قضاة الأمة.. ابن خلكان: كبير قضاة مصر والشام
الجمعة، 17 مايو 2019 03:00 م
«كبير القضاة»..هو اللقب الأبرز الذى حصل عليه «ابن خلكان» الذى ترك للأمة الإسلامية علامات مضيئة وأثرى المكتبة القضائية، بأحكامه، وفقهه، وفتاواه، واجتهاداته المتعددة، حتى وصفه البعض بسابق غيره في الوصول إلى أحكام وفتاوى في أصعب المسائل المتعلقة بالدين والدنيا، والذى أثارت آراؤه وأحكامه وفتاواه جدلاً عظيماً بين أبناء عصره.
لغطاَ شديداَ ثارت حول « أحمد بن محمد بن ابراهيم بن خلكان » نتيجة فتاواه حيث رأى البعض أنها تفتح باباً لبعض الشبهات حول الدين، بينما البعض الآخر، رأى أن هذه النوعية من الاجتهادات والأحكام تؤكد مكانة الإسلام في نفوس الأمة، بإعتبار أنه حض على التفكير والتعقل، وهما الركيزتين الأساسيتين عند أي فقيه .
ابن خلكان وفد بإربيل في 11 ربيع الثاني سنة 608 هجرية 1211 ميلادية، وتفقه على والده بمدرسة إربيل وسمع بها «صحيح البخاري» من أبي محمد بن هبة الله بن مكرم الصوفي، ثم انتقل إلى الموصل، حيث تفقه على كمال الدين بن يونس، ثم إلى حلب، حيث أخذ عن القاضي بهاء الدين بن شداد، ثم قدم دمشق، ثم إلى القاهرة التي سكنها وتولى قضاءها في ذي الحجة سنة 659 هجرية 1261 ميلادية، بعد عزل قاضي دمشق نجم الدين بن سني الدولة.
مناصب بالجملة
ثم أصبح ابن خلكان قاضي قضاة الشافعية في دمشق، عندما جعل الظاهر بيبرس سنة 664 هجرية 1266 ميلادية، قاضي قضاة لكل مذهب من المذاهب الأربعة، فكان شمس الدين عبدالله بن محمد بن عطاء الحنفي وزين الدين عبدالسلام الزواوي المالكي وشمس الدين عبدالرحمن بن الشيخ أبي عمر الحنبلي، فضلاً عن شمس الدين بن خلكان الشافعي، والملاحظ اجتماع ثلاثة من قضاة القضاة لقب كل واحد منهم شمس الدين في زمن واحد، واتفق أن ابن خلكان استناب نائباً عنه لقبه أيضاً شمس الدين.
ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» يرى أنه أضيف إلى ابن خلكان، مع قضاء قضاة الشافعية، نظر الأوقاف والجامع والمارستان وتدريس سبع مدارس: العادية والناصرية والفدراوية والفلكية والركنية والإقبالية والبهنسية، وكان منصب قاضي قضاة الشافعية بدمشق بين ابن خلكان وبين عزالدين بن الصائغ، يعزل هذا ويولي هذا، ثم يعزل هذا فيولي هذا.. ففي سنة 669 هجرية 1270 ميلادية، دخل السلطان الظاهر بيبرس إلى دمشق، وعزل ابن خلكان وكان له في القضاء عشر سنين، وولى مكانه ابن الصائغ وخلع عليه، وسار ابن خلكان إلى مصر.
وفي سنة 677 هجرية 1278 ميلادية، عزل ابن الصائغ من منصبه، وعاد ابن خلكان إلى قضاء قضاة دمشق بعد عزل استمر سبع سنوات، فقدم من مصر ودخل دمشق دخولاً لم يدخله غيره من الحكام، وكان يوماً مشهوداً، خرج الناس فيه للقائه، بتقدمهم نائب السلطنة عزالدين أيدمر وجميع الأمراء والمواكب.
«وفيات الأعيان..»
وكان ابن خلكان بارعاً متفنناً في الأحكام القضائية، عارفاً بالمذهب الشافعي، حسن الفتاوى، بصيراً بالعربية، علامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كثير الاطلاع، حلو المذاكرة، له مجاميع أدبية، وصنف كتاب «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» الذي اشتهر كثيراً، ويبدأ ابن خلكان كتابه هذا بالبسملة وحمد الله والصلاة على النبي محمد وآله وأزواجه، ثم يقول عن سبب تصنيف هذا الكتاب أنه كان مولعاً بالاطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهة وتواريخ وفياتهم وموالدهم، ومن أجل تحقيق هذا الأمر يقول ابن خلكان: «فعمدت إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة المتقنين له ما أجده في كتاب، ولم أزل على ذلك حتى حصل عندي منه مسودات كثيرة في سنين عديدة»، ونعت كتابه بقوله: «هذا مختصر في التاريخ»، ولم يذكر فيه أحداً من الصحابة ولا التابعين والخلفاء، إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثير من الناس إلى معرفة أحوالهم، وبرر عمله هذا بالمصنفات الكثيرة التي وضعت في هذا المجال، وقد وضع الكتاب في القاهرة.
ستر المؤمنين
ومما يدل على حزمه والتثبت في قضائه وحرصه على ستر المؤمنين ما رواه صاحب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب»، أنه جاء رجل لابن خلكان فحدثه في أذنه أن رجلين في مكان يشربان الخمر فقام من مجلسه ودعا برجل وقال: اذهب إلى مكان كذا وأمر من فيه بإصلاح أمرهما وإزالة ما عندهما ثم عاد فجلس مكانه إلى أن علم أن نقيبه قد حضر، فدعا ذلك الرجل وقال: أنا أبعث معك النقيب، فإن كنت صادقاً ضربتهما الحد، وإن كنت كاذباً أشهرتك وقطعت لسانك، وجهز النقيب معه فلم يجدا غير صاحب البيت وليس عنده شيء من ذلك فأحضر الدرة وهدده فشفع النقيب فيه فقبل شفاعته، ثم أحضر له مصحفاً وحلفه ألا يعود إلى قذف عرض مسلم.
وما تذكره المصادر أن ابن خلكان كان كريماً جواداً ممدوحاً، فيه ستر وحلم وعفو، وقد درس بالأمينية إلى أن مات عشية نهار السبت 26 رجب 681 هجرية 1282 ميلادية، وشيعه الناس ودفن بسفح قاسيون، وبعد وفاته تقلد ابن الصائغ قضاء القضاة.