السوشيال ميديا.. جهالة واضحة وعداء مستتر
الجمعة، 13 يوليو 2018 12:59 م
جلس مارك زوكربيرج، مؤسس «فيس بوك» والمدير التنفيذي للشركة العملاقة، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، في جلسة استماع على خلفية فضيحة تسريب بيانات ملايين المستخدمين لشركة كامبريدج أنالتيكا، مدّعيا أنه منصة نشر ذات طبيعة صحفية، وليس شركة تقنية، لتحويل مسؤوليته إلى المحتوى المنشور وتجنب المسؤولية عن البيانات وإجراءات الأمان.
في وقت تال، وقف فريق من محاميّ الموقع الشهير أمام إحدى المحاكم الأمريكية، يترافعون في قضية تخص بث محتوى يحرض على الكراهية ويتضمن استغلالا جنسيا، مدعين أن «فيس بوك» شركة تقنية وليس منصة نشر، ومن ثمّ فإنه مسؤول عن الدعم الفني وليس مسؤولا عن المحتوى.
هكذا بمناورة بسيطة نجح مارك ورجاله في الهروب من كل شيء، المسؤولية التقنية وضمان أمن المستخدمين، ومسؤولية المحتوى المنشور عبر المنصة الأوسع انتشارا في العالم، وما تتضمنه من انتهاك للقانون وممارسات عدائية تجاه المجتمع، وبين المناورة والتهرب من الاتهامين، ضاعت حقوق ملايين المستخدمين الذين أُفشيت أسرارهم، وحقوق ملايين آخرين ممن تأثروا بفوضى المحتوى غير المنضبط وما يتضمنه من قيم سلبية وانتهاكات مباشرة للقوانين والأعراف الإنسانية.
في مصر يبدو أننا نواجه 100 مليون مارك زوكربيرج للأسف، يتعاملون مع السوشيال ميديا بمنتهى اللا مبالاة، ويتهربون من أي التزام أو مسؤولية، قانونية أو أدبية، وبينما يُواصلون ممارساتهم الشائنة في حق الجميع، وفي حق أنفسهم، لا يمثلون أمام برلمان أو محكمة، وللأسف لا يردعهم وازع ولا يردّهم عن غيّهم قانون.
أصبح من المعتاد أن تجد قطعانا تقتفي أثر قطعان على مواقع التواصل الاجتماعي، تتدحرج الشائعات فيما بينها ككرات الثلج، كلما دارت تضخمت والتصقت بها قطعان جديدة، لا يفكر أحدها في التوقف والتدبر، أو البحث والتثبت، أو التمهل حتى تنكشف الحقيقة أو تتوفر معلومة موثقة، والأفدح أنهم جميعا يتعاملون مع شائعاتهم التي يُعاد تحويرها وإنتاجها لحظيا، باعتبارها حقائق نهائية مؤكدة، هكذا بيقين جاهل يرتضي الجهل دينًا وقِبلة، أو غشومية واندفاع ثور خارج من «زريبة» مُظلمة إلى حلبة مصارعة محفوفة باللون الأحمر.. وبدفع من طاقة الجهل والغشومية لا يفكر أي منهم في آثار وانعكاسات ما يلوكه من أكاذيب وروايات ملفقة، وحجم جنايته المحتملة على واقع وبلد وشعب كامل، سياسيا واجتماعا واقتصاديا.
مساء أمس الخميس فوجئ سكان منطقة شرقي القاهرة بأصوات انفجارات مدوية، فاندفع بعضهم مدوّنين رواياتهم للحدث عبر صفحاتهم الشخصية، ومع توالي الإشارات، وتعدّد المشيرين، وتطوع عواطلية السوشيال ميديا بالشرح والتفسير وإكمال الصورة - غير الواضحة أصلا وقتها - أصبحنا في غضون دقائق أمام عشرات الروايات المتضاربة.
ربما لم تكن سيارات الإطفاء قد وصلت لموقع الانفجار بعد، ولم يعاين المعنيّون مسرح الواقعة، لكن خبراء «زريبة السوشيال ميديا» كانوا قد وصلوا إلى عمق الموضوع و«زيتونته ولغاليغه» وأكملوا مهمتهم المقدسة في التلفيق والادعاء و«الهري». فجأة أصبحنا أمام عشرات التفسيرات للحادث: انفجار طائرة في الجو، انفجار مصنع حربي، تفجير في أكاديمية الشرطة، احتراق محطة وقود على الطريق الدائري، احتراق محطة وقود في النزهة، انفجار طائرة على أحد ممرات الهبوط، انفجار خزانات تابعة للقوات المسلحة، عمل إرهابي ضد المطار، انفجار خزان الوقود الرئيسي للمطار، تفجير في صالة رقم 3، وسقوط طائرة فوق أحد الخزانات أو إحدى محطات الوقود، وغيرها من الروايات المفرطة في تطرفها.
عشرات التلفيقات بزغت وانتشرت وتوسّعت، وتبادلها ناشطو «زريبة السوشيال ميديا» ككرة الثلج، دون معلومة أو دليل. عشرات الادعاءات والشائعات لتفسير حادثة واحدة، يستحيل أن تقف وراءها كل هذه الأسباب، وهو ما يكفي لنسف كل هذه الروايات بالطبع، لكن الأهم أنه يُوجب دق ناقوس الخطر، والتوقف الجاد مع حالة الانفلات الشنيعة التي يرتع فيها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، كما يرتع الثور الهائج إيّاه في حلبة المصارعة، أو في حقل برسيم.
حالة مدهشة من البجاحة وانعدام اللياقة والمسؤولية تسيطر على فضاء «السوشيال ميديا» في مصر، وانفلات مزعج يتأسَّس على جهل أو سوء نيّة، لكنه في الحالتين يستند في فجاجته واستمرائه لهذه الحالة إلى القصور القانوني فيما يخص ضبط هذا المناخ، وإلى يقين ضمني يُعبّئ صدور كل هذه الثيران الهائجة، في أنهم سينجون بشائعاتهم مهما بلغ مداها وتضخّم أثرها الفادح، وأن يد القانون قصيرة وعاجزة عن مواجهة هذه الجهالة والأهواء.
كان طبيعيًّا وسط هذا المناخ المُنفلت، أن تتواتر البيانات والمعلومات الرسمية دون أن تلقى اهتمامًا من ساكني «الزريبة»، فقد اكتفوا بشائعاتهم ومصارعتهم المحتدمة وسباقهم المشتعل لابتكار مزيد من التخريجات المجانية. كانت البيانات تتدفق بينما المُضلِّلون والمُضلَّلون يمضغون الأكاذيب بيقين وإصرار، وكأنهم في معركة مباشرة مع المعلومة الموثقة، في خصومة عنيفة مع العقل، وفي عداء مباشر مع الدولة ومؤسساتها.
لم يرتدع أي من كائنات «الزريبة» عن نطح حائط الأكاذيب، والتوقف الجاد أمام ما أوردته البيانات الرسمية من معلومات، على لسان وزير الطيران المدني أو بيان متحدث القوات المسلحة، أو عبر تصريحات لمسؤولين بوزارة الطيران المدني أو شهود عيان من المارة وسكان المناطق القريبة والعاملين بالمطار والمسافرين أيضا، مؤكدين أن الاحتدام والارتباك وفوضى الدقائق الأولى لم تكن محاولات صادقة ومخلصة للبحث عن معلومة، وإنما كانت سَيرًا مُباشرًا - مع سبق الإصرار والترصُّد - باتجاه الكذب والتدليس والتضليل والشحن العام وإشاعة البلبلة، والتشفّي والشماتة أيضا للأسف، كأنهم يتداولون في مصيبة بلد آخر، أو كأن شعبًا عدوًّا يُطل على مصر من ثقب توهماته ونواياه السيئة.
لاحقا كشفت البيانات أن الانفجار وقع في خزانين تابعين لشركة هليوبوليس للبتروكيماويات، بفعل الحرارة وآثار التفاعلات الكيميائية، وأن سيارات الإطفاء سيطرت على الأمر في غضون ساعتين تقريبا، ونقلت سيارات الإسعاف اثني عشر مصابا للمستشفيات، وأن حركة الملاحة في مطار القاهرة تسير بشكل طبيعي، ولم تتوقف جزئيًّا أو كليًّا كما أشاع أهل «الهري المقدس». المحصلة الأخيرة أن «السوشيال ميديا» لم تتداول معلومة واحدة صحيحة، وكل ما لاكته الألسن وتناقلته الحسابات لا أساس له ولا ظل من الحقيقة.
المؤسف أن كثيرًا من المغالطات تردّدت عبر صفحات وحسابات عشرات الزملاء من الصحفيين والإعلاميين، بين ادّعاء أن الانفجار وقع داخل المطار، ثم تعديل الموقع لمحطة وقود بجانب سور المطار، والحديث عن وقوع عشرات القتلى والمصابين، وادعاء تعليق الملاحة الجوية في المطار بشكل كامل، ثم تعديل الأمر إلى التعليق الجزئي، وظلّت عشرات الروايات المهتزّة والمتضاربة تتدفق على صفحات الزملاء دون تثبُّت، دون حياء، ودون احترام للقواعد والأعراف المهنية التي تُلزم بنسبة المعلومة لمصدرها الطبيعي (المَعنِي المباشر بالحدث أو أحد الشركاء فيه أو الشهود عليه)، والتتبُّع الجاد للتحقّق منها ومن صدق المصدر، والتروّي في الأمور التي تمسّ الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية العليا للبلاد. كل هذا جرى تجاهله من صحفيين وإعلاميين محترفين، كما تجاهلته قطعان «زريبة السوشيال»، ولم يسأل أحدٌ نفسه عن حجم الأضرار التي قد يتسبّب فيها، أو عن الأثر الفادح لانفجار الأكاذيب والاختلاقات، الذي قد يفوق - بل بالتأكيد سيفوق - الأثر الحقيقي لانفجار شركة البتروكيماويات.
يصعب افتراض أن قطعان السائرين في تظاهرة «الهري المقدس» لا يعون أثر هذه الشائعات والروايات المتضاربة، وأضرار عشرات التفسيرات التي تكفي لإطلاق تفجير يفوق قنبلتي نجازاكي وهيروشيما الذريتين، أو إشعال معركة لا تقل حدّة عن الحربين العالميتين، ويصعب أيضا افتراض أنهم لا يعون حجم الآثار الاقتصادية والسياسية لادعاء تعليق العمل بالمطار، في بلد تبدأ السياحة فيه رحلة قاسية للتعافي من آثار سبع سنوات عجاف، ولم تمر أسابيع على استئناف رحلاته المباشرة مع روسيا وعدد من المقاصد السياحية المهمة، ولكن لو افترضنا أن قطاعا من العاديين لم يلتفت لهذه الأمور، فماذا عن النخبة من النشطاء والسياسيين والأكاديميين والمثقفين والإعلاميين، الذين ساروا في زفّة تتقدّمها ثيران خرجت للتو من «زريبة» وتسير بثبات إلى «زريبة» أخرى.
لا أستسيغ تفسير الأمور دائما وفق نظرية المؤامرة، رغم إيماني العميق بأنها واقع قائم لا فكاك منه ولا سبيل لنفيه، لكن التعاطي المُشين والمزعج مع حادث انفجار شرقي القاهرة يجوز تفسيره وفق نظرية المؤامرة، لمن يُحب أن يفسر المواقف الغريبة لأهل «زريبة السوشيال»، على الأقل لن يكون تفسيره مُتعسّفًا وسطحيًّا وفجًّا كتفسيراتهم ورواياتهم المختلقة حول الانفجار.
لا يمكن القول إن ملايين السائرين في زفّة الشائعات محسوبون على جماعة الإخوان، هذا أمر يشتمل على تزيُّد واضح بالتأكيد، لكن لا يمكن أيضًا نفي أن الشرارة الأولى في هذه الليلة المليئة بالأكاذيب تحيطها الشبهات من كل جانب، وربما تكون قد انطلقت من بندقية إخوانية، ليتلقّفها قطيع «السوشيال ميديا» الباحث عن جنازة «علشان يشبع فيها لطم»، وليس من المصادفة أن يتزامن انطلاق هذه الشائعات مع ترويج صفحات الإخوان وموقع رصد وقناتي الشرق ومكملين، لهذه الشائعات والاختلاقات المتضاربة بكثافة وإلحاح.. هنا يمكن الالتفات لنظرية المؤامرة بقدر من الاعتبار، إذ يبدو أن سلسلة طويلة من اللجان الإلكترونية تتولّى إطلاق الرسائل وتبنّيها، وتوجيه القطيع وقيادته باتجاه صنع سحابة عريضة من التفاصيل المتشابكة والمتضاربة، وتوليد متوالية من الروايات، وغابة متداخلة الفروع من التفسيرات المُغذّية لسوء الظن واتخاذ مواقف عدائية متحفزة ومضادة لروايات الدولة والمؤسسات الرسمية، بغية تفكيك مسارات التواصل وخطوط الاتصال بين الدولة والمواطنين، وتعميق حالة القطيعة والشكّ وتبنّي الروايات المضادة لكل ما هو رسمي.
هذه الحالة من الاصطياد في الماء العكر تحتاج تحرُّكًا جادًا وعميقا من الحكومة، لبناء جسور للثقة والتواصل الفعّال مع المواطنين غير الموجَّهين، وغير المنحازين لرؤى وتوجهات عدائية، والرد على ماكينات الشائعات وتفكيك استراتيجياتها وآليات تلاعبها بالوعي الجمعي، والأهم من كل هذا العمل بجدية وحسم لضبط الانفلات المُتمدِّد في «زريبة السوشيال ميديا» وضرب ثقافة القطيع التي تُوظّفها اللجان الإلكترونية وميليشيات توجيه الرأي العام، للنيل من الدولة والروايات الرسمية للوقائع والأحداث.
لنتوقع الأسوأ في هذا الأمر.. ستستمر حالة الشحن والتوجيه، ستواصل ماكينة الشائعات العمل، وستنجح الميليشيات الإلكترونية في البقاء فوق ظهر القطيع وقيادته في الوجهات التي تحقق أهدافها ومصالحها، تبدو هذه الأمور منطقية إن كنا نُسلّم بأن استهدافا عميقا وغير بريء يحيط بالدولة ومؤسساتها، ولكن ماذا عن الخطط المضادة؟ أين التحركات الجادة والناجعة لصد قصف «القطعان» المتوالي؟ ولماذا لا نقطع الطريق على هذه الممارسات بقانون واضح وإجراءات حاسمة؟
مؤخرا أقر مجلس النواب قانون مكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات، لكنه لم يصدر بشكل نهائي حتى الآن، ورغم أنه يتضمّن نصوصا واضحة فيما يخص الممارسات المُنفلتة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعقوبات حازمة لبعض المخالفات، لا أعرف - في ضوء تنامي الانفلات يومًا بعد يوم - هل تكون هذه النصوص كافية أم يمكن أن تتحايل عليها القطعان وقادتها؟ وهل يكفي لتنظيم ممارسات المنصات الاجتماعية ذات الطبيعة الإعلامية؟ أم نحتاج قانونا خاصا لضبط آليات تداول المعلومات والأخبار الخاصة بالشأن العام والأمور الماسة بالأمن القومي؟ وهل ستنجح مؤسسات إنفاذ القانون في إجراء مواده عمليًّا ووضعها موضع النفاذ وسط هذه الغابة المليونية من القطعان؟ أم ستظل الثغرات قائمة والانفلات عصيا على السيطرة وفي حاجة لآليات أكثر اتّساعًا وشمولا للوصول لحالة الضبط؟
انفجار شرقي القاهرة جسّد حجم التضليل، وضخامة ماكينات الشائعات النشطة في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي، وبينما نجحت الجهات المعنية في السيطرة على الحادث، يظل انفلات قطعان «السوشيال ميديا» قائما ومُتجاوزا لكل الأطر ومحدِّدات الأمن القومي وضوابط المصلحة العليا، ما يؤكد أن انفجار مخزن شركة البتروكيماويات على ضخامته، قد يكون أقل خطرًا من انفجار «زريبة السوشيال ميديا».. وقد أثبتت التجربة العملية حاجتنا الماسّة للتحرك؛ حتى لا تطيح الثيران الهائجة - سيّئة النيّة أو الموجَّهة بغير وعي - بكل شيء في هذا البلد قربانا للجهالة و«الهري المقدس».