نقطة نظام .. أحاديث الإفك
الجمعة، 23 نوفمبر 2018 04:56 م
لا أحدَ على هذا الكوكبِ يتحدثُ صدقاً. الحقائقُ إما ناقصة أو تائهة أو ضالة أو مغلوطة. كلٌّ منا يسردُ الحقيقة بما يحققُ مصلحته. لا فرقَ بين الحقيقة ووجهة النظر. جميعُنا يرفعُ شعار: "مصلحتك أولاً". الأمرُ ليس استثناءً بل صار قاعدة. أحاديثُ الإفكِ تملأ الأرضَ والفضاءَ، بدءاً من كتب التاريخ، وليس انتهاءً بمنشوراتنا على مواقع التواصل الاجتماعى. الكذبُ هو البضاعة الأكثرُ رواجاً والأعلى سعراً والأقوى مردوداً.
الشخصُ الصادقُ مُتهمٌ دائماً بالغباء وضيق الأفق، أما الكذابُ المنافقُ المراوغُ الماكرُ فموصوفٌ بالدهاء والذكاء الاجتماعى. إذا أعدتَ مؤشرات الزمن إلى الخلفِ، فسوف تكتشفُ أنَّ النظرية السائدة هى: "التاريخُ يكتبه المنتصرون. ومن ثمَّ.. فهو تاريخٌ مُزيفٌ ينقصُه الصدقُ، ويغيبُ عنه الإنصافُ والطهرُ.
يستحيلُ أنْ تجد رواية تاريخية واحدة لواقعة واحدة. الرواياتُ كثيرة ومتداخلة ومُتضاربة. إحداها تُكذِّبُ أخراها. مثلاً.. هناك من يُجزم بأن "صلاح الدين الأيوبى بطلٌ مغوارٌ"، وهناك من يقطع بأنه " لم يكن بطلاً ولا مغواراً". هناك من يُثنى على الملك "فاروق"، وهناك من يقدحُ فيه. هناك من يرفع "عبد الناصر" إلى مصاف الزعماء، وهناك من يخسفُ به الأرضَ. هناك من يرى أن "السادات" هو "رجل الحرب والسلام"، وهناك من يراه خائناً وباع القضية!! هناك من يرى أن "مبارك" كان لصاً وفاسداً، وهناك من يُسبغ عليه طيبَ الوصف. وهناك أيضاً من يعيدُ صناعة تاريخ مُزيف ويجيدُ خلط الأوراق ويتقنُ الكذبَ، حتى يغدو مطلوباَ فضائياَ ويقبض بالدولار، هو يعلمُ أنه يكذبُ، والذين يدفعون له يعلمون أنه يكذبُ، ولكنه يقولُ ما يروقُ لهم ويحققُ أهدافهم. انظرْ مثلاً على صعيد السياسة الداخلية حالياً .. المؤيدونَ يرونَ أن المصريين يعيشون أروع أزمانهم على الإطلاق، فلا فقرَ ولا غلاءَ.
والمعارضون يرون الصورة قاتمة شديدة السواد، فلا مشروعات ولا إنجازات تتمُّ على الأرض. وإذا دققتَ فى الأمر ملياً فلنْ يساورك شكٌ فى أنَّ ما يحكم الفريقين هو المصلحة الشخصية والأفقُ الضِّيقُ ولا شئَ سواهما. عندَك مثلاً.. وسائلُ الإعلام باختلاف أطيافها، كلُّ فريق يكتبُ بما يحققُ له مصلحته السياسية والمادية والمعنوية، ولا عزاءَ للحقيقة. على مواقع التواصل الاجتماعى.. كلُّ شخص يكتبُ بما تمليه عليه مصلحتُه وليس ضميرُه، فلا يجدُ حرجاً فى أن يكتب كذباً، ويقتلُ الحقيقة فى وضح النهار. هناك أشخاصٌ ضجَّتْ من نفاقهم الموائدُ، لا يتركون مائدة دون أن يلتفوا حولها، أولئكَ من يرفعون ألوية الكذب فى كلَّ زمان، يقدِّسون الحاكمَ، فإذا زال مُلكه وذهبَ سلطانه يتحولون إلى سبِّهِ وشتمِه، ثم يعيدون الكَرَّةَ مع الحاكم الجديد. الأمرُ ذاته ينطبقُ على السياسة الدولية.. الدولُ الكبرى تُصدِّرُ للعالم الثالث، قيماً كاذبة عن الحريات والعدالة، ثم تتعاملُ مع ما سواها انطلاقاً من مصلحتها الشخصية فقط وبما يملأ خزائنها ويحققُ مصالح زعمائها وشعوبها. تذكرونَ ما حلَّ بالعراق منذ سنوات، وتتابعون ما يحدثُ مع دُولٍ عربيةٍ أخرى حالياً. الأديانُ لم تبرأ من تلكَ الآفةِ المُزمنة على مر العصور. كلُّ فقيهٍ يقضى ويفتى بما يحققُ مصلحته ويملأ جيوبه ويجعلُه حاضراً فى وسائل الإعلام. أحدُهم اتصل به رئيس تحرير برنامج تليفزيونى لاستضافته، بهدف الحديث عن "مشروعية فوائد البنوك"، فإذا بالرجل المُعمم يسأل المُتصل: "هل تريدوننى أن أقول : حلال، أم حرام..هذا مُتاح وذاك مُتاح، وكم ستدفعونَ؟!" وتلك هى الآليةُ التى رسَّختْ الخلافات والاختلافات والفتن بين أتباع الدين الواحد، وجعلتهم أحزاباً وشيعاً وفرقاً وجماعاتٍ .
أحاديثُ الإفك تجدُ رواجاً واسعاً فى كواليس وقاعات المحاكم. المتهمُ قد يغدو بريئاً، والبرئ قد يصيرُ مُتهماً، بحسب براعة المحامى وقدرته على التدليس ولىِّ عُنق الحقيقة. وفى محاكم الأسرة.. تجدون العُجاب والأساطير، هذا يتهمُ زوجته السابقة بما ليس فيها ليحرمها من حقوقها، وتلك تتهمُ طليقها بما ليس فيه لتنتزع منه ما لا يحقُّ لها. شهودُ الزور على أبواب المحاكم يشهدون بالباطل لمن يدفعُ. منْ المؤكد أيضاً..أنك عندما تكتبُ سيرتك الذاتية للحصول على فرصة عمل، تضفى على نفسك مهاراتٍ وقدراتٍ لا تعلمُ عنها شيئاً.. وأحياناً كثيرة توهمتَ فى نفسِك الإحاطة بكلَّ شئٍ، وأنتَ إلى الجهلِ أقربُ. هل تعلمُ لماذا؟ لأننا سئمنا الصدقَ وكرهنا الحقَ، ووجدنا فى الكذب والتضليل ما نرضى به ذواتِنا المريضة وضمائرنا الهشَّة..وهكذا هى الحياةُ.. أكاذيبُ تصنعُ أكاذيبَ، وأحاديثُ إفكٍ تملأ الأرضَ والفضاءَ.