الإنسان المصرى الجديد-8
السبت، 07 سبتمبر 2019 01:16 م
إعلامية شهيرة تخرج على جمهورها لتنعت من يعانون بالسمنة بالميتين.. إعلامي أخر يجري حوارا مع إحدى أنجح النماذج الشابة في مصر ويهاجمها ويهاجم زوجها لأنه يساندها حتى تستطيع أن تنجح.. ممثل شاب ينعي طليقته ويعترف بالتقصير تجاهها لأنه لم يكن يتخيل رحيلها المبكر.. لكنه يتعرض لهجوم ضاري من جمهوره على السوشيال ميديا، وغيرها من الأمثلة التي استوقفتني مؤخرا لأتساءل عما حدث لشعبنا الطيب الأصيل..من أين أتى بكل هذا العنف و التنمر؟.
في الحالتين الأولى والثانية، المتنمرون هم إعلاميون من المفترض أنهم يعرفون قيمة الكلمة التي ينبسون بها، ومن المفترض أيضا وجود رقابة واعية على كل ما يخرج عنهم لأنه بكل بساطة يؤثر في تشكيل فكر الملايين من المشاهدين، وإن غفلت الرقابة أو تساهلت فعلى الفكر المتفتح السلام، لقد أصبح جليا أنه ليس كل فرد في العمل الاعلامي يعى بحق حجم المسئولية التي تقع على عاتقه وأهمية كلمته في تشكيل وجدان الأمة، لذا أطالب بإحكام القبضة على كل من يخرج علينا لينصب نفسه قاضيا وحاكما بأمر الله، فيميت هذا ويكفر ذاك، ولتكن العقوبة مضاعفة لهؤلاء الذين لا يتحدثون فقط عن وجهات نظرهم وإنما يبثون سمومهم في دماء الشعب.
أما في المثال الأخير، فنجد أن الممثل الشاب هو ضحية حرية التعبير التي اعتقد خطأ أنها مكفولة له، فعبر بكل صراحة عن مشاعره من حزن وندم التي اعتبرتها أنا شخصيا شجاعة منه لأن ما قاله قد يساهم في إنقاذ العديد من الأسر من التفكك بل، ولم شمل بعضها الأخر، إلا أن هذا على ما يبدو لم يكن رأى الجميع، فلم يسلم من النقد البذئ من متابعيه.
و الجدير بالذكر أنه لا يعيبنا أبدا أن نختلف لكن لماذا أصبح أسلوب الاختلاف عنيفا والتعبير عنه بتلك الطريقة البذيئة؟!.. لماذا أصبحنا لا نتقبل الآخر بتلك الطريقة الحادة، ولماذا لا نلتمس الأعذار للآخرين؟!.
ترجع الدكتورة سارة الشقنقيرى، إستشارى الطب النفسى بالمركز القومى للبحوث، هذا السلوك بالأساس للإدراك الخاطئ للحدود الشخصية للآخر، فليس من حق أى شخص الحكم على الآخر أو فرض رأيه عليه، وليس له أن يتحمل تبعات تصرفات الآخرين وإخفاقاتهم، فكل فرد مسئول فقط عن نفسه وعن تصرفاته وقناعاته واختياراته، فنحن في النهاية لن نحاسب بدلاً عن الآخرين، فنحن في مجتمعنا نعطي أنفسنا حقوقا ليست لنا ونتحمل مسئوليات ليست علينا! قال تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ"، إلى آخر الآية الكريمة.
والسبب الأخر لهذا السلوك هو أن الأحكام التي نصدرها على الآخرين لها في الواقع علاقة بمشاعر شخصية مكبوتة، فبدلا من أن نعالج مشاكلنا بشكل واع أو نتقبلها ونتعايش معها فإننا نخرجها في صورة غضب تجاه الآخرين ويعد هذا هروبا من مواجهة المشاكل.
يلجأ الكثيرون إذن لمجموعة من الدفاعات النفسية مثل الإسقاط، وهو اتهام الآخر بما لدى الإنسان من مشاعر أو سلوكيات دون وعي منه، كأن تنتقد سيدة شكل الآخرين لأنها في الواقع لديها مشكلة في تقبل شكلها، وحين يصف أحدهم الآخرين بالفشل في حين يكون هذا في الواقع إحساسه بنفسه، أو عن طريق رد الفعل العكسي حيث نحكم على الآخرين بعكس ما نشعر به وعكس ما نوافق عليه في داخلنا، أو عن طريق الإزاحة، حيث يقوم الفرد بتحويل مشاعره من المصدر الأساسي إلي مصدر بديل، ويكون ذلك لعدم القدرة على مواجهة المصدر الأساسي مثل الزوج الغاضب من رئيسه والذي يصب غضبه على زوجته ووالديه.
ومن خلال مراقبة ردود الأفعال ونوع الثرثرة على منصات السوشيال ميديا يمكننا أن نضع أيدينا على مشاكل المجتمع، بل أكثر من ذلك أن هناك حاليا علم يدرس العقل الباطن للشعوب ومن أهم مصادره ردود الأفعال تلك.
في النهاية يجب أن ندرك أن الصواب والخطأ هو اختيار شخصي يحاسب عليه الخالق إذا كنا نتحدث عن الاختيارات الدينية، وليست مهمة أى فرد أن يحاسب الآخرين على اختياراتهم "لكم دينكم و لى دين"، أما في الأمور الحياتية، فإن الاختيارات الشخصية هى أيضا مسئولية كل فرد على حده، فهو وحده من يتحمل تبعات اختياراته، و حتى إن اختلفنا فليس من حقنا أن نرفض اختيارات الآخرين، بل يجب أن نترك المجال لاستقلالية القرار لأن هذا من شأنه أن يرفع الضغط المجتمعي عن الأفراد.
فكل فريق حاليا يدافع عن الحرية من وجهة نظره هو، وليس عن الحرية الحقيقية ، فلكل حدوده، وحرية كل فرد تنتهي فقط عند حدود حرية الآخرين، ففي حالة التعدي المباشر على حرياتي يجب أن أحمي حدودي أما في حالة كون قرارات الآخرين لن تطالني بسوء، فيجب على عدم التدخل واحترام اختيارات الآخرين، ولقد نهانا ديننا الحنيف عن التدخل فيما لا يخصنا "فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، كما نهانا عن قصف المحصنات ونهانا عن إجبار الآخرين على اعتناق أفكارنا، فلم يجبر سيدنا محمد عمه أبا طالب على اعتناق الإسلام فلم يمت على دين محمد، لا إجبار إذن لأخيك أو أبيك أو ابنك ..بل يحثنا على احترام الحدود الشخصية و استقلالية القرار.
ونتيجة للضغط المجتمعي الذي يمارسه البعض على الآخرين ، يلجأ البعض إلى فعل ما يريدونه في الخفاء، مما يزيد الطين بلة أو أن تكون تصرفاتهم كلها عبارة عن ردود أفعال لأحكام الآخرين.
سيرفع الكثير من الظلم عن كثيرين، عندما نتوقف عن إصدار الأحكام، لأننا ببساطة لا نعرف ما بداخل النفوس، كما أن ديننا يحثنا على أن نلتمس الأعذار، وهذا هو النضج النفسي الذي يجب السعى لتحقيقه، وعندما يريد أحدنا أن يصدر حكما على غيره، فيجب أن يسأل نفسه أولا إن كان هذا من حقه أم لا...هل هذا ضمن مساحته الشخصية أم أنه بذلك يتعدى على حدود الآخرين.
وعندما يصدر حكم ضدنا من قبل الآخرين فلا يجب أن نتأثر بما يقال ونصدقه وكأنه من المسلمات، فتلك الأحكام في واقع الأمر تعبر عمن يصدرها ومنبعها هو آليات الدفاع النفسي كما أشرت، فلا يجب أن نلتفت لوجهات نظر الآخرين و لنتشبث بقناعاتنا الشخصية ونسعى لتحقيق الأهداف التي حددناها لأنفسنا.
وعند تربية الأبناء نحتاج أن نعلمهم ألا يصدروا بدورهم أحكاما، لكن لنعلمهم أن يحسنوا من أنفسهم من وجهة نظرهم وألا ينساقوا وراء أراء الآخرين، ويجب أن نوضح لأبنائنا عدم مسئوليتنا عن تصرفات الآخرين ونغرس فيهم قبول الآخر "لكم دينكم و لي دين"، ولنغرس فيهم بذور الحرية، دعونا لا نتحدث عن الآخرين أمام أبناءنا حتى وان كانت تلك هى الطريقة التى نعلمهم من خلالها الصواب و الخطأ، بل نتركهم يتعلمون منا الصواب والخطأ بأن نكون لهم قدوة حسنة.
وفي النهاية دعونا لا ننسي أن ديننا نهانا عن النميمة، ويعلي من قيمة الكلمة الطيبة فيعتبرها صدقة وفي النهاية فمن منا الأفضل، حتى يعيب على الآخرين و يصدر عليهم أحكاماّ؟!.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".. صدق الله العظيم