نعم.. أنا أحد أبناء يناير الغاضبين
السبت، 13 أكتوبر 2018 05:43 م
قبل ستّ سنوات من اليوم كنت أعبد صنمًا اسمه 25 يناير. الآن أوقّرها، وأعرف ما لها وما عليها. لم يعد الصنم أهلاً للعبادة، ولا شركاء صناعته ملائكة مُنزّهين. دائما يكشف الابتعاد عن المشهد أكثر ممّا يكشفه التورّط فيه، وغالبًا يرفض ذوو الغرام الماضوي المقدس أن ينظروا للصورة من زاوية أخرى. يرفضون بالطريقة نفسها التي دفعت سادة قريش لأن يقولوا للنبي محمد «هذا ما وجدنا عليه آباءنا».. الكارثة أن أغلب الآباء لا يستحقّون هذا الوقوف العاجز المُستفز على الأطلال.
أحسب نفسي واحدًا من أبناء 25 يناير، دفعت فيها جهدًا وعرقًا وأحلامًا كنت أرسمها لنفسي، وأحببتُ أن أشاركها مع الناس على عين مصر وفي ساحاتها. لكنّني في الوقت ذاته أحسبُ نفسي على من تحرَّروا من النظرة الطوباوية لهذا العجل المُقدّس. لن نُشفَى ما لم نكُن عالمين بأمراضنا ومُتصالحين معها، ولن نُصبح بشرًا أسوياء ما دمنا نرى أنفسنا ملائكة، ولن نُحقّق أحلامنا طالما رفعناها لسماء لا تطالها أيادينا. ثم من قال إن الأحلام معصومة من الزلل؟! ومن قال إن اجتماع آلاف أو ملايين حولها يكفي لأن يصنع منها هيكلاً مُقدّسًا؟!
مشكلة يناير ليست في خصومها من نظام مبارك، ولا في الإخوان، ولا فيمن يحملون مشاعر سلبية تجاهها من عوام الشعب. مشكلة يناير الأكبر في أبنائها، بعض أبنائها، الذين نصّبُوا أنفسهم أدلَّة ومُرشدين للجميع دون رغبتهم، ونظروا لمحاولاتهم المُتخبّطة وكأنها كتابٌ مُحكَمٌ من لدن عزيز حكيم، وصنعوا عجولاً مُقدّسة من شركاء ورفاق وجيران ميدان، ثم بعدما اكتشفوا أن عجولهم لا عقل لها ولا خوار، وأنها رُبّما تعيثُ في الأرض فسادًا تحت ظلّ الصمت وخلف الأبواب المُغلقة، عزّ عليهم أن يكسروا عجولهم أو يهجروها، وعزّ على عنادهم أن يروا المُنادين يجوبون الآفاق صائحين أنْ هذه العجول ليست مُقدّسة ولا فضل فيها، فتباروا في الدفاع واختصام الجميع، لا لشيء إلا المُكابرة، والعزَّة بالإثم، واستنكاف الإقرار بأنهم كانوا مُغيّبين، وأن فريقًا منهم امتطاهم لمآرب خاصة. كارثة يناير فيمن لم تستوعب ظهورهم حتى الآن أنها كانت مَدَاسًا ومقعدًا، وأن بعض من اعتلوها أهانوا يناير وأبناءها وأنفسهم ومصر بكاملها.. لو تمرّدت الركوبة على الراكب ما قطعنا مشاوير لا قيمة لها ولا طائل من ورائها.
مناسبة هذا الحديث موجة غضب مجاني تفجّرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عقب كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في الندوة التثقيفية التاسعة والعشرين للقوات المسلحة، صباح الخميس الماضي، بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لانتصارات السادس من أكتوبر. في الندوة وقف الرئيس مُتحدّثًا في كلمة ارتجالية غير مُرتّبة مُسبقًا، قارب أمور السياسة والإدارة والعسكرية والاقتصاد، وقال في جملة عابرة وسط حديثه «ما حدث في 2011 كان علاجًا خاطئًا لتشخيصٍ خاطئ».. قالها ومضى في حديثه الذي اهتم بأمور أخرى، لكن لم يمضِ الأمر بالبساطة نفسها لدى بعض أبناء يناير ممّن يقفون على الأطلال، ويُدمنون صناعة العجول وعبادتها.
غضب ثوار السوشيال ميديا من كلمة السيسي العابرة وصنعوا حولها مأتمًا، ولم يتوقّف أحد منهم ليُفكّر أو يبحث أو يُثير الأسئلة ويُفتِّش عن الإجابات. الغضب فقط هو ما يُحسنه أبناء يناير العائشون في متاهتهم، يرون الأمور كملائكة، ويغضبون وتنتفخ أوداجهم كشياطين، وبين الحالتين لا يبدو أن لدى أحد منهم رغبةً في الفهم والدرس والاستيعاب واكتساب الخبرة. لا صوت يعلو فوق صوت الغضب.
هل يحقّ لأبناء يناير أن يغضبوا؟ الإجابة: نعم يحقّ لهم. ونعم أنا أحد أبناء يناير الغاضبين، لكنني لستُ غاضبًا من كلمة السيسي، وإنما غضبي ممن أكلوا علينا وشربوا وتربَّحوا وراكموا المغانم في جيوبهم وحساباتهم البنكية وأفنية منازلهم الخلفية. غضبي ممن انفلتوا انفلات السهم من القوس وتفرَّغوا للاتفاقات والصفقات، ممّن تحدّثوا باسمنا، ووقَّعوا عقودًا بالوكالة عنّا، وفتحوا سوق نخاسة كُنّا بضاعتها وأرخص ما فيها. غضبي من كلاب يناير الذين ساروا معنا في الشوارع وعادوا وحدهم بالغنائم، ولم نكن خارجين بالأساس لغنيمة أو مصلحة شخصية. غضبي ممن غدروا بيناير وقيمها، في وقت ادّعوا فيه أنهم يُمثّلونها ويرفعون رايتها، ثم فوجئنا بهم على الشاشات وفي المقاعد الوثيرة وخلف مقاود السيارات الفارهة وفي رُدهات الفنادق الفاخرة. غضبي من أغنياء الثورة وتُجّار الأوطان ومُتعهِّدي بيع الهواء ومُحترفي الارتقاء فوق الدماء والجماجم والأحلام.
بالفعل كانت يناير علاجًا خاطئًا لتشخيص خاطئ. حينما أقنعونا أن سقوط مبارك نهاية المطاف ثم جلسوا يُرتِّبون الصفوف مع الإخوان. حينما ورّطونا في مُشاجرة مُفتعلة مع الشرطة في محمد محمود وأخلوا الصناديق وطريق البرلمان للجماعة الإرهابية وأعوانها. حينما عصروا الليمون ووقفوا حول محمد مرسي في فندق فيرمونت، وحينما انقلبوا على 30 يونيو سريعًا، وغادروا مواقعهم تاركين ظهورنا للعراء، عندما لم يجدوا في المشهد الآخذ في التشكُّل مَغنمًا ولا فرصة لصفقة أو مكسب جديد.
إن كان لأبناء يناير ثأر فهو عند الإخوان، وعند ائتلاف شباب الثورة الذي اخترقته الجماعة وتاجرت بنا جميعًا من خلاله. عند من ملؤوا الشاشات سفراء ليناير وليس في جعبتهم إلا الجهل والسطحية والركاكة، وعند حزب الكرامة الذي ترشح للبرلمان على قوائم الإخوان، وعند السياسيين والإعلاميين والشخصيات العامة الذين هادنوا الجماعة وقبضوا من كل حدب وصوب. أحزاب ما بعد الثورة التي تلقّت مِنَحًا وتمويلات بمئات آلاف الدولارات من الولايات المتحدة ودول أوروبية. بعض الوجوه البارزة التي تلقّت شيكات ضخمة من قطر ودول إقليمية عدّة. يُسري فودة الذي عاد من صحبة الداعشيين ليتحدّث باسم ثورة مصر وشبابها، مصطفى النجار ذي الهوى الإخواني المُندسّ في صفوف الليبرالية، عمرو حمزاوي الذي بدا وكأنه في مهمة موكلة إليه من كارنيجي أو غيره من المراكز الشبيهة، حازم عبد العظيم شريك الإسرائيليين الباحث عن مقعد في الحكومة، محمد البرادعي الذي ابتزّ عواطفنا وفتح خطوط اتصال مع الإخوان والأمريكان على السواء، دكاكين العمل الحقوقي ومراكز الماركسيين المُموّلة من معاقل الرأسمالية الغربية. وعشرات الشباب متواضعي الوعي والأصل والنشأة الذين عرفوا وجاهة الميديا وجلسات التفاوض وتحويلات اليورو والدولار وتسعيرة القنوات الأجنبية والسيارات والفنادق والشقق التمليك وساعات روليكس وحسابات البنوك ودعوات المنتديات والجمعيات الدولية بعدما صدّرناهم، أو صدّروا أنفسهم رغمًا عنا، ليصبحوا مُتحدّثين باسم يناير، وهم ليسوا إلا تُجّارًا وسماسرة و«باحثين عن سبّوبة». كانت الوضاعة بادية في كل خُطوة وموقف، وكُنّا وحدنا أغبياء مطموسي البصر، فلم نرَ الشياطين ترعى في حقولنا، وتُفسد علينا زرعتنا.
أؤمن تمامًا أن التعميم مفسدة. لكنني ألتفت إلى الوراء لأُحصي مواقف نجوم الثورة ومن امتطوا صهوتَها، فأكتشف أن التعميم رُبّما يكون عين الحق والصواب. لكن رغم هذا ليست المشكلة في أنّ كل من اعتلوا سَرج الثورة وقبضوا على لجامها كانوا أفّاقين وانتهازيّين وذوي مصالح خاصة. المُشكلة الأكبر أن ملح الأرض ومن ساروا إلى الميادين حُفاة عراة - إلا من أحلامهم وشعورهم الوطني الجارف - يقفون حائلاً بين النقد ومن يستحقّونه، يصنعون سَدًّا عاليًا يُحصِّن تُجّار الثورة والمُنقلبين عليها من أبنائها، ويُمارسون إرهابًا مفتوحًا تجاه كل من يُحاول مُقاربة الحدث وصانعيه بالفرز والتحليل، إرهابًا مُزعجًا حتى لو ظلّ افتراضيًّا وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، لأنه يردع آخرين من داخل حظيرة يناير وخارجها عن التعمُّق في المشهد واستكشاف تفاصيله وآفاته. يُبقي على هالة القداسة «غير المُستحقّة» حول وجوهٍ بدت عليها النعمة، وبدت البغضاء من أفواهها، وانتفخت أشداقها واحمرّت خدودها وأضاءت ملامحها، من حصيلة ما كسبوه قبل أن يرتدُّوا على أعقابهم، أو يبيعوا الثورة لأعدائها ويُسلّموا كل ما انتزعته الحناجر الصارخة لخزائن الإخوان، أو للمُموّلين في الجوار وخلف البحار. غشومية بعض أبناء يناير تصنع ستارًا رماديًّا يحجب الرؤية ويُواري سوءة النجوم الذين تلاعبوا بالجميع، وفسادهم وانتهازيتهم، وحقيقة أنهم لعبوا المباراة لصالحهم لا صالح الوطن والناس. وكأنها لُعبة توزيع أدوار، رُبّما يفعلها البعض بوعيٍ وقَصد، لكن المؤكّد أن الأغلبية يُساقون إليها بسذاجة وافتعال وتوجيه.
في كلمته التي هيّجت ثوار السوشيال ميديا من عَبَدة العجول المُقدّسة، لم يقدح السيسي في ثورة 25 يناير. في لقاءات سابقة تحدّث عنها بوصف «الثورة»، ومن غير المنطقي أن يهين رئيس مصر المُستند لشرعية 25 يناير و30 يونيو هاتين الثورتين الفارقتين، أو الدستور الذي ينصّ عليها صراحة في ديباجته. جملة الرئيس كانت واضحة «ما حدث في 2011».. وتحت هذه الجملة يندرج استفتاء 19 مارس وجُمعة الشريعة وأحداث محمد محمود وانتخابات مجلسي الشعب والشورى. ولا يُمكن أن ينفي عاقل من أبناء يناير أو غيرهم أن هذه الأحداث كانت مسامير في نعش الثورة، ودرجات صاعدة في سُلّم استيلاء الإخوان على الحكم، الذي اكتمل باختطافهم البلاد سنة كاملة بين دخول محمد مرسي قصر الاتحادية في يونيو 2012 وطرده منه برغبة شعبية عارمة في يونيو 2013. هذه السنة السوداء وما سبقها وتزامن معها وتلاها، من إعلان دستوري، وبلطجة، ومذابح في الشوارع وأمام القصر الجمهوري، واعتداءات على الكنائس والمنشآت العامة والأكمنة الأمنية، كانت كلها حصيلة ما حدث في 2011، وكلها كانت علاجًا خاطئًا لتشخيصٍ خاطئ. الصورة الآن واضحة لمن أراد أن يرى أو يفهم، لكن ما زال الهوى يتسيّد المشهد ويقود العجول المُقدّسة وتابعيها من ثوار السوشيال ميديا مُنتفخي الأوداج دون منطق أو عقل.
الهوى نفسه كان سببًا في اقتطاع جملة أخرى من كلمة السيسي والذهاب بها في مسار غير ما أراده الرئيس من حديثه. عندما أشار إلى فارق التسليح والتجهيز الذي كان في صالح إسرائيل قبل الحرب، وامتدح بسالة جنود مصر ضاربًا المثال بشخص يقود سيارة «سيات» مُتفوّقًا على آخر يقود «مرسيدس». كثير من الصحافة الغربية اليمينية الداعمة لتل أبيب رأت الأمر استعراضًا للقوة وتهديدًا لإسرائيل، ورأت مصادر أخرى، منها وكالتا رويترز وأسوشيتدبرس ومجلة فورين بوليسي وصحيفة هيرالد تريبيون، أنه ليس تهديدًا وإنما هو تحذير وإشارة لتغيُّر المعادلة عمّا كانت عليه في 1973، وتنامي قدرة الجيش المصري ليُصبح قادرًا الآن على المواجهة وحسم أي صراع وردع أي تهديد. لكن في الوقت الذي رأت الصحافة الغربية الخطاب تعبيرًا عن القوة والقدرة، قاد الهوى ثوّار السوشيال ميديا لاختلاق تفسيرات له بأنه تقليل من جيش مصر وقدراته. بالتأكيد كانوا يلحظون أن المثال المضروب تحدّث عن فروق السيارتين/ التسليح والتجهيز، وحفظ حقّ السائق المتفوِّق/ القادة والجنود. لكن الهوى زيّن للناس ما يُرضي انحيازهم، فوضعوا أياديهم على عيونهم، وإنما تعمى القلوب التي في الصدور، وواصلوا مسار الفرز على الهوية تحت راية الانتماء لفُسطاط الحق الذي لا يشوبه سوء ولا فساد، فسطاط يناير الذي جَنَت عليه عُجوله المُقدّسة، وعقوله التابعة، وجنوا جميعًا على الثورة والوطن.
فليغضب أبناء يناير إن كانوا يرون أن الغضب يُصلح الأخطاء ويجبر الكسور ويُعالج الجروح والتقيُّحات. لكن عليهم أن يغضبوا ممّن يستحقّون الغضب، أن يُوجِّهوا سهامهم في الاتجاه الذي يتعيَّن أن تقصده. إذا كانت الطعنات القاتلة قد طالت الثورة وأبناءها من الأصدقاء ورفقاء الميدان، فلا معنى للثأر ممّن لم يكونوا أطرافًا في الخسارة. سواء أبناء يناير الذين استفاقوا من غفوتهم، أو مؤسسات الدولة التي فُعلت بها الأفاعيل من الجميع، أو عموم الناس ممّن يسبّون الثورة وفاعليها ويرون أننا «خربنا البلد وكان يوم اسود يوم ما نزلنا».. اغضبوا ممّن ركبوا ظهوركم وغمّوا عيونكم وساقوكم إلى الهاوية. اغضبوا الآن بنزع اللجام وإزاحة الوهم عن كواهلكم، واغضبوا بالكُفر بآلهتكم المصنوعة من كذب وضلال، بالعجول المُقدّسة التي تفنَّنتُم في نحتها وتوهَّمتُم أن فيها قبضةً من أثر الرسول. نعم، لكم حقّ الغضب. ولنا حقّ الغضب العاقل من الغضب الأهوج. ونعم أنا أحد أبناء يناير الغاضبين، لكنني غاضب منكم ومنهم وممّا تصطنعون من آلهة موهومة وقداسة زائفة، من المُكابرة والجهل والتعامي عن الدروس والحقائق.. غاضب من لصوص يناير الذين يرفعون رايتها، ومن «الناضورجية» الذين يُصرّون على اختطاف الزمن والحقيقة وأدلّة الإدانة؛ ليُحافظوا على عجولهم المُقدّسة برّاقة ولامعة، ويتبجّحون في وجوهنا لأننا نُفكّر ونسأل ونُعلِّق جرائمنا في رقاب أصحابها، ونستنكفُ أن نسجد معهم. نعم أنا أحد أبناء يناير الغاضبين من كهنة يناير وعبيدها.