ما هو بمصطفى ولا راشد
الأحد، 23 سبتمبر 2018 04:58 م
لا يمكن علاج التطرف بتطرّف مُضاد، يبدو هذا التصوّر ساذجًا وطفوليًّا للغاية. لهذا لا يصحّ في أي وجه للعقل أن تكون مصر في حرب شرسة مع إرهاب يُغذّيه الإسلام المُتطرّف، وفي الوقت نفسه نسكت على تطرّف آخر يُنتج خطابًا سطحيًّا ومصادمًا للنصوص والوعي الجمعي. الصمت على هذه الصورة كأننا نضع رؤوسنا بين مطرقة الدواعش والإخوان، وسندان المُتمسّحين بالدين وأصحاب الخطابات المُتمادية في التجهيل. وإذا كان الأزهر يُفتّش عن حلول لحصار الخطاب السلفي والإخواني، فلا مُبرّر أبدًا للصمت على خطاب مصطفى راشد ومن يحذون حُذوه.
قبل سنوات أطلّ علينا رجل مُعمّم يقيم في أستراليا، قال إنه إمام وخطيب وداعية وشاعر وفقيه وصاحب رأي، وادّعى ضمن ما يدّعي أنه يشغل منصب مفتي أستراليا ورئيس مجلس السلام العالمي، ورئيس مؤسسة الضمير التابعة للأمم المتحدة.. لم يُقدّم الرجل ما يفيد حيازته الفعلية لكل هذه الألقاب، ولا حتى ما يُفيد حمله شهادة الدكتوراة التي يستخدم لقبها العلمي، والأهم أنه لا يُنتج خطابًا يشير ولو من بعيد إلى أنه ذو رأي وفهم ورؤية. إطلالات الرجل بكاملها كاريكاتورية، وأحاديثه سطحية، وفتاواه وآراؤه تثير الضحك والاستغراب وهمهمات "الحمد لله الذي عافانا مما ابتُلي به غيرنا".
يبدو مصطفى راشد طوال الوقت باحثًا عن الشهرة. دعك من أنه لا يملك الحدّ الأدنى من الوعي باللغة والفقه، ودعك من أنه يدّعي صفات لا تتوفر فيه، وأنه يُفتي فيما لا يعلم. لكن شهوة الظهور والانتشار كانت أعلى من كل قدرات الرجل وملكاته، ومن قدرات الردع التي تتوفر لعاقل متّزن من البشر، وهكذا خرج الداعية الإسلامي ليقول "أنا مش متأكد من الإسلام ومش هدعو حد للإسلام" بحسب تعبيره في لقاء تليفزيوني عبر قناة صفا الفضائية. أو قوله إن الحج لسيناء أفضل من مكة، وأحاديثه عن الشذوذ الجنسي وزواج المتعة ومعاشرة الزوجة من الدُّبر، وفرض الصيام على الأغنياء فقط، وعن استحلال الخمر، وتحريمه تعدد الزوجات، ودعوته لإنشاء دولة إسرائيلية فلسطينية، وغيرها من الأقاويل.. عشرات الرؤى والآراء والأفكار الشاذة والغريبة، غير المُؤسّسة على منطق واضح أو فهم مُعمّق للنصوص والمحدّدات الفقهية، يبدو الرجل دائما كأنه استيقظ من النوم توًّا، وقرر الإدلاء بدلوه فيما لا يفهم ولا يعي، بينما ما زال عقله مغيّبًا وعيناه مُغمضتين من أثر النوم.
يدّعي مصطفى راشد أنه مفتي أستراليا وإمام أحد مساجدها الكبرى، منتحلاً صفة الشيخ عبد العظيم العفيفي مفتي القارة الأسترالية الفعلي، ويدّعي أنه دكتور أزهري ودرّس في عشرات الجامعات. مقابل ادّعائه هناك خطاب من جمعية الصداقة المصرية الأسترالية في ميلبورن، ومن مجلس أئمة أستراليا للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر خلال يوليو الماضي، ينفي ما يقوله الرجل، ويطالب بمنع ظهوره إعلاميا، وهناك بيان واضح من الأزهر في فبراير 2016 يتبرّأ منه ويردّ أقاويله وافتراءاته. هكذا يدّعي الرجل أنه اصطُفي من أئمة أستراليا ليكون مفتيا لهم، ويدّعي أنه أزهري راشد ومُؤهّل للفقه والإفتاء، بينما تؤكد الوقائع والحقائق الدامغة أنه لا "مصطفى" ولا "راشد".
ضمن ادعاءاته العديدة يقول مصطفى راشد إنه شاعر، وبالفعل أصدر الرجل ديوانًا بعنوان "العربي الحر"، استدعى فريدة الشوباشي وشريف الشوباشي ونبيل فاروق لتقديمه. وبعيدًا عن أن الثلاثة لا علاقة لهم بالشعر ولا تُقبل شهادتهم الفنية فيه، فإن وريقات "راشد" التي اعتبرها ديوانًا شعريًّا تبدو سخيفة وسطحية وتافهة للغاية، أقرب إلى خطبة جمعة ساذجة لشيخ مُبتدئ، مُعبّأة بمئات الأخطاء اللغوية، نحويًّا وإملائيًّا، وفقيرة تمامًا في البلاغة والخيال والأفكار، وخارج الإيقاع الموسيقي المعروف للشعر العربي. يجتهد الرجل طوال الوقت ليكتب شعرًا موزونًا مُقفّى كما يكتب الشعراء، لكنه لا يكتب شعرًا ولا يُحسن وزنًا ولا قافية، مجرد موضوع تعبير تافه لطفل محدود الوعي والقدرات. وما يفعله الداعية الوهمي أو الدكتور الذي لا دليل على "دكترته" في الشعر، هو نفسه ما يفعله في الفقه والدعوة والعلوم الإسلامية.
قبل أيام أطلّ مصطفى راشد من مدينة الجونة السياحية، ضمن فعاليات افتتاح الدورة الثانية من مهرجان الجونة السينمائي. التقط الرجل صورة بصحبة رجل الأعمال نجيب ساويرس، ونشرها عبر صفحته على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ برّر الأمر لاحقا بأنه يحضر المهرجان لتأكيد أن الفن لا يتعارض مع الدين. الجملة الأخيرة حقيقة مُطلقة لا مراء فيها، الفن الجاد والهادف والحقيقي لا يتعارض مع الدين، والفنانون الحقيقيون لا يتصادمون مع رجال الدين الحقيقيين، ولكن عن أي دين يتحدث مصطفى راشد؟ وهل يعتبر نفسه من رجال الدين الحقيقيين؟ ومن أين أتى بكل هذه البجاحة في ظل براءة واضحة منه في بيانات رسمية من الأزهر ومجلس أئمة أستراليا؟!
ليس لنا أن نُفتّش في النوايا بالطبع، لكن الرجل الذي يدّعي أنه مُفتي أستراليا، يتعمّد دائمًا الحضور في المشهد المصري والعربي، مُقدّمًا المتابعين الذين لا يحتاجون أئمة أو دعاة، ولديهم الأزهر ووزارة الأوقاف وعشرات الآلاف من المساجد والجمعيات الدينية، على مسلمين أغلبهم من المبتدئين وحديثي الإسلام، ويحتاجون دعاة ومرشدين روحيين. يترك الرجل دوره المُدّعى في أستراليا ويحضر على قنوات مصر وفي مهرجانات مصر. ربما يعلم أن دوره في أستراليا لن يُحقق له تطلعاته الشخصية في الشهرة والمال، وربما يتحرّك وفق أهداف غير مُعلنة للخصم من موقع الأزهر والأوقاف وأئمتهما، أو إشاعة البلبلة والفوضى بين عوام الناس. كل الاحتمالات مقبولة في ظل أداء مُرتبك ومنطق مُختلّ ومساعٍ محمومة للالتصاق برجال الأعمال ورؤساء القنوات وأصحاب الحظوة والشهرة من الفنانين واللاعبين والمستثمرين، وكل من يملكون حمل شخص متواضع القيمة والحضور من القاع إلى القمة، أو إضفاء قدر من الوجاهة والانتشار على إطلالته الباهتة.
المتابعة العابرة لإطلالات مصطفى راشد وأحاديثه ولقاءاته التليفزيونية وقصائده الشعرية، تجبرني على أن أهمس في أذن الرجل بعدّة نصائح، فالدكتور الشيخ الداعية الفقيه الشاعر يحتاج قدرًا من القراءة والتثقيف والتفقّه في الدين، يحتاج قدرًا من معرفة الإملاء والنحو وضبط نطقه وكتابته، يحتاج جولة في حديقة المنطق لعلّه يقطف زهرة أو زهرتين منها، فينجو ويرحمنا من الاعتباط والتسطيح والادعاء والكلام الفارغ. قرأت للرجل بضعة سطور لا تتجاوز 300 كلمة اشتملت على أكثر من 40 خطأ لغويًّا، وبعدما كنت أراه شيخًا مكذوبًا وإمامًا مُدّعيًا، أصبحت أراه رجلاً بائسًا ومُثيرًا للشفقة. من لم تستقم لغته لم تستقم حُجّته، ومن لا يُحسن القول لا يُحسن الفهم، ومن يستعصي عليه الفهم يستحيل عليه إفهام غيره. كل هذه البديهيات تبدو درسًا صعبًا للغاية حينما نتحدث عن مصطفى راشد، يحتاج الرجل أن يعود لمقاعد الدراسة مرة أخرى، فلديه من الجهل بالأوّليّات والسطحية في الاستدلالات واعتلال الفكر والتسبيب والاستنتاج ما يكفي لإخضاعه لدورات مُكثفة لاستعادة الوعي والعقل والمنطق، لكن المهم أن يقتنع أنه ممن يجهلون ويجهلون أنهم جاهلون. والأهم أن يكون هناك موقف جاد من "دعاة الشنطة" وأئمة السبوبة المتاجرين بالدين والفن والثقافة والأدب، والساجدين تحت أقدام رجال الأعمال ونوافذ الميديا. فإذا رأيت رجل الدين يسير في ركاب رجل الأعمال، فاعلم أن الشيطان ثالثهما.