الفساد الثقافي وسبوبة جوائز الدولة
الأربعاء، 13 يونيو 2018 11:00 ص
ظهور مفاجئ ونجاح مباغت، حققه الروائي الشاب أحمد مراد مع صدور روايته الأولى «فيرتيجو» وعبر ست روايات مطبوعة وسيناريو فيلم سينمائي، قفز لصدارة قائمة الأشهر والأكثر مبيعا، لا شكوك ولا جدال في الأرقام، ولكن يظل الباب مفتوحا على مصراعيه لحديث الجدارة والاستحقاق.
يفسر البعض طفرة أحمد مراد المفاجئة، وبدايته الأولى اللامعة مع واحدة من أبرز دور النشر في مصر، بشبكة العلاقات والروابط التي كوّنها إبان عمله مصورا خاصا للرئيس الأسبق حسني مبارك، وانطلاقه من هذه المحطة لنسج شبكة علاقات وفرت له فرصة للتعاقد مع دار نشر كبيرة وذات يد طولى في السوق، ووفرت له أيضا ذيوعا مجانيا عبر عشرات الكتاب والصحفيين الذين احتفوا به وسعوا للتقرب منه.
منذ عمله الأول، وحتى روايته الأخيرة «موسم صيد الغزلان» راهن أحمد مراد على الكتابة السطحية البسيطة، المنحازة للتسلية والتشويق دون حفر عميق وغائر في الأطر الاجتماعية والنفسية للمجتمع، ولشخصياته الروائية، ملتمسا فرص الذيوع لدى المراهقين وشباب الجامعات الداخلين حديثا لسوق القراءة، ونجح الرجل في رهانه بدرجة عاصفة، لكنه خسر رهان القبول الأدبي لدى المتخصصين والوسط الثقافي، وظل في نظر القطاع الأكبر من الأدباء والنقاد كاتبا خفيفا، وتجربة أقرب للأدب الشعبي (بالمعنى الاستهلاكي) على طريقة روايات الرعب والبوليسية والمغامرة والألغاز، ويبدو أنه ارتاح لهذا الأمر وتقبل مزاياه وآثاره السلبية، فحافظ على رواجه ومكاسبه الإعلامية والمادية، وتجاهل الأدب والتقييمات الفنية.
لا يمكن بحال من الأحوال انتقاد انحياز أحمد مراد، أو رهانه الشخصي واختياره لنفسه ومشروعه، ولكن على الجانب المقابل لا يمكن قبول التكريس له باعتباره متنا ومركزا ثقافيا، والتطوع من جانب المؤسسات الرسمية لمنحه القبول والإقرار الأدبيين، والتقدير الرسمي الرفيع، ليتمتع الرجل بنتائج اختياره الذي من آثاره - وغالبا كان يعرف هذا - أن يظل على أرصفة الكتب بجانب إسماعيل ولي الدين ونبيل فاروق وروايات عبير، وفي الوقت نفسه الفوز بالاحتفاء والتقدير اللائقين بالمشروعات الجادة والحقيقية، وانتشال رواياته التي كتبها للرصيف، ووضعها على رف واحد بجانب نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي وإبراهيم أصلان ووحيد الطويلة وغيرهم.
خبر فوز أحمد مراد بجائزة الدولة للتفوق، أمس الثلاثاء، خبر غريب وصادم بكل المقاييس، لا سيما وأن هذه الجائزة في صيغتها التأسيسية تُمنح لأصحاب المشروعات الجادة والمميزة، الذين حققوا تفوقا واضحا وتركوا أثرا ملموسا، بالمعنى الإبداعي والثقافي لا معنى الرواج والجماهيرية، والمؤسف في الأمر أن «مراد» وصل للمنافسة على جائزة التفوق بترشيح من أكاديمية الفنون، التي تُعنى في الأساس بتدريس القيم الفنية والجمالية، ويُفترض أن من صميم مهامها تربية أذواق ومواهب الدارسين، وتخريج فنانين ونقاد قادرين على فرز الجيد من الرديء، ودعم الجمال في مواجهة القبح، ما يعني أننا أمام خطر أكبر من رمزية فوز أحمد مراد بجائزة غير مستحقة في الغالب، هو أن الأكاديميات والجهات المختصة لم تعد قادرة على الاضطلاع بدورها، وانحرفت في كثير من ممارساتها عن المهام المنوطة بها، وهو انحراف راجع إما لمجاملة ومحاباة، أو لسيولة وسطحية واهتزاز للكفاءة والمعيارية.
العجب الأكبر في منح «مراد» الجائزة، التي كانت تُمنح سابقا لمن لديهم عشر إصدارات على الأقل، وتشترط أن يمتد إسهام الفائز بها خمس عشرة سنة دون توقف، أن الروائي الشاب أضعف المرشحين لها، بست روايات شعبية جماهيرية ضعيفة المستوى، بينما جاوره في القائمة كتاب مهمون ومتحققون وذوو حضور مصري وعربي مهم وثقيل، في قائمة طويلة من 48 اسما ضمت: سعيد نوح، إبراهيم داود، جميل عبد الرحمن، وحيد الطويلة وعزة بدر، وقائمة قصيرة من أربعة أسماء ضمت: محمد إبراهيم طه، والدكتور محمد شبل، والدكتور محمد العبد بجانب مراد نفسه، والحقيقة أن كل الأسماء الواردة في القائمتين، أعمق تجربة وأكبر موهبة وأكثر تحققا من أحمد مراد، وفق الاعتبارات الفنية والقيم الإبداعية والجمالية التي درج عليها المجلس الأعلى للثقافة ولجانه، قبل أن تصيبه لوثة المحاباة والمجاملة والبحث عن الشهرة والرغبة المحمومة في التقاط الصور مع المشاهير.
في السياق الأدبي على امتداد العالم تتوزع الأنصبة وفق منطق عاقل، كتاب كثيرون يختارون الشهرة والذيوع والمال، فيضحون بالفن أو قدر منه، ويرضون بأن ينالوا ما راهنوا عليه، بينما ينال آخرون ما اجتهدوا لتحصيله من حضور وثقل، عبر مشروعات جادة ومتماسكة وعمل إبداعي مخلص ودؤوب، ولن تجد كاتبا مديوكر أو نجما من نجوم «البوب آرت» في الجوائز العالمية الكبرى، وهكذا تحتفظ الدول والمجتمعات والثقافات بوجهها الجاد والحقيقي، ولا تصادر حق التجاريين والاستهلاكيين في النضج والعبور بمشروعاتهم الخفيفة للضفة الأخرى، ولكن أن تتطوع الضفة الأخرى وتنتقل بنفسها للبضاعة الاستهلاكية، فهذا مؤشر بالغ الخطورة، لأنه يعني أن المتن الرصين الذي تشكل لعقود طويلة من أسماء ثقيلة وإبداعات جادة، أصبح في حيازة أحمد مراد ومن يحذون حذوه، وبالتبعية فإن السوق الشعبية الاستهلاكية بطبعها ستنتج أسماء وكتابات أكثر خفة وبساطة من المتن، أي أننا بانتظار انحدار لا يعلم مداه إلا تجار الثقافة وناشرو «بير السلم»، وما دام أحمد مراد تحول لأب شرعي وواجهة رسمية، فإن الثورة على كلاسيكيته وتعقيده في نظر البعض ستنتج نسخا أكثر سطحية وركاكة منه، وبالتأكيد ستفوز هذه النسخ المكرورة بتدنًّ بجائزة التفوق في سنوات مقبلة، وفق لعبة كراس موسيقية قرر المجلس الأعلى للثقافة تدشينها دون منطق أو وعي.
قد يبدو الأمر بسيطا في نظر البعض، ويرى آخرون أنني أضخم مسألة هامشية وأصنع منها قضية، ولكن الحقيقة أن ما تحمله هذه النتيجة مؤشر خطر داهم، يوجب التوقف والالتفات والفرز، فالدولة التي تسعى لبناء الإنسان كما أعلن رئيسها في خطاب تنصيبه لولاية ثانية، لا يجوز لمؤسساتها أن تضرب كل فرص وإمكانات بناء الإنسان باختيار وترقية النماذج السطحية التي لا تبني وعيا ولا تُشيع جمالا، ولا يجوز أن تترك أطر العمل القديمة المشوهة تهدم الإنسان بالمحاباة والمجاملات والاختيارات الاعتباطية، ولا يجوز أن ننتقد دراما العشوائيات والبلطجة، ثم نحتفي بالمنتج الكتابي الموازي لها في القيمة والأثر.
لا يمكن القول إن أحمد مراد برواياته الست يملك مشروعا مهما يستحق الاحتفاء والتقدير الرسميين، ولا أن الوعي الثقافي والجمالي يُبنى بأقلام الكتاب التجاريين، والحقيقة أنه لا مبرر لهذه العشوائية إلا أن المسؤولين عن الثقافة الآن يسيرون ببوصلة مضللة، يبهرهم الرواج كما يبهر القراء المراهقين، ويشعرون بحجم ما صنعوه في المؤسسات الثقافية من عجز وشيخوخة وتراجع، فيحاولون تعويض الأمر بالتماس الحضور من بوابة المشهورين، ولو كانوا متوسطي القيمة، وإحياء زفة للنجم الرائج لضمان فرصة أفضل لالتقاط صور رائجة، تنفض عنهم غبار التخريب والإفساد الذي راكموه بأياديهم على صورهم القديمة.
على أية حال، أُعلنت النتائج، وفاز أحمد مراد بجائزة الدولة للتفوق، ومنحه بعض المحسوبين على الدولة مائة ألف جنيه من أموال دافعي الضرائب، تقديرا لجهده في تخريب ذوائق أبنائهم، وإشاعة الركاكة والسطحية في نفوسهم، وهذا إهدار صريح للمال العام، يوجب التوقف مع أكاديمية الفنون التي رشحت مراد، ومع المجلس الأعلى للثقافة ولجانه وأعضائه الذين اختاروه، والأهم التوقف مع جوائز الدولة وفلسفتها وأطر عملها، فإذا ظل المولد السنوي على حالته القائمة، مناسبة للترضيات والعطايا وجبر الخواطر، فالأفضل أن نرحم الثقافة ونرحم موارد هذا البلد المحدودة، وننهي «سبوبة الجوائز» حتى لا نظل ندفع مكافآت ومنحا ومعونات مالية لحفنة من الشللين والأرزقية وماسخي الوعي.
نحتاج التفاتة عميقة للشأن الثقافي، ومحاسبة جادة للمخربين فيه عمدا، وإغلاقا عاجلا لأبواب الفساد وإهدار المال العام من خلاله، وتسريحا قاسيا لأنصاف المثقفين الذين يعيثون في وعي هذا البلد، وبغير التوقف والمحاسبة والتنقية سندور في دوامة تبدد ولا تُراكم، لأن من أفسدوا عقودا لن يُصلحوا أو تُصلحهم شهور وسنوات، وما هكذا يُبنى الإنسان أو يتطور وعي الأمم.