العيان والميت.. أو يسري فودة ودكاكين حقوق الإنسان
الأحد، 16 سبتمبر 2018 02:03 م
جلس أمام رمزي بن الشيبة وخالد شيخ محمد، واضعًا أمامه مِنفضةً وعلبة سجائر. واستكمل المشهد بالحديث عن الحميمية والأجواء اللطيفة، وعن الشابين الهادئين اللذين كانا يوقظانه ويتسابقان معه في الوضوء وصلاة الفجر، وعن سعة صدريهما حينما سمحا له بالتدخين قبالتهما، باعتباره لا يشكّ في حُرمة تعاطي التبغ، ولهذا فإن الأمر لا يعدو كونه ذنبًا عارضًا سيتوب الله عليه منه اليوم أو غدًا.
كان واضحًا للغاية أن يسري فودة يتبنّى خطاب القاعدة والمُتّهمَين الأساسيَّين في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. والمفارقة في الأمر أن اللقاء الذي أُذيع في برنامج "سري للغاية" على شاشة قناة الجزيرة القطرية، جرى الإعداد له بمعرفة التنظيم نفسه، ووقع الاختيار على "فودة" ليكون النافذة التي يُطل منها ابن الشيبة وشيخ محمد. لم يكن الأمر ذكاءً زائدًا أو قدرات مهنية استثنائية، قدر ما كان حصيلة تحرّكات سابقة توفّرت لها مساندة ودعم من أجهزة ومؤسسات عدّة، أظهرت يسري فودة في صورة الصديق الآمن والرجل مأمون الجانب للتنظيم الإرهابي وقادته.
جرى اللقاء في كراتشي الباكستانية، وكانت المفاجأة أن تنجح الأجهزة الأمنية في إلقاء القبض على رمزي بن الشيبة وخالد شيخ محمد بعد أسابيع من لقائهما مع يسري فودة. تُشير المعلومات المتوفرة إلى أن "فودة" أنهى اللقاء وسافر من باكستان إلى الدوحة مباشرة، هناك التقى الأمير القطري حمد بن خليفة قبل تسليم المادة المصوّرة لفريق البرنامج في الجزيرة، ومن حصيلة المعلومات التي عرضها الإعلامي على الأمير، وصلت رسالة شاملة للاستخبارات المركزية الأمريكية CIA قادت لاحقًا لإلقاء القبض على الشابين البارزين في تنظيم القاعدة.
كان يسري فودة وقتها ملء السمع والبصر. لاحقته اتهامات واضحة بالإبلاغ عن مَصدَرَيه بعدما قدّم لهما التزامًا مهنيًّا بعدم الإفصاح عن أية معلومات تخص مكان الاختباء وطبيعة تحرّكاتهما. وحاول على مدى سنوات تالية نفي التهمة بكل الصور، وحتى الآن ما زالت هذه الواقعة أبرز الأمور التي تثير ضيقه، خاصة أنها تصطدم اصطدامًا مباشرًا بصورة الإعلامي المهني والموضوعي التي يحاول تسويقها عن نفسه. اليوم يعود "فودة" للواجهة مرة أخرى، وبحدثٍ آخر ضاربٍ للصورة المثالية التي يجتهد في الظهور بها، وبداعمين كُثر، يبدو أن فكرة سقوط هذه الصورة تؤثر عليهم وتضرب مصالحهم بشكل مباشر.
في الشهور الماضية، ومع موجة التدوين عبر هاشتاج (Mee Too) على خلفية اتهام المنتج الأمريكي هارفي وانستين، والنجم كيفن سبايسي، بالتورط في وقائع تحرش جنسي بفنانات ونجمات في هوليود. أخذت شبكة دويتش فيله المملوكة للحكومة الألمانية ووثيقة الصلة بدائرة الاستخبارات الاتحادية BND خطوة جادة في التعامل مع وقائع التحرّش المُحتملة. جمعت إدارة الشبكة الموظفات العاملات لديها في حلقات نقاش، وتعاقدت مع مُحامين من خارج المؤسسة، بغرض تشجيع النساء على الإدلاء بشهاداتهن حول وقائع التحرش الجنسي التي تعرضن لها في بيئة العمل. أسفر الأمر عن توجيه ثلاث شكاوى فردية من ثلاث سيدات (مغربية ومصرية ويمنية) بالتعرض للتحرّش والاستغلال الجنسي في بيئة العمل من الإعلامي المصري يسري فودة. كانت إحدى هذه الشكاوى جدية وصادمة للدرجة التي أجبرت إدارة الشبكة على اتخاذ إجراء جاد بشأنها.
كان يسري فودة قد تعاقد مع دويتش فيله لتقديم برنامج تليفزيوني وكتابة مقال أسبوعي عبر الخدمة العربية للشبكة. وقّع الطرفان التعاقد في يونيو 2016 خلال فعاليات منتدى الإعلام بمدينة بون، وتضمّنت التفاصيل حصول فودة على 250 ألف يورو سنويًّا في تعاقد مدته ثلاث سنوات تنتهي في يونيو 2019. وعقب تأكد الشبكة من جدية اتهامات التحرش قرّرت إنهاء عمل "فودة" قبل موعده بسنة كاملة، لكنها استجابت لطلبه بالإبقاء على فريقه المصري حتى نهاية مدّة التعاقد.
في أروقة الشبكة شعر فريق من العاملين المغاربة أن هناك اتجاهًا لتسوية القضية والاكتفاء بفصل فودة، يرعاه الفلسطيني ناصر شرّوف الذي يتولى إدارة القسم العربي، وفي ضوء هذه المخاوف، إضافة إلى صراعات بين اللوبي المغربي والمدير الفلسطيني، سرّب بعض العاملين تفاصيل القضية والتوترات الداخلية، لكنهم صرّحوا باسمي المصرية "و. ب"، واليمنية "ط" المتدرّبة التي أنهت الشبكة تدريبها مع تفجّر الأزمة، وفي الوقت نفسه تكتّموا على اسم الفتاة المغربية.
حتى هذه النقطة كان يمكن أن ينتهي الأمر، لكن الإعلامي المفصول قرّر المناورة حفاظًا على صورته المثالية المُدّعاة. خرج في منشور عبر صفحته على "فيس بوك" ينفي فيه الأمر برمّته، طالبًا ممن لديه شكوك أن يتّجه لإدارة دويتش فيله للتأكد. في اليوم التالي سأل عشرات الصحفيين المصريين إدارة الشبكة الألمانية بالفعل، وجاء الرد مُقتضَبًا على لسان المتحدث الرسمي كريستوف جيمبلت، مفاده أن يسري فودة رحل عن الشبكة بعد سنتين من التعاون، وأن دويتش فيله لا تُعلّق على مسائل شخصية. كان الأمر أقرب إلى تأكيد خفيّ للواقعة، إضافة لكونه رسالة ضمنية لـ"فودة" نفسه مفادها "لا تضعنا طرفًا في معادلة بحثك عن البراءة، لأننا لن نُبرّئك".
التطوّرات السابقة شجّعت فتاة مصرية مقيمة في السويد، اسمها داليا الفغال، على الإدلاء بشهادتها حول واقعة شبيهة حدثت في سبتمبر 2016، بعد استقرار يسري فودة في ألمانيا بعدة شهور. ملخص الواقعة حسب رواية داليا أن فودة تواصل معها قبل ذلك بفترة عبر "فيس بوك" وامتدح مواد الفيديو التي تنتجها، وعرض عليها توفير فرصة عمل لها في دويتش فيله، ولاحقًا حجز لها تذكرة طيران "ذهاب وعودة" من السويد لألمانيا، وأكّد لها حجز فندق للإقامة في برلين، لكنها عندما وصلت واستقبلها في المطار فوجئت به يصطحبها إلى منزله، وتطوّر الأمر إلى التحرّش اللفظي والجسدي والدعوة لممارسة الجنس، قبل أن تضطر الفتاة لمغادرة المنزل هروبًا من الحصار والاستغلال، في وقت لا تملك فيه المال ولا يتوفّر لديها مكان للإقامة في ألمانيا.
إعلان الواقعة مثّل صدمة كبيرة في الدوائر الإعلامية والسياسية المصرية، انقسمت مواقع التواصل الاجتماعي على أثرها فريقين: الأول يؤكد الأمر تأسيسًا على معلومات من داخل دويتش فيله وعلى قصص شبيهة ترتبط باسم يسري فودة في مصر وبريطانيا، والثاني يُدافع عنه دفاعًا مُستميتًا ويحاول تصوير الأمر باعتباره استهدافًا سياسيًّا. التبرير نفسه اعتمده يسري فودة في منشور آخر عبر صفحته، حاول فيه تصوير الأمر باعتباره حربًا موجّهة ضده، ومع تصاعد الهجوم والدفاع، ومواصلة "فودة" مناورته، أصدرت دويتش فيله بيانًا داخليًّا - نشرته وكالة الأنباء الألمانية DPA بأربع لغات وتداولته كل المواقع الناطقة بالألمانية في ألمانيا والنمسا ووكالة أسوشيتدبرس وصحيفة نيويورك تايمز - أشارت فيه إلى تلقيها شكاوى "ذات مصداقية" بحق إعلامي كان يعمل لديها، وقالت مدير عام الشبكة بيتر ليمبورج إن دويتش فيله لا تستطيع الإفصاح عن تفاصيل الأمر لأسباب قضائية.
تسلسل الوقائع وردود دويتش فيله وصل بالأمر إلى محطة التأكيد. وخلال الأيام الثلاثة الأخيرة صمت يسري فودة تمامًا - لعله يُفتّش الآن عن وسيلة أخرى للمناورة - لكن موجة الدفاع المحموم عنه داخل مصر لم تتوقف. انطلق عشرات من الناشطين السياسيين والحقوقيين في حملة موسّعة للدفاع عن "فودة" ومحاولة تسويق الأمر باعتباره استهدافًا مصنوعًا. دخل على هذا الخط الدبلوماسي والكاتب "ع. ف" الذي حوّل حسابيه على تويتر وفيس بوك منصّة دائمة لتبرئة يسري واستدرار التعاطف معه. وفي تصرّف يشبه حملات طرق الأبواب بدأ المحاميان البارزان "ج. ع" و"ن. ب" التواصل مع عشرات من الناشطين والوجوه البارزة عبر مواقع التواصل ممن ينتقدون فودة. الأمر نفسه فعله المحامي "خ. ع" صاحب واحدة من وقائع التحرّش الشهيرة في الشهور الأخيرة. حسبما أكّد مقربون من الثلاثة، ووصل الأمر بأحد الحقوقيين "م. ع" لترويج شائعة عن داليا الفغال أنها "مسجلة آداب" في ملفات وزارة الداخلية. في تصرّف يستهدف بالأساس وصم الضحية لإنهاء القضية بطريقة غير أخلاقية، وهو الشخص نفسه الذي ورد اسمه في فضيحة التحرّش داخل أحد المراكز الحقوقية وحزب سياسي تحت التأسيس، ويهاجم المثليين رغم حصول المراكز التي يتعامل معها على تمويلات خارجية لصالح برامج دعم المثليين.
في واقعة التحرّش داخل المركز الحقوقي انبرى اليساريون للدفاع عن "خ. ع" وشلّته، ومنهم "م. ع" و"م. ب". بدافع الانتماء السياسي والشراكة الأيديولوجية والمصالح الواحدة في التمويلات الخارجية. لكن في واقعة يسري فودة يبدو الأمر غريبًا، فالأخير يُسوّق نفسه باعتباره ليبراليًّا، بينما يبدو خطابه منحازًا لليمين الديني والجماعات الإسلامية المتطرفة، ولا يمكن القبض على رابط بين مصالح دكاكين حقوق الإنسان وهدف تبرئة "فودة"، اللهم إلا تسييس القضايا بنظرية المعارضة والموالاة، أو أن يكون يسري فودة وسيطًا لدى المؤسسات الدولية والمنظمات المانحة لتوفير التمويل لهذه المراكز والجمعيات!
المُتتبّع لرحلة يسري فودة العملية سيتوقف أمام محطات لا يمكن تجاهلها، بدءًا من عمله مع مؤسسة فريدريش ناومان في القاهرة (أسّسها تيودور هيوس مؤسِّس دويتش فيله وأول رؤساء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وترتبط بالحزب الديمقراطي الحرّ) ثم انتقاله إلى هيئة الإذاعة البريطانية BBC، ومنها إلى شبكة الجزيرة القطرية، التي كانت نواة قسم عربي يتبع هيئة الإذاعة البريطانية قبل أن تقرّر بيعه لقطر. ولقاءاته مع عناصر وقيادات تنظيم القاعدة، ثم عبوره الحدود السورية العراقية في العام 2003 مع أبي بكر البغدادي ونواة تنظيم الدولة في العراق، الذي تحوّل لاحقًا إلى تنظيم الدولة في العراق والشام "داعش". وزيارته لإسرائيل عشرات المرّات ولقائه أكاديميين وضبّاطًا في الجيش الإسرائيلي وعناصر في الموساد (جانب من هذه اللقاءات جرى خلال تصوير حلقة الطريق إلى عتليت) وصولاً إلى استضافته عناصر من العائدين من سوريا في برنامجه المصري "آخر كلام" وتبنّيه خطابًا يبدو محايدًا تجاه هذه الممارسات، وانحيازه لجماعة الإخوان الإرهابية في الشهور الأولى عقب ثورة يناير وصولاً إلى سيطرتها على مقاليد السلطة.
من المعلومات المؤكدة أن "فودة" كان وسيطًا للإخوان وقناة اتصال مفتوحة للجماعة عقب ثورة يناير. بينما يتداول الوسط الصحفي وقائع عديدة منسوبة له تتضمّن التحرّش بزميلات في القناة التي عمل بها، وفي الصحف التي كان يزورها خلال وجوده في مصر، وتتّسع الحكايات لتطال شقة المعادي، وحادث السير على طريق الغردقة في العام 2013.
سواء كان يسري فودة متحرّشًا أم لا فإن أمر الشكاوى والتحقيقات والفصل من العمل حقيقي تمامًا، وما زال الملف مفتوحًا داخل دويتش فيله. شخصيًّا لن أنحاز إلى معلوماتي الموثّقة عن كثير من الوقائع الشبيهة في مصر ولندن وشقة المعادي وفتاة الليل على طريق الغردقة، سأعتبر كل هذه الأمور من قبيل النميمة المُسلّية التي لا تكفي للحكم على شخص أو تقييم ممارساته ومدى التوافق بين حقيقته والصورة التي يدّعيها لنفسه. لكن يُفترض على الجانب الآخر أن يتحلّى داعمو الإعلامي الشهير، وطيد الصلة بالقاعدة وداعش وبأجهزة ومؤسسات أمنية عدّة، بقدر من الاحترام والعقل، وأن يتوقّفوا عن الدفاع المحموم الذي لا يقوم على ساق ولا معلومة، وعن تشويه الضحايا والناجيات من براثن الأستاذ انتصارًا لصداقة قديمة أو رؤية سياسية أو شيك مالي. على بعض الحقوقيين الذين لا يُفوّتون فرصة للتعبير عن سفالتهم وانحطاطهم، أن يتخلّوا قليلاً عن هذا الانحطاط، على الأقل حتى لا تصل صورتهم المُشينة للمُموّلين الذي يفتحون لهم بيوتهم ويُؤمّنون وقود سياراتهم وتكاليف رحلاتهم وسهراتهم المفتوحة جدًّا. قدر من التعقّل لن يُعيد الاحترام لمن فقدوه بالتأكيد، لكنه سيُبقي على مكاسبهم، حتى لا يكون السقوط مجانيًّا تمامًا.
إذا ثبتت وقائع التحرّش المذكورة كلها بحق يسري فودة فلن يكون الأمر مفاجئًا بالنسبة لي شخصيًّا. بالضبط كما أن ممارسات الحقوقيين المصريين وتافهي اليسار ليست مفاجئة أيضًا. فمنذ يناير 2011 لا عمل لدينا إلا اكتشاف سفالات السافلين، وانحطاط المُنحطّين، وفواتير القيم والشعارات التي يُترجمها الأفّاقون بيوتًا وسيارات ورحلات وسهرات حمراء.