأن يحدث له ما يحدث للجميع كسنّة كونية، فيعيش بنفسٍ جزعة، وعقل هَلِع،وهزيمة هذا الهلع هى أهم أدوات عملية النضج النفسى، هزيمته لصالح تكوين عقلى، يقبل الشر إلى جوار الخير، ويفهم أن سنة الحياة السارية على الجميع هى نقص بعد وفرة، وغياب بعد وجود، وضعف بعد قوة، فالفلوس التى فى جيبك، ستنفد بالضرورة، والصحة التى تتمتع بها هى لزوال أكيد، والذين معك الآن سيذهبون فى يوم ما وسينقطع ما بينكم. 
 
هذا التكوين العقلى، القادر على التقبل، والطمأنينة، هو الذى يقوم بعملية النضج النفسى، لأن النضج عملية، فبالضرورة له مساره، وإذا كان مسار عملية نضج الجسد، هو نمو الخلية، وتمام اكتمالها، ثم أفولها وشيخوختها، فلا بد وأن نتوقع مساراً لعملية نضج النفس، نضج النفس تنمو من خلاله علاقتك بالحياة، محبة بشغف وإقبال عليها، ثم استقرار متورط لا متعلق، ثم أفول بالزهد عنها».
 
انتهى تشريح الدكتور يحيى موسى، فمتى نكف عن الهلع؟

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق