قضاة الأمة.. الأزدي: أول عائلة تولى فيها الأب والابن والحفيد منصب قاضي القضاة في بغداد
الجمعة، 10 مايو 2019 01:00 م
مهمة القاضى من المهام التى اعتنى بها الإسلام والذى كان من جملة ما شملته الفصل في المنازعات، وقطع التشاجر والخصومات، واستيفاء الحقوق ممن مطل، بها وإيصالها إلى مستحقِّيها، والنظر في أموال المحجور عليهم، وإقامة الحدود على مستحقِّيها، وتصفُّح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم.
لذلك كانت مهنة القاضى من المهن التى كان يسعى لها العديد من العائلات المهتمة بالعلم الشرعى وكان على رأسهم عائلة محمد بن يوسف بن يعقوب الازدي، التي تولى فيها الأب والابن والحفيد منصب قاضي قضاة في بغداد في المئة الرابعة للهجرة، أما الأب قاضي القضاة فهو محمد الأزدي المتوفى عام ٣٢٠ هـ، وأما الابن فهو قاضي قضاة بغداد عمر بن محمد الأزدي المتوفى عام 370 هـ، وأما الحفيد فهو قاضي القضاة يوسف بن عمر بن محمد المتوفى عام ٣٥٦ هـ.
وفى تلك الأثناء، كان قاضي القضاة هو المنصب الثالث في الدولة العباسية بعد منصب الخليفة ومنصب الوزير، وهو منصب أول من تولاه في بغداد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري صاحب أبي حنيفة والشخصية الثانية في المذهب الحنفي، وإن كان هنالك منصب اقضى القضاة في بغداد تم استحداثه في المائة الخامسة للهجرة تولاه قاضي بغداد أبو الحسن علي محمد بن حبيب الماوردي المتوفى عام ٤٥٠ هـ، لكنه كان منصبا علميا تشريفيا أكثر من كونه منصبا حكوميا.
ومنصب قاضي القضاة في بغداد لم تتجرأ دول العالم الاسلامي المستقلة عن بغداد تسمية قضاتها بإسم قاضي القضاة، ففي دولة الأندلس كان يسمى قاضي الجماعة، وفي القاهرة وحتى في أيام الدولة الفاطمية لم يستخدموا إسم قاضي القضاة.
وقد تم استحداث هذا المنصب في بغداد زمن الخليفة العباسي الرابع هارون الرشيد وفي الثلث الأخير من المئة الثانية للهجرة، وقاضي القضاة منصب مستقل في أمور القضاء يتولى تعيين القضاة ومراقبتهم والأشراف عليهم وعزلهم، وقد تولى قاضي قضاة بغداد الأول أبو يوسف عن اردية طبقات المجتمع البغدادي باللباس الأسود الخاص بهم و وضع القلنسوة وارتداء الطيلسان.
وفي حالات عديدة امتدت سلطة قاضي القضاة لتشمل الشرطة والحسبة من أمور البلدية والنظر في ديوان المظالم وهذه وظائف تماثل القضاء وظيفة بشكل عام، وإن كانت تختلف في الاجراءات والآثار وهي وظائف أقرب إلى الادارية منها إلى الوجه القانوني للقضاء.
وقد تولى الأب قاضي القضاة محمد بن يوسف هذا المنصب زمن الخليفة المقتدر وبقي في هذا المنصب حتى وفاته بعد ان تولى القضاء في مدينة المنصور، وعدد من المدن التي تحيط ببغداد والجانب الشرقي من بغداد، وكان له حلم وذكاء وتمكن من استيفاء المعاني الكثيرة باللفظ اليسير، وكان حسن التأني في الأحكام وحمل عنه الناس علما واسعا، ولم يرَ الناس في بغداد احسن من مجلسه للحديث، وعمل مسندا كبيرا قرأ اكثره على الناس.
وما يحسب عليه موقفه عند محاكمة شيخ الصوفية الحلاج عام ٣٠٩ هـ، حيث لم يوافق على رأي القاضي الاخر التنوخي الذي طلب عرض التوبة على الحلاج فإن تاب فلا يجوز الحكم عليه وإن لم يتب فإنه يتم عقابه تطبيقا للحكم الوارد في آية المحاربة، إذ ذهب القاضي محمد مع اتجاه الوزير أبو حامد العباس الذي كان مستعجلا في اعدام الحلاج وكان قاضي القضاة أداة بيد الوزير.
أما الابن قاضي القضاة عمر بن محمد فقد تولى القضاء زمن ابيه، حيث كان ينوب عنه، وبعد وفاة والده تولى هذا المنصب حتى وفاته لمده تزيد على ١٧ سنة، عندما كان عمره عشرين عاما.
وكان الابن حافظا للقرآن وعالما بالحلال والحرام والفرائض والكتاب والحساب واللغة والنحو والشعر والاحاديث والاخبار والنسب، وكان فقيها على مذهب الإمام مالك مع معرفته بكثير من الاختلاف بالفقه، وكان البلغاء قد وصفوه والشعراء قد مدحوه ووهبه الله شرف الاخلاق وكرم الاعراق وكان صاحب فهم واصابة ومعرفة ثاقبة، وقد صنف مسندا وقد تم دفنه في دار مجاورة لدار ابيه المدفون فيها.
أما الحفيد يوسف بن عمر فقد ولي القضاء أيضا في بغداد حال حياة ابيه، ذلك أن الخليفة الراضي عندما خرج إلى الموصل اصطحب معه والده قاضي القضاة عمر وأمر باستخلاف الابن، اي استخلاف الحفيد يوسف محل الابن عمر، لما علم بأنه لا احد يجاريه ولا انسان يساويه، وتمت قراءة العهد في جامع الرصافة.
وبعد وفاة الابن خلع الخليفة الراضي على الحفيد وقلده القضاء في بغداد والبصرة و واسط، وكان فطنا جميلا عفيفا متوسط العلم في الفقه، حاذقا بصناعة القضاء، بارعا في الأدب والكتابة واسع العلم باللغة والشعر، امتاز بالنزاهة والعفة حتى وصفه الناس بما لم يصفوا اباه وجده.
واستمر قاضيا على بغداد بأجمعها حتى وفاته، وقد جعله على الكرخ والرصافة، وجعل اخاه الحسين بن عمر قاضيا على مدينة المنصور، وبعد وفاة الخليفة الراضي تم صرفه عن القضاء وولّي بدله القاضي ابن ابي موسى الضرير، وقد توفي عام ٣٥٦ هـ. وهكذا تولى هذا المنصب الاب والابن والحفيد في بغداد.