إما أن تكوني عاهرة أو أرملة!
الأحد، 26 أغسطس 2018 01:46 م
اصطحب الرجل الخمسيني زوجته إلى أحد الشواطئ العامة، كما اعتاد كمواطن سكندري في الأعياد والمناسبات. لم يكن يعلم أنه على موعد مع آخر أعياده، هكذا ببساطة ودون مبرّر واحد، فقد الرجل حياته على شاطئ عام، لأنه رفض أن يفقد شرفه ونخوته.
واقعة مؤسفة شهدها أحد شواطئ العجمي بالإسكندرية، عندما تحرّش شاب ثلاثيني بسيدة تجاوزت منتصف العمر، ترتدي جلبابًا أسود وحجابًا تقليديًّا بسيطًا. استنجدت السيدة بزوجها الذي ذهب معاتبًا الشاب، فما كان من الأخير إلا أن أخرج سلاحًا أبيض ضخمًا (سنجة أو سافوريا كما يسمّيها أبناء الهامش البلطجي) وسدّد له طعنة قاتلة. تلوّن البحر بدم الرجل، وتمرّر بدموع المرأة، وتلوّث بعارنا جميعًا.
لم تعد كثير من شوارع مصر آمنة بالنسبة للنساء، ناهيك عن الشواطئ والمواصلات العامة وأماكن العمل. آلاف من المنفلتين - الذين لا رادع لهم - يمارسون ذكورتهم الهوجاء في الجميع، دون ردع من قانون أو إنسانية.. الأمر بات مزعجًا للغاية، ويحتاج تدخُّلاً عاجلاً من الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، فلم نعد في رفاهية تسمح بالصمت أو التنظير أو التعامل مع الظاهرة ببلادة واستخفاف.
قبل واقعة الإسكندرية المؤسفة بعدّة أيام، نشرت فتاة تُدعى منة جبران مقطعي فيديو لشابين يقتحمان دائرتها الخاصة في أحد شوارع التجمع الخامس. عرض أحدهما ركوب السيارة بصحبته، وعرض الآخر الذهاب إلى أحد الكافيهات لاحتساء القهوة. وعلّقت الفتاة على الأمر باستغرابها أن يحدث هذا في واحدة من أرقى مناطق القاهرة وأقلّها عشوائية، لتثور ثائرة السوشيال ميديا متّهمة الفتاة بالهيستريا والبحث عن الشهرة والتشهير بالشابين اللطيفين، اللذين تعاملا بمنطق العرض والطلب في العلاقات الإنسانية، كما يتعامل المتنوّرون والمتحرّرون في الغرب السعيد. أغلقت الفتاة صفحتها، ثم عادت وكتبت أنها تفكّر في الانتحار بعدما واجهت حملة شنيعة سوّدت حياتها وتسبّبت في فصلها من عملها.. وما زالت السوشيال ميديا تلوك سمعتها وشرفها حتى الآن.
لا تتوفر دراسات مسحية وافية عن معدلات التحرش في مصر. لكن حتى مع القدر القليل المتاح من الأرقام تبدو الصورة قاسية للغاية، ففي دراسة للمركز المصري لحقوق النساء بالعام 2008 قالت 83% من النساء إنهن تعرضن لواحد من أنواع التحرش الجنسي بصفة يومية، واعترف 62% من الرجال أنهم يتحرشون بالنساء.. بينما تؤكد منظمات حقوقية وناشطات نسويات أن الأرقام تتجاوز هذه المعدلات.
بالنظر إلى الأفعال التي تندرج تحت لافتة التحرش الجنسي، وتضم ضمن الممارسات العديدة: اللمس، والاحتكاك، والتحرش اللفظي، والحديث عن الأعضاء التناسلية أو إظهارها، والتحديق في الجسد، وممارسة العادة السرية على مرأى الضحية، واختراق المساحة الشخصية الآمنة، واستغلال المراكز المعنوية لابتزاز النساء، يمكن توقع حجم الشريحة التي تتعرض لكل هذه الممارسات في الشوارع والمواصلات وأماكن العمل. يُضاف لهذا المغازلات والدعوات غير المرغوب فيها، وباعتبار أن كل دعوة غير مرغوب فيها هي نوع من أنواع التحرش، فغالبا لا تنجو سيدة واحدة من هذه المعاناة اليومية المفتوحة.
قبل شهور أُثيرت موجة عالمية من التدوين عن التحرش، بدأت من عاصمة السينما الأمريكية هوليود، وتوسعت عالميًّا عبر هاشتاج (#me_too).. وقتها كتبت فتاة مصرية عبر الهاشتاج أن صحفيًّا وناشطًا شابًا اسمه (أ. ي) تحرّش بها، وخرّج الشاب لاحقًا معترفًا بجريمته، لكن طوابير المهللين من أصدقائه في الأوساط الصحفية والثقافية والفنية وبين نشطاء المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية النسوية دافعوا عنه، وقالوا إنه كان تحت تأثير الكحول ولم يكن يقصد التحرّش أو الانتهاك، لكن موجة الانتقاد اضطرته للاختفاء وإغلاق صفحاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن يعود مؤخَّرًا بحسابات جديدة استعان فيها باسميه الأول والثالث بدلا من الاسم الثنائي السابق، ليبدأ دورة جديدة من الحضور في دوائر النخبة والمدافعين عن حقوق المرأة.
قبل أسابيع من الآن انفجرت واقعة لا تقل فداحة عن سابقتها. باكتشاف واقعة تحرّش جنسي داخل أحد المراكز الحقوقية الشهيرة (يديره سياسي بارز ووكيل مؤسسي أحد الأحزاب اليسارية).. تتابع التفاصيل كشف أن الفتاة تعرّضت للاغتصاب من أحد أعضاء المركز والحزب، وأنها تقدمت بشكوى لمركز حقوقي نسوي، لكن بسبب علاقة مسؤولاته بالسياسي البارز (خ. ع) وحزبه تكتّمن على الأمر. ثارت السوشيال ميديا وتصاعدت موجات الانتقاد، ليضطر الحزب إلى تشكيل لجنة للتحقيق في الأمر، خلصت في النهاية لنتيجة مشوّهة بتبرئة السياسي وشلّته، مع إصدار قرار بفصل الشاب المغتصب (الذي قالت إنه بريء) وإغلاق القضية بمباركة من الزملاء الحقوقيين وناشطي المجتمع المدني، الذين تبيّن لاحقًا أن الأمر بالنسبة لأغلبهم سبوبة حقوقية وبوابة للتمويلات والمنافع المالية تحت لافتات حقوق الإنسان، دون أي حقوق، وبفشل كامل ورسوب متعمّد في أول اختبار حقيقي للقيم والمبادئ، خرج منه الجميع بصفر ضخم، وبقرون على الرؤوس.
في السنوات الماضية امتطت النخبة جواد التجارة بملف التحرّش، ودشّنوا مجموعات وجمعيات وتجمّعات وأخويّات وحسابات بنكية، وانتقدوا الرعاع والبلطجية الذين يستبيحون النساء في الأعياد والحدائق والمتنزّهات ودور السينما والمواصلات العامة، لكنهم مع أول اختبار لهذه الشعارات في دوائرهم قرّروا الرسوب. النظر لهذه الدوائر، ومن يقتربون منها أو يتماسّون معها، يؤكد أن نسب التحرش الجنسي في الأوساط الثقافية والفنية والسياسية والحقوقية مرتفعة للغاية، لكن تظل طبيعة هذه الأوساط، وهيمنة الذكور فيها، وأياديهم الطولى اجتماعيًّا وإعلاميًّا وماليًّا، تدفع كثيرات من الضحايا للصمت الاضطراري وقبول هذه الممارسات إجباريًّا، أو الابتعاد والانعزال. المهم أن الرائحة تظل تحت الغطاء، والجريمة تظل في حواضنها الآمنة، تزدهر وتتوسّع وتفتح الباب لمجرمين جدد، لاقتناص ضحايا جديدات.
مؤسف أن أضطر للقول إن حصة كبيرة من ذكور مصر متورطون في ممارسات عدائية تجاه المرأة، كثيرون منهم متحرّشون ومُستثارون طوال الوقت، لا علاقة للأمر بملبس المرأة أو كلامها أو طريقة تعاملها أو طبقتها الاجتماعية. كل النساء سواء أمام طوابير الذئاب التي قررت ممارسة ذكورتها في كل مكان، وبكل الطرق والأدوات المتاحة، فيما يبدو أنه ظاهرة سيكولوجية واجتماعية أكثر من كونها ممارسة جنسية عنيفة وعدائية، ظاهرة تحتاج للرصد والفحص والتحليل واستخلاص الأرقام والمؤشرات، لكنها في الوقت نفسه تحتاج للردع القانوني والضرب بيد من حديد.
لا يمكن النظر إلى تبريرات الذكور ورجال الدين والمحافظين أخلاقيًّا بأن ملابس النساء هي السبب نظرة جادة ومحايدة. لو كانت للأمر علاقة بالملابس لما تعرّضت المحجبات والمنتقبات والأطفال اللواتي لم يبلغن بعد للتحرش، وما تعرّضت سيدة الإسكندرية الخمسينية المُسربلة بالسواد لهذا الانتهاك. السبب يعود بالأساس لخطاب اجتماعي وثقافي وديني مشوّه ومُحقّر للمرأة، ويحتاج للنظر الجاد والتغيير العاجل، إن كُنّا نبحث حقًا عن حقوق أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا وحبيباتنا وجاراتنا، ونبحث عن شرفنا ونخوتنا ورجولتنا، وعن دولة العدالة والقانون الآمنة للجميع، والضامنة لحقوق الجميع.
كثيرون من الذكور ورثوا سلطة اجتماعية ومراكز معنوية لا فضل لهم فيها، ولا مبرّر لها إلا أنهم ذكور، ومع اقتحام كثيرات من النساء للمجال العام ونجاحهن عمليًّا ومهنيًّا، واستقلالهن اجتماعيًّا وماديًّا، يشعر هذا الصنف من الذكور بخطر حقيقي على إمبراطوريته الهشّة، لهذا يحاول الدفاع عن هذه المراكز المعنوية التي لا يملك أيّة كفاءة عملية أو امتلاء نفسي لصيانتها بالحب أو الاحتضان أو المنافسة الجادة، ولا يجد بديلاً إلا ممارسة ذكورته انتصارًا لها على الإجهاض والانكسار، وحصارًا للأنثى وإشعارًا لها بالضعف والانسحاق. هكذا يتصوّر أنه يسلب المرأة حضورها ونجاحها وتحقُّقها، ويحتفظ بالقوة والوصاية واليد العليا.
في حقيقة الأمر لا يمكن النظر للمتحرّش إلا باعتباره شخصًا عاجزًا، ليس بالمنطق الشعبوي الذي يتحدث عن اهتزاز القدرات الجنسية للمتحرشين، إذ لا تتوفر دراسات وأرقام واضحة حول نسب الضعف والعجز الجنسيين وعلاقتهما بالتحرش والمتحرشين، لكنه عاجز بمنطق افتقاد القدرة على إثبات رجولته أمام النساء بالطرق الطبيعية، فلا يجد بديلا إلا بإثباتها عنوة وبالانتهاك. هذا الأمر يُفسّر أن أغلب المتحرّشين يوجهون ممارساتهم العدائية تجاه النساء الأكثر استحالة عليهم، اجتماعيًّا أو ماديًّا أو ثقافيًّا أو مهنيًّا، كما أن كثيرين منهم يوجهون طاقاتهم تجاه فئات محددة، لتجد ذكورًا لا يتحرّشون إلا بالمحافظات اجتماعيًّا ودينيًّا، وآخرين يتحرّشون بالمتحرّرات، وغيرهم يتحرّشون بالثريّات، وغيرهم يتحرّشون بالمُهندمات وحَسِنات المظهر، والغريب أنه في الوقت الذي يغرق كل نوع منهم في نمط تحرّشه المفضّل، قد تجده ينتقد أنماط التحرّش الأخرى بصدق وجدية، ودون أي إحساس بالازدواجية أو التناقض. تمامًا كما كان الشاب (أ. ي) ينتقد المتحرّشين العشوائيين، أو كان السياسي البارز وحزبه ينتقدون تحرّش الأعياد والمتنزهات، ثم اكتشفنا أنهم هم أيضًا لديهم أنماط تحرّشهم المفضلة.
الخطاب الديني مكوّن أساسي في معادلة التحرّش، على الأقل في إطار الفهم السلفي والإخواني التقليدي الذي جرت إشاعته في المجتمع طوال العقود الأخيرة. يمكن القول إن كثيرا من رُكام الخطابات الدينية يمتهن المرأة ويمارس عنفًا معنويًّا تجاهها. الخطابان الليبرالي واليساري يتورّطان في ممارسات شبيهة لكن بدعاوى مناقضة تمامًا، ترفع لافتة الحرية الجنسية وانفتاح العلاقات على النمط الغربي، رغم رواسب الذكورية والثقافة الشرقية التي تحكم أدمغة الذكور قبل غرائزهم وشهواتهم. في المرتبة التالية يأتي الخطاب الاجتماعي المهيمن، الذي يُرتّب ويمنح الأفضليات وفق النوع الجنسي، وللأسف تقف المرأة فيه كمكوّن رئيسي يُغذّي القيم الذكورية، بدءًا من قولها لابنتها (أخوكي أحسن منك وقومي اعملي له شاي) وصولا إلى قولها لجارتها (ابني راجل ومفيش حاجة تعيبه واللي عنده معزة يلمّها).
مأساة الخطاب الديني تتجلّى بشكل أكبر بالنظر إلى ممارسات منتجيه ومتلقّيه. فبجانب ترسيخ دعائم خطاب متطرّف يميّز بين النساء والرجال، ويخصم من حقوق الإناث لصالح الذكور، فإن الممارسات العملية تُعزِّز أثر هذا الخطاب ومجال تأثيره. الحقيقة أن معدلات التحرّش بين المحافظين والمتزمّتين دينيًّا من السلفيين والإخوان أعلى من مثيلتها لدى الفئات الأخرى (رغم انتشار الظاهرة في كل الفئات كما أشرت) والنظر إلى وقائع مثل حكاية زوج أخت حسن البنا قديما وحفيده حديثًا، والبلكيمي وعنتيل المحلة، وغيرها، أو زواج الشيخ (م. ح. ي) بأكثر من عشرين فتاة أقل من ثماني عشرة سنة، واحتفاظ أغلب شيوخ السلفيين بأربع زوجات، واستمرار حصر النساء في خانة الاستمتاع والتسرية وأن "خير متاع الدنيا النساء". كل هذه الأمور تؤكد أن ماكينة الخطاب الديني تلوك مزيدًا من الحطب الذي يُبقي على نار استهداف النساء مشتعلة ومتوهِّجة. والحقيقة أن كل تأخير أو تقاعس عن تجديد الخطاب الديني، وكل مماطلة وتهرُّب من المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، مشاركة مباشرة في الجريمة المفتوحة بحق النساء في شوارع مصر.
حتى لا يبدو الأمر انتقادًا مفتوحًا للذكور وحدهم، رغم ارتباط الأمر بالقيم الذكورية التي يتشاركها المجتمع بكامله للأسف، يمكن القول إن فلسفة العلاقات سبب مباشر من أسباب ظاهرة التحرش.. الأنثى بطبعها كائن باحث عن الأمان، يتغذّى عليه في المقام الأول، ورغم تفاوت معاملات الأمان لدى النساء (بعضهن يرين الأمان في المال أو التحقق المهني أو الاستقلال الاجتماعي، وغير ذلك) إلا أنه للأسف تظل فكرة الأمان لدى القطاع الأوسع محصورة في الذكر (الأب والأخ والحبيب والزميل والصديق) وهذا التصوّر يُعزّز المركز المعنوي للذكر ويمنحه هيمنة ويدًا أعلى في العلاقة، إضافة إلى أن هاجس الأمان يدفع كثيرات من النساء لتقديم تنازلات في العلاقات، غالبًا ما يكون مبعثها الحب أو الخوف أو التشبُّث بالاستقرار، لكن الرجل يُترجمها باعتبارها أفضليّة في ذاته وإقرارًا له بالمركز الأعلى، ما يُعمّق حالتي الفصام والعنف لديه عندما يصطدم بواقع يُخرج له لسانه، ويفاجئه بأنه أقل قيمة أو تحقُّقًا من زميلته أو جارته أو حبيبته أو العابرة الجميلة في الشارع نفسه. هنا تتحوّل كل طاقة الشحن التي انتقلت للذكر من الأم والأخت والحبيبة والزميلة إلى طاقة غلّ وعدوان ضد من يقعن في متناوله على أرضية ملعب مفتوح يسمح له بتفريغ هذه الطاقة، غالبًا ما يكون الشارع، وأحيانًا يكون الشاطئ أو المواصلات أو المقهى أو بيئة العمل.
امتهان العلاقات العاطفية عامل دافع للغاية لتغذية ماكينة التحرش، بدءًا من الاستجابة السهلة للمغازلات والدعوات، وصولاً لدخول علاقات مفتوحة دون أيّة نسبة من التوافق والأمان. هذا الأمر يُشعر الذكور بسهولة الموضوع وعاديته، وربما كان هذا سبب انتقاد كثيرات من النساء لموقف منة جبران في واقعة التجمع، وسفسطة كثيرات منهن عن فكرة العرض والطلب التي استدعيناها من السياق الأوروبي، وابتذلناها دون أيّة مراعاة لفروق السياقات الاجتماعية والثقافية.. إذ إننا لا نعيش في أوروبا ولا نملك سياقًا غربيًّا ولا رجالاً ونساءً غربيين للأسف. يمكن القول إن البنت التي تتساهل في العلاقات تُغذّي ماكينة التحرش، والأخت التي تلعب دور الوسيط بين أخيها وصديقاتها تغذّي ماكينة التحرش، والفتاة التي تدخل علاقات افتراضية وتُرسل صورًا عبر منصّات التواصل الاجتماعي أو تستجيب للعروض والمغازلات في الشارع والشاطئ والمقهى، كُلّهن يُغذين ماكينة التحرش. السياق المرجعي الذي يتحرّك فيه كثيرون من الذكور سياق امتهان للمرأة، والذكر الذي يُعبّئ جلسات المقهى مع أصحابه بالحديث عن فتوحاته الجنسية مع زوجته في "ليلة الخميس"، بالضرورة لن ينظر للفتاة التي عرفها في المصيف أو الشارع أو "فيس بوك" أو المقهى إلا باعتبارها تجربة عابرة وفتاة رخيصة، وأي تهاون في هذه الأمور مساندة مباشرة من النساء للرجال، من الضحية للجلاد.
الظاهرة مُتّسعة وتتمدّد في كل الطبقات والفئات الاجتماعية، لا فارق بين فقراء أو أغنياء، مثقفين أو عوام، متعلّمين أو جهلة. في كل الشرائح الاجتماعية هناك ذكر يُمارس ذكورته على أُنثى لا تجد دعمًا في الغالب، لا من الأسرة ولا المحيط الاجتماعي ولا المنظومة القانونية والتنفيذية. كثيرات ممّن قرّرن خوض صراع قانوني وتحرير محاضر أو تحريك دعاوى في وقائع تحرّش، واجهن متاعب داخل المنظومة الأمنية والقانونية القائمة، خاصة عندما يبادر المتحرّش بتحرير محضر بالتعدّي بالضرب، لتصبح المجني عليها مُتّهمة في الوقت نفسه (هذا الأمر بالضبط حدث مؤخّرًا مع فتاتين تعرّضتا للتحرّش في وسط القاهرة وعندما حرّرتا محضرًا ردّ الجاني باتهامهما بالتعدّي عليه، وأُحيل الثلاثة للنيابة محبوسين). يحتاج الأمر للتدخّل من الدولة، القانون القائم يحتاج نظرة من المؤسسة التشريعية لتحديث تعريفات التحرّش وضبط عملية إثباته وتغليظ عقوباته، المؤسسة الأمنية عليها التعامل مع هذه القضايا بجدّية أكبر. باختصار نحتاج قانونا أكثر ردعًا، وتنفيذًا حازمًا بدرجات أكبر، واحترامًا حقيقيًّا للنساء من الرجال، إن لم نُحسن صناعته بالتربية والتعليم والتهذيب في البيت والمسجد والمدرسة والعمل، فلا بديل من صناعته بسيف القانون وكرباجه.
ما تعانيه النساء في شوارع مصر غير آدمي بالمرة. لكن بجانب الممارسة العملية المزعجة، فالأكثر إزعاجًا أن نظرة كثيرين من الذكور للنساء متدنية، فإما أن تقبل عروض الذكر وإغراءاته التي لا تُقاوم، وتكون عاهرة رخيصة في وجهة نظره، وإما أن ترفضها وتقاومها، ووقتها ستكون مريضة وباحثة عن الشهرة مثل منة جبران، أو أرملة بحكم وقتي شامل النفاذ مثل سيدة شاطئ العجمي.. والحقيقة أن نساء مصر لا عاهرات ولا باحثات عن الشهرة، ولا يستحققن الترمّل لأنهن يدافعن عن شرفهن وحقوقهن في الأمن والحياة والكرامة. يُقاس مدى تحضّر المجتمعات بأوضاع نسائها، وإذا كنّا نسعى حقًا لصياغة مجتمع ناضج ومتحضّر، فعلينا الانتصار للنساء في هذا العدوان المفتوح عليهن. يجب أن يكون الدستور والقانون يدي المرأة ورجليها، وإذا كان الذكور عاجزين عن ترشيد بداوتهم، فلا بديل عن القانون ليكون درعًا حاميةً وسيفًا مُقتصًّا للنساء، هكذا يُمكن أن نعتذر لمصر وبناتها، وأن نستر عار ذكورنا المنفلتين.