الصيام ومحنة الخطاب الديني
الإثنين، 04 يونيو 2018 09:36 ص
من المؤسف ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نضطر للعودة عقودا، وربما قرونا للوراء، لنؤكد ما كان يبدو بديهيا في مراحل زمنية بعيدة وبدائية للغاية، محاولين استعادة العقائد من قبضة التلفيق والادعاء، وإخراجها من دائرة الربط المتعسف بكل الحلقات والتفاصيل الاجتماعية والمعيشية، إلى حيزها الأصلي في وجهه الصافي، باعتبارها منظومة روحية ونفسية للضبط القيمي والأخلاقي، تتعاطى مع السياقات المحيطة وتتقاطع معها، بقدر ارتباط هذه السياقات بالروح لا المادة، أي أن العقائد دروس أولية في النفس والوعي والمسالك الروحية، وليست دروسا في الكيمياء أو الفيزياء أو علوم الذرة والأحياء.
قبل أسابيع انقلبت الدنيا واشتعلت المعارك عندما قال الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى في أحد البرامج التليفزيونية إنه بحث طويلا ولم يجد فائدة صحية أو عضوية للصيام، وتوصل إلى أن علّته الوحيدة فكرة التكليف، أو أنه «أمر سيادي من الله» بحسب تعبيره، وهو ما رد عليه شيوخ وخطباء ومواطنون عاديون بحدّة وتقريع، معتبرين هذا القول تجديفا عقائديا وخروجا على ثوابت الدين، رغم أنه لا ثابت واضحا في مسألة فوائد الصيام الصحية، وما استقر في هذا الأمر صنعه الفقهاء بربط غير عادل، أو غير دقيق، بين الروح والمادة، والبحث عن تفسيرات مادية لفكرة الصيام، الروحية بالأساس، فأسسوا خطابهم على فكرة المنفعة، وعلى إعجازية التكليف والتشريع.
منذ طلع علينا الدكتور زغلول النجار قبل سنوات بأطروحاته الاعتباطية الرابطة بين النصوص الدينية والحقائق العلمية بشكل متعسف ومجافٍ للعقل والمنطق، بات من البديهي لدى قطاعات واسعة من مستقبلي الخطابات الدينية على تنوعها، أنهم بصدد دروس مكثفة في العلوم، وأنهم يجلسون في حلبة مصارعة مع العلماء في معاملهم ومختبراتهم، وليسوا أمام شيوخ وخطباء ورجال دين، والحقيقة أن ظلا قديما للأمر تجلى في دروس وخواطر الشيخ الشعراوي، بما فيها من تجرؤ غشوم ومجاني على العلم ونظرياته، ولكن المحنة تعمقت واستفحلت مع ظاهرة زغلول النجار، ومن تبعوه فيها بغير إحسان أو عقل.
من هذا الباب الجائر في الربط، نشأ وتنامى وازدهر خطاب ديني بالغ السطحية والتبسيط في التعاطي مع أمور العبادات، لعل أبرز أمثلته إصرار الفقهاء على أن إعجازا طبيا وصحيا يتمثل واضحا وجليّا في فكرة الصيام، واستهلاكهم لهذا الخطاب بشكل موسمي منتظم، وبقدر من التجاسر والافتئات على أهل التخصص المباشرين، وعلى الثابت من حقائق العلم حتى الآن، وهو من قبيل الأمور البديهية غير المرتقب تبدلها، كما شاع في أوساط العاملين في حقل الخطاب الديني، ردا منهم على اصطدام اختلاقاتهم غير المؤسسة على حقائق تجريبية مستقرة، بادعاء أن ثوابت العلم الحديث ليست نهائية، وهو ادعاء فضلا عن كونه صادرا عن غير ذي وعي بالطبيعة التجريبية للعلوم الحديثة، فإنه نقد مباشر للخطاب المعنوي الغيبي الذي يستندون إليه، في ضوء أن ما يتوقف عنده العلم الآن أثبتته المعامل والمختبرات، بينما ما يقفون هم عنده لم يثبت إلا بعمل القلب والتسليم الاعتقادي.
بعيدا عن هذه الجدليات التي تبدو في جانب منها إهدارا للطاقة، في ضوء تشابك خطابات من حقول وأرضيات مختلفة، إذ يستند العلم للحقيقة والتجريب، ويستند الدين لليقين والتسليم الذاتيين، فإن الفيصل الذي لا يبدو أن له بديلا عمليا مقنعا، هو رد الأمور لأصلها، ومعايرتها بمقاييسها وأوزانها، وكما لا يصح أن تستفتي طبيبا في كيفية الصلاة، فلا يُقبل أن تستشير شيخا في خطة علاجية.
في مسألة الصيام، التي يخوض مئات الملايين على امتداد العالم موسمها السنوي حاليا، يصر رجال الدين على أننا بصدد عبادة وصيدلية أدوية في وقت واحد، وأن التكليف الإلهي بصيام رمضان يحمل في أحد جوانبه فرصا عظيمة ومضمونة لمداواة العلل والأمراض، بينما على الجانب الآخر يقف الطب موقفا مغايرا، مقدما أدلة وبراهين حيوية وفسيولوجية على عدم دقة هذا الطرح، ويظل الأمر معلقا، وفي حاجة للعقلنة والتحرير من هذه الدائرة الاستقطابية.
يقول رجال الدين إن الصيام ينقي الجسم ويُحسّن وظائف الأعضاء، ويحاولون تعزيز خطابهم بالاستناد لنظرية طبية حول تقنية الالتهام الذاتي للخلايا، بينما يقول الطب إن الصيام وإن لم يكن ضارا في الانقطاع عن الطعام، فإن حرمان الجسم من السوائل والماء (الذي يشكل حوالي 80% من بنيته) ينطوي على خطورة وتهديد احتمالي للجسم ووظائف الأعضاء، وإن هذه العملية تزيد تركيز الأملاح والباولينا (تركز اليوريا في الدم) بشكل يهدد الكليتين والمنظومة الحيوية للتخلص من الترسبات والعناصر الضارة، فضلا عن أنه يرفع لزوجة الدم بشكل يزيد من معدلات ترسب الدم ويهدد بحدوث جلطات مفاجئة.
تقنية الالتهام الذاتي «الأوتوفاجي» التي يتكئ عليها الفريق الأول في طرحه، تتحدث عن أثر التجويع المتقطع في تنشيط قدرة الجسم على التخلص من الخلايا المعطوبة، وبالنظر لهذه التقنية التي صك مصطلحها العالم الدنماركي كريستيان دو دوف في ستينيات القرن الماضي، وحصل عنها على جائزة نوبل في الطب بالعام 1974، وطور فيها العالم الياباني الياباني يوشينوري أوهسومي واقتنص بإضافاته جائزة نوبل في الطب قبل سنتين، سنجد أنها تتحدث عن آليات تحفيز داخل الخلايا للتخلص من محتوياتها القديمة وتجديد نفسها، عبر إحاطة هذه المحتويات بغلاف سميك وتوجيهها لمسار داخل الخلية لتفكيكها وتحليلها ثم التخلص منها، عبر وحدة خلوية تُعرف باسم «لايسوزوم»، ولكن هذه التقنية لا تخص عملية الصيام في ذاتها، وإنما هي آلية ذاتية دائمة ضمن بنية الخلية الحية، تتضافر مع ظاهرة «الموت المبرمج»، وما تحدث عنه يوشينوري وغيره هو أثر التجويع القصير المتقطع في تنشيط هذه الظاهرة، دون اقتراب من فكرة الصوم الطويل المنتظم، ودون عبور بأي صورة على مسألة التعطيش والحرمان من السوائل، بل إن الأبحاث في هذا السياق تشير إلى أثر الصيام الطويل في تثبيط قدرات الخلايا على تنظيف نفسها أو إنجاز عملية الالتهام الذاتي، عبر تعزيز البروتينات والمكونات الخلوية الضارة وزيادة قدرتها على مقاومة التكسير والظروف الحيوية التي قد تلجأ لها الخلايا لإصلاح أعطابها.
الخلاف الديني العلمي حول مسألة الصيام، وطروحات الفقه والطب فيها، يفتحان بابا قديما على السؤال المتجدد بشأن الخطاب الديني المستقر، وحاجته للتجديد، وربما التغيير وإعادة الإنتاج، في ضوء قصوره الواضح عن استيعاب التطورات والقفزات المحيطة به في مستويات شتّى، وعجزه في الوقت ذاته عن الحفاظ على مراكزه المعنوية القديمة كخطاب تأسيس وتوجيه روحي في المقام الأول، ما وصل به الآن للوقوف في مفترق طرق، عاجزا عن ترقية الروح، وقاصرا عن استيعاب المادة.
قضية تجديد الخطاب الديني ليست دعوة محدثة، ولا يفرضها الخلاف حول مسألة الصيام فقط، فمنذ تنامي المدّ الراديكالي المتطرف للخطاب الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي، ودخول دائرة العنف المباشر منذ الثمانينيات والتسعينيات، وتجددها بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو، والحديث قائم ومتجدد عن محنة الخطاب الديني وحاجته للتجديد والتحديث، وقد نادى بالأمر مثقفون ومفكرون وأكاديميون وشخصيات عامة، وحتى بعض رجال الدين والأزهر، ونادت به القيادة السياسية في مواقف عدة، بينما ما زال الخطاب الديني على حاله، يستند في وجه لنصوص فقهية وتفاسير تجاوزها الزمن، ويتعسف في وجه آخر مع العلم والعقل ومنطق الأمور وأهل اختصاصها.
محنة رجال الدين الكبرى أنهم لا يقتنعون بالمركزية الروحية للعقيدة ونصوصها، ويستهدفون مد مظلتها لتغطي أمور الاجتماع والاقتصاد والسياسة والأدب والفنون وحتى الطب والعلوم الحديثة، وهم في هذه الغاية لا يشتغلون على التطوير الجاد والحقيقي لاستيعاب قفزات الواقع وإسهامات هذه المجالات العصرية، وإنما يعمدون للصيغة الأسهل عبر تقديم تفسيرات اعتباطية للنصوص، تربط منجزات الفقه والتشريع المرتبطة بالقرون الأولى منذ البعثة حتى القرن الثامن الهجري (آخر الإسهامات الحديثة والمضافة من الفقهاء) ويحاولون تضييق مجال النصوص العلمية ومصادرة انفتاحها ورؤاها واكتشافاتها، لتقتصر على ما يوافق النصوص الدينية، وفق تصورهم الشخصي، وليس وفق حقيقة هذه النصوص.
ما يحتاج الفقهاء للنظر فيه بعمق، أن أمور العقائد تتصل باليقين والتسليم، ولا حاجة لها للتبريرات المنطقية وفق قواعد المكسب والخسارة والعوائد، وهذا ما ينطبق على العبادات، فالمؤمن بعقيدة ما يلتزم بضوابطها وتكليفاتها وعباداتها لأن هذا الالتزام مكون أساسي ضمن بنيتها الروحية والقيمية، وليس لأنه يحصل بالضرورة على فائدة مباشرة، فأنت تصلي لأنك مأمور بالصلاة وليس لأن أداء هذا الطقس التعبدي سيبني عضلات جسمك ويمنحك قواما معتدلا وعضلات مفتولة، وتصوم لأنك ملتزم عقديا وروحيا بهذه العبادة، وليس لأنك بصدد كورس علاج مكثف في مستشفى مجاني، والأمر نفسه ينطبق على كل التفاصيل والعبادات الأخرى، ولا ينتقص من هذه العبادات أن تحمل قدرا من المخاطر الاحتمالية، فلو كنت بصدد أداء مناسك الحج فمن المحتمل أن تسقط طائرتك أو تغرق باخرتك، أو حتى تنال منك ضربة شمس، ولن تعود من الرحلة بمكاسب مادية مباشرة، ستعود بمكاسب روحية عظيمة، وهذا مفتاح أهمية هذه العبادة وعوائدها المبتغاة، ولكل عقيدة اختبارات عديدة لأتباعها، بعضها قاس بالمناسبة ويصل للأذى الشخصي المباشر في عدة عقائد، وهذا مدخل مهم من مداخل الأديان والمعتقدات لاكتشاف صدق الإيمان بها، واختبار مؤمنيها وتربيتهم وترقيتهم روحيا، وأي خروج بهذه الطقوس والعبادات عن حيزها الإيماني والروحي ربما يكون خصما مباشرا منها لا إضافة لها.
إذا كان الصيام طقسا تعبديا قاسيا، وهذا لا يعيبه، وأثبته الله في كتابه الكريم «فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر» مؤكدا مشقة العبادة وأنها ليست نزهة، ولا تنسجم متاعبها مع المرض والسفر بظروفهما الضاغطة، فمن التجني والافتئات على الله أن نحاول تصوير الأمر على أنه مقايضة في سوق، ستصوم مقابل الشفاء والصحة، وتصلي مقابل اللياقة وليونة المفاصل، وغيرها من صيغ المقايضة، لأن هذا الأمر ينطوي على تبسيط خاصم من جلال الأمر، كما أنه يصادر إرادة الله في اختبار عباده بالمشقة التي يستجيبون لها وهم عارفون بها وراغبون فيها، وفضلا عن هذا وذاك فإنه يؤكد امتداد محنة الخطاب الديني، وحاجته القوية والعميقة لإعادة الإنتاج في وجه عصري عاقل ومنفتح على العالم وقادر على احتواء تغيراته، والأهم حاجة رجال الدين من مستهلكي هذا الخطاب للتواضع قليلا أمام العقل، والاقتناع بأنهم مُيسّرون للدين ونصوصه، ولم يحوزوا مطلق العلم والمعرفة.