أبويا محمد وخالي حنا

الخميس، 10 يناير 2019 08:25 م
أبويا محمد وخالي حنا
جمال رشدي يكتب:

سأصحبكم في رحلة، لنعيش بداخلها بضع دقائق ولكن بقيمة بضع قرون من الزمن الجميل أيضاً، في منتصف السبعينيات كنت ابلغ من العمر 7 سنوات، ومن قبلها بقليل من السنوات بدأ والدي يصطحبني معه إلى أرضنا الزراعية التي تسلمها بموجب قانون الإصلاح الزراعي، من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وعلي هذا الأساس أطلق والدي اسم جمال يوم مولدي في شهادة ميلادي.
 
في تمام الساعة الخامسة وبعد صلاة الفجر يستيقظ والدي ومعه أمي وجدي، والجميع يقول اصحي يا جمال النهار طلع يا ابني، والدي يفتح الباب ويرفع وجهة إلي السماء ويقول، يا فتاج يا عليم يا رزاق يا كريم يا رب، افتح لنا باب ما عليه بواب، يذهب والدي إلى البقال (الدكان) يجيب الفول، ووالدتي تدخل إلي حظيرة المواشي لتستحلب المواشي، وجدي يشعل وأبور الجاز(شعلة)، وأنا اجلس بجوار جدي استدفئ علي نار وأبور الجاز.
 
بعدها بقليل تأتي والدتي بالطبلية وتضع عليها الفول واللبن الحليب والطعمية والذبدة والجبنة والعيش البتاو، وأقوم إنا بفرق وتكسير العيش في اللبن الحليب وأضع السكر عليه تلك كانت أكلتي المفضلة، وبراد الشاي علي نار الوابور في نصف ساعة تقريبا ننتهي من الإفطار وشرب الشاي.
 
 ينهض والدي ووالدتي يخرجوا المواشي من الحظيرة، وبكل حيوية يقفز والدي علي الحمار ويمسك بحبال مواشيه، وترفعني أمي لأجلس أمامه، في الطريق إلي أرضنا المشوار يستغرق نصف ساعة أو أكثر، وفي مشهد بديع ما بين مواشي متنوعة ومياه مجاري وترع يكتسيها طمي النيل، وضحكة من القلب تجذب عصافير الصباح.
 
 من خلفنا ومن أمامنا في الطريق، أبويا احمد وخالي حنا هكذا علمني والدي منذ صغري عن أسمائهم بالنسبة لي، نتسامر طوال الطريق حتى نصل إلى أرضنا، يقفز والدي من علي الحمار ويحتضني برفق لكي ينزل بي إلى الأرض، يربط مواشيه ويضع لهم كوم من حشيش البرسيم (الربيع) الذي كان يجهزه من أمس .
ويمسك بالفأس ليداعب زرعه ويتغزل في جماله، كنت أراقب ماذا يفعل فأجده يضع الفأس بكل رفق حول نبت زرعه ليقلع من حوله الحشائش الضارة، ويقلب التربة بكل حنان ليسحب بعض منها حول النبت الصغير لكي يحميه من ركلات الهواء، ويدفئه من برد الليل القارص.
 
المشهد ممتع وكأن أم تحتضن رضيعها علي ثديها وتغذيه من الحنان والحب، وهكذا أنا امسك بفأس صغير (شكرفه) تناسب جسمي النحيف وافعل مثلما يفعل والدي، حول نبت زرعه، في ذلك الصباح ومع إشراق الشمس ورقص الزرع مع موج مياه المجري أو ألترعه وصوت العصافير وصديقنا أبو القردان الذي ينتشر حولنا هنا كانت مصر الحياة والجمال.
 
وفي تمام الساعة التاسعة يطلب مني والدي تجميع بعض من الحطب والقش وتجهيز بلاص أو قله المياه، وبعد إن افعل ما طلبه مني والدي ، وكما علمني أنادي علي أبويا محمد وأبويا عبد الستار وأبويا أنور الذين هم جيرننا في الأرض، لكي نفطر ونشرب الشاي، أقف علي المجري وجسمي النحيف يرتجف من لفحة الهواء البارد، يا أبويا محمد يا أبو عبد الستار يا أبويا أنور يلا علشان نفطر الجميع يقولون حاضر يا جمال يا ابني إحنا جايين.
 
 يأتي الجميع وكل منهم معه منديل عيش  البتاو أو عيش قمح وبداخله الجبن القريش والذبدة والفجل والبصل الأخضر، نفرش كل المناديل علي الأرض في سفرة واحدة، ويختلط عيش خالتي أم محمد مع عيش خالتي أم حنا ونأكل منه جميعاً، وكالعادة نتسامر ونتبادل القشات العفوية وفي الغالب اجلس في أحضان  أبويا محمد أو أبويا عبد لله واكل معه وبعد الانتهاء من الإفطار وشرب الشاي الصعيدي المغلي علي كانون النار والذي كان يهواه والدي ويشتهر به، بعد ذلك يقوم الجميع إلي فأسه وأرضه ومواشيه وأتولى أنا جمع السفرة في منديل واحد فأجمع عيش خالتي أم محمد مع عيش خالتي أم حنا، واعلق المنديل في شجره لكي يأكل منه فيما بعد أي احد عابر طريق، أو من يجوع مننا فيما بعد أو من يستكمل يومه في العمل في الأرض.
 
 هذا المشهد عشت بداخله سنوات طفولتي وكثير من سنوات شبابي، رحل والدي عن عالمنا ومعه أبويا عبد لله وأبويا أنور وأبويا محمد، ورحلت معهم الفأس وصوت العصافير، رحلوا ورحلت معهم مياه طمي النيل ،وجمال نبت الزرع، ولكن ما زلت أعيش في جلبابهم والسفرة التي تجمع مناديلهم، فرغم حياة الترحال التي ما زلت أعيشها، من مدينة إلي مدينة ومن دولة إلي دولة،  ولكن ما  زال منديل خبز خالتي أم حنا وخالتي أم محمد في يدي لكي اطرحه أمام كل عابر طريق.
 
وسأرحل أنا كما رحل والدي وكل أبائي، ولكن سأسلم منديل الخير لابني يوسف لكي يذهب به إلى خالته أم محمد وخالته أم حنا ليطلب منهم خبزهم لكي يطرحه أمام كل عابر طريق أيضا، هنا مصر الحضارة والهوية والإنسانية التي كانت وكائته وستكون.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة