شهر قطر الأسود
الثلاثاء، 05 يونيو 2018 04:56 م
اليوم مرت سنة كاملة على قرار الرباعي العربي، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، بمقاطعة إمارة قطر في ضوء دعمها للإرهاب وتهديدها للمصالح العربية والأمن القومي لدول الجوار، الموقف الذي اتخذته الدول الأربعة سعيا إلى الإصلاح والتقويم واستعادة اللُحمة العربية بشكل حقيقي غير مشوّه، حاولت قطر توظيفه لإنتاج مظلومية سياسية جديدة، وتسويق الأمر باعتباره حصارا مضروبا حولها.
لو تجاوزنا محاولات التدليس القطرية قليلا، إلى نقاط أكثر أهمية في الأمر، فإن موقف الرباعي العربي في الخامس من يونيو الماضي كان موقفا سليما، ولو احتمل الأمر اللوم على الدول الأربعة فهو لوم التأخر في اتخاذ هذا القرار، وليس القرار نفسه، وربما كان مبعث التأخر رغبة عربية حقيقية في إمهال قطر متسعًا للتخلي عن ممارساتها العدائية تجاه دول الجوار، أو الرغبة في توثيق الاتهامات وحيازة أدلة نهائية عليها، وربما إحسان الظن إلى المدى الأقصى، ولكن ما حدث جرّاء المهلة الطويلة أن قطر استمرأت سياستها العدائية، وتخيلت أنها في مأمن من الاكتشاف والمساءلة، وزادت من نشاطها محاور التوتر والسخونة العربية، بدرجة تسببت في تعقيد كثير من الملفات الإقليمية.
توثيق الأزمة يبدأ من تاريخ الرابع والعشرين من مايو 2017، رغم أنها في حقيقة الأمر أبعد مدى من هذا التاريخ، وقتها نقلت وكالة الأنباء القطرية الرسمية "قنا" تصريحات لأمير قطر تميم بن حمد، يمتدح فيها إيران ويوجه لوما مباشرا للعرب على موقفهم منها، باعتبارها مركز ثقل إقليميا ومفتاحا من مفاتيح اتزان المنطقة، هكذا زعم الرجل في تصريحاته التي تراجع عنها سريعا، وحذفتها "قنا" من حساباتها في المنصات الاجتماعية، ثم ادعت تعرضها لعملية قرصنة ومسؤولية القراصنة عن بث هذه التصريحات المختلقة، والمفارقة أنه رغم التراجع تواصل "تميم" مع الرئيس الإيراني حسن روحاني بعدها بيومين تقريبا، وأعاد الكلام نفسه الذي تنصل منه سابقا، وسمح لمنصاته الإعلامية وللمنصات الإيرانية بنقله وترويجه على نطاق واسع.
كان واضحا منذ اللحظة الأولى أن قطر تدفع في اتجاه تسخين الأوضاع والذهاب بها إلى صفيح ساخن، أولا عبر تصريحات مستفزة من أميرها، ثم التراجع عن التصريحات، ثم تسريب أخبار عن مسؤولية أطراف عربية، خاصة الإمارات، عن عملية القرصنة المزعومة، وصولا إلى توجيه قناة الجزيرة وباقي المنصات الإعلامية التابعة للإمارة والممولة منها بشكل مباشر، سواء التي يشرف عليها وضاح خنفر المدير السابق لشبكة الجزيرة، أو يشرف عليها عزمي بشارة مستشار أمير قطر، لرفع حدة الخطاب الناقد والعدائي لعدد من الدول العربية، كانت في مقدمتها مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وتصعيد التحركات المشبوهة على الأرض، ودوائر الاتصال والتمويل والدعم اللوجيستي للميليشيات في عدد من الملفات الساخنة.
قبل هذه المحطة كانت دائرة معتمة في السياسة القطرية قد تشكفت جوانب من تفاصيلها، عبر ملف الصيادين القطريين الذين اختطفتهم ميليشيات عراقية في العام 2016، واستمرت مساعي قطر السلمية (ظاهريا) لتحريرهم، حتى نجحت في هذا خلال أبريل 2014، ولكن ما انكشف لاحقا أن مفاوضات طويلة خاضتها الإمارة مع الميليشيات الإرهابية، وأنها وقعت عقدا مع إحدى شركات العلاقات العامة الأمريكية في فبراير 2017 للبحث عن المخطوفين الذين يتصل بعضهم بالعائلة الحاكمة في الإمارة، وأشارت تقارير إلى علاقة الشركة نفسها بوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" وبعض الدوائر قريبة الصلة من قادة الميليشيات، بلغ عقد الشركة مليوني دولار، وأثمر سريعا اتفاقا لتحرير الرهائن بالفعل، كشفت صحف عدة لاحقا، منها فايننشيال تايمز، أن قطر دفعت مقابل هذا التحرير رشاوى تفوق المليار دولار، كتمويل مباشر للميليشيات تحت ستار أنه فدية للرهائن، إضافة إلى مبالغ تراوحت بين 150 و200 مليون دولار ذهبت لعناصر من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، وقال مسؤولون بالحكومة العراقية وقتها إنهم ضبطوا حقائب دبلوماسية قطرية متخمة بالدولارات، وقال المسؤولون إنها بلغت 500 مليون دولار، وكانت في طريقها لعناصر الميليشيات في الجنوب العراقي.
بجانب هذا التداخل المزعج مع ملف الصراع في العراق، كانت الإمارة الخليجية الصغيرة تتورط يوما بعد يوم بشكل أكبر في ملفات سوريا واليمن وليبيا، وهو ما كشفت هذه الدول تفاصيله لاحقا مستعرضة معلومات وحقائق عن طائرات وسفن قطرية، وعن ضباط ومنتسبين للأجهزة الأمنية القطرية، زاروا هذه الدول والتقوا قيادات الميليشيات، بغرض تكييف شكل الصراع وتوجيهه في اتجاهات مقصودة، بعيدا عن الصالح الوطني والعربي، وهو الأمر الذي لا ينفصل عن سوابق السياسة القطرية في هذه الملفات، لعل أشهرها زيارة الأمير السابق تميم بن حمد لليمن في ولاية الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، وتوسطه أكثر من مرة لإنقاذ الحوثيين من قبضة الجيش اليمني والقوات الحكومية، وتقديمه دعما ماليا مباشرا واستضافته لشقيق زعيم الجماعة في الدوحة.
إذن تأكد من أبواب عدة، وعبر شواهد متواترة، تورط قطر غير البريء في عدد من الملفات العربية الحساسة، واستهدافها العمدي لأمن ومصالح دول الجوار، والمراكز الكبرى في المنطقة، سواء في القاهرة أو الرياض، ومع التأكيد جاء الموقف، وقررت دول الرباعي العربي المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية وفرض قيود على تحركات الأفراد وحركة التجارة، فماذا عن آثار القرار بعد سنة من بدء سريانه؟
المؤكد أن محاولة قطر تسويق الأمر باعتباره حصارا ليست دقيقة، إذ إن ثلاثة من الدول الأربعة لا تشترك في أي حدود برية مع الإمارة، وأقل من 50% من حدود الإمارة تتقارب مع ثلاثة من دول الرباعي العربي، بينما أكثر من نصف حدودها تتصل بممرات مائية دولية، وأن طرقا عديدة مفتوحة بين الإمارة والكويت والعراق وإيران، والخليج العربي ومنه إلى المحيط والعالم، كما أن أجواءها مفتوحة باتجاه الكويت والعراق وإيران وسلطنة عمان وغيرها، أي أن فكرة الحصار باعتبارها دائرة محكمة الإغلاق غير متحققة في حالة قطر، وإنما استغلت الإمارة هذا العنوان العريض لخلق مظلومية والاتكاء عليها للهروب من تبعات سياساتها، ومن المطالب العربية التي تأسست على هذه السياسة، ودليل انتفاء فكرة الحصار أن قطر لا تنتج محليا إلا 1% من إجمالي استهلاكها من الغذاء، وحتى الآن ما زالت الأمور مستقرة ومواطنوها ينعمون بحياتهم المرفهة، ما يعني أنه لا حصار حول الإمارة بدليل تمكنها من استجلاب 99% من غذائها عبر هذه الحدود التي تدعي أنها مغلقة.
ربما لا يبدو للناظر من بعيد أن قطر تأثرت بالمقاطعة، ولكن الحقيقة أن خسائرها أكبر من العبور السريع والحصر المتعجل، فالإمارة تخلت عن جانب كبير من سيادتها لصالح النظامين التركي والإيراني، اللذين أسسا قواعد عسكرية تضاف إلى القواعد الأمريكية، ما يعني أن الإمارة التي تتجاوز مساحتها 12 آلاف كيلو متر مربع بالكاد أصبحت ملعبا مفتوحا لجيوش ثلاثة دول، كما أنها في سبيل تعويض الضغط الاقتصادي وتراجع قيمة الريال القطري واختناق حركة السياحة، وتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لجأت إلى تسييل حصة كبيرة من ممتلكاتها واستثماراتها في الخارج، وتوجيه جانب من احتياطياتها لصالح معادلة سوق الصرف وتجاوز آثار المقاطعة وسحب الودائع من البنوك القطرية، إضافة إلى زيادتها للإنتاج والتصدير من الغاز الطبيعي، وهو ما خصم من مؤشرات الأداء الاقتصادي الكلية، واستنزف حصة من الموارد السيادية، والأهم أنه أثبت هشاشة الاقتصاد القطري وعجزه عن مداواة نفسه من الداخل، أو افتقاده للمضادات الحيوية والأجسام المناعية الذاتية إن جاز التعبير.
ضمن الخسائر الضخمة التي منيت بها الإمارة ما شهدته من تراجع في ملف الإعلام، فجانب تآكل المركز المالي والاقتصادي لشبكة قنوات الجزيرة، وارتفاع تكلفة تشغيلها مع حرمانها من الوجود الرسمي في عدد من الأسواق، واضطرارها لتسريح نسبة كبيرة من العمالة لموازنة المصروفات مع المخصصات المحدودة في ضوء الأزمة، فإن قطر خسرت أيضا منصات أخرى كانت تراهن عليها بالدرجة نفسها التي تراهن بها على الجزيرة، فبعد ثلاث سنوات من الممارسات المهنية المشبوهة أنهت مؤسسة "هافنجتون بوست" عقد الشراكة واستغلال العلامة التجارية مع إمارة قطر، ليغلق موقع "هافنجتون بوست عربي" أبوابه، كما تراجع أداء المنصات المملوكة لمؤسسة قطر للإعلام بالخارج، واهتز الموقف المالي والمهني للقنوات المملوكة للإخوان، والموولة من الإمارة، فشهدت قناة "الشرق" مشكلات ومشاحنات واتهامات أخلاقية وسرقات مالية، مع تقلص الدعم وعجز الدوحة عن موازنة موقفها المالي وتلبية احتياجات قياداتها المقيمين في قطر.
أكبر النجاحات التي تحققت منذ تحجيم إمارة الإرهاب وغلّ يدها، هو توفير متسع آمن من التدخلات المشبوهة، لضبط مسارات القضايا الساخنة إقليميا، ولعل أثر هذا الأمر المهم يتجلى في النظر العميق لحالة كثير من الساحات العربية المشتعلة، وما كانت تعانيه قبل قرار المقاطعة ووضع قطر في حيزها الجغرافي والجيوسياسي الضئيل، وبعد هذا القرار، فالمؤكد أن الأوضاع في اليمن بدأت تسير باتجاه الاستقرار، والقوات الوطنية تقترب من تحرير الحديدة، وتُكبد الحوثيين خسائر يومية ضخمة، والأمر في نفسه في ليبيا التي تقترب من تحرير درنة، وفرضت القوات المسلحة الليبية سيطرتها على أغلب مناطق البلاد، والأهم استعدادها لإنجاز انتخابات رئاسية في ديسمبر المقبل، وأيضا سوريا التي سيطر فيها الجيش الوطني على دمشق ومحيطها، وعلى الغوطة الشرقية، وطرد عناصر داعش، كما فعلت العراق بتحرير الموصل وطرد "داعش" والوصول إلى حدود سوريا، وكلها أمور لم تكن لتحدث في وجود قطر على الساحة وتمتعها بحرية حركة في الأجواء الإقليمية.
بعد سنة من المقاطعة العربية، تحاول قطر إظهار أنها لم تتأثر، وفي الوقت نفسه تتبنى خطابا إعلاميا يتحدث عن حصار وتجاوزات إنسانية، وبعيدا عن التناقض الضخم الذي لا تلحظه الإمارة بين خطابيها، فإنها ما زالت تواصل سياستها العدائية، وخلال الأيام الماضية التقى سفيرها في تونس زعيم حركة النهضة (إخوان تونس) راشد الغنوشي، وقالت قيادات في حزب "نداء تونس" إن الإمارة قدمت دعما ماليا ضخما للحركة وزعيمها، كما تواترت أنباء عن توفير الدوحة دعما ماليا ولوجستيا ضخما لميليشيات الحوثيين في اليمن، وقالت مصادر سياسية وعسكرية ليبية مؤخرا إن الإمارة متورطة في فتح خطوط إمدادات لعناصر القاعدة وداعش ومجاهدي درنة وغيرها من التيارات والجماعات المتطرفة، وكل التفاصيل المتكررة - رغم محدودية أثرها ونجاح المؤسسات الوطنية في هذه الدول في تجاوز آثار المكائد القطرية المشبوهة - تؤكد أن من حظ الإمارة الخليجية الضئيلة أن يكون يونيو شهرا أسود، وسجلا لتوثيق فضائحها وسقطاتها، ففيه انكشفت كثير من عوراتها وتجاوزاتها، وفيه تأكد للجميع أنها متورطة في تحركات ضد مصر والسعودية والإمارات والبحرين واليمن وسوريا والعراق وليبيا، وفيه انقلب حمد بن خليفة على أبيه خليفة بن حمد قبل 23 سنة من الآن، وتحديدا في 1995، وانقلب "تميم" على أبيه حمد بن خليفة وانتزع السلطة في تحرك ناعم بدعم ورعاية والدته موزة آل مسند، وفيه كان القرار المهم بالمقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية للإمارة، الذي بدأ بـ4 دول ثم توسع مع جزر المالديف وموريتانيا والأردن والنيجر وعدد آخر من الدول، ما يؤكد أن يونيو سجل مفتوح لسقطات قطر وعارها، وأنه شهر الإمارة الأسود بلا منافس.