خليفة تشافيز يضع فنزويلا في مهب الريح.. هل يقضي مادورو على تركة الزعيم هوجو؟
الأربعاء، 08 أغسطس 2018 05:12 م
قبل 5 سنوات أصبح نيكولاس مادورو رئيسا لفنزويلا خلفا للراحل هوجو تشافيز. وخلال هذه السنوات تسير الأمور من سيئ إلى أسوأ في مناحٍ عدّة، بشكل ربما يهدد بتبديد تركة "تشافيز".
السنوات التي قضاها الرئيس الراحل في سدّة الحكم شهدت إصلاحات اقتصادية ومالية، والأهم أنه تمتع خلالها بقبول والتفاف شعبيين كانا بمثابة الحصار للمعارضة، بشكل ساهم في استقرار النظام، وحتى عندما حدثت توترات نجح الرجل في استيعابها، وعاد لموقعه مرة أخرى مدعوما بالأغلبية الشعبية. هذه الصورة لا تبدو متحققة الآن بأية نسبة مع مادورو.
مادورو يبدد ميراث هوجو
منذ انتخابه في ربيع العام 2013، وحتى فوزه بولاية ثانية في مايو الماضي بأغلبية شككت فيها كل فصائل المعارضة، لم يلعب نيكولاس مادورو الدور الذي كان يلعبه هوجو تشافيز، ولم ينجح في ملء الفراغ الذي خلّفه بغيابه المفاجئ إثر تدهور حالته الصحية ووفاته متأثرا بمعاناته من مرض السرطان.
كان تشافيز قادرا طوال الوقت على المناورة، كما نجح في الإبقاء على مساحة رمادية من التوتر والحذر مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تراها كاراكاس خصما مباشرا لها، بشكل لا يُذيب جبال الجليد، وفي الوقت نفسه لا يترك لها متّسعًا لتضغط على صدر فنزويلا وتكتم أنفاسها. هكذا ظل النظام مستقرا بين فكرة الممانعة والتحدّي للقوة الأكبر في العالم، وبين تأمين التدفقات النفطية وضمان العوائد الدولارية اللازمة لتغطية الاحتياجات والنفقات الداخلية.
مادورو على العكس تماما من هذا الأمر، فشل في الإبقاء على مستويات الاستقرار الاقتصادي المتذبذبة كما كان تشافيز يفعل، وخسر حصة كبيرة من تدفقاته النفطية وعوائدها، وفي الوقت نفسه قاد الأمور إلى ذروة السخونة الممكنة مع الولايات المتحدة وكولومبيا. وفي الفترة الأخيرة بدا الرئيس الفنزويلي كما لو كان يستهلك خطابا شعبيا تعبويا يدفع باتجاه الوصول إلى الحافة، دون أن يكون واضحا ما إذا كان يحتفظ وراء ظهره بخارطة طريق أو خطة طوارئ لإخلاء المشهد قبل أن يشتعل.
ما تعانيه فنزويلا الآن اقتصاديا وسياسيا، سواء بتهاوي العملة المحلية (البوليفار) وتصاعد معدلات البطالة، وتراجع الاستثمار، وتداعي التدفقات النفطية وعوائدها، وتجاوز معدل التضخم 82000% مع توقعات بوصوله مليون في المئة قبل نهاية العام، وفي الوقت نفسه تهديد واشنطن وكولومبيا وإجبارهما على التصريح بالعداء وترجمته عمليا.. كل هذه الأمور وغيرها تؤكد أن مادورو نجح خلال 5 سنوات في تبديد ميراث هوجو.
انهيار اقتصادي فادح في 5 سنوات
قبل وفاة هوجو تشافيز سجل معامل التغيير السنوي، أو معدل التضخم، نسبة لم تتجاوز 5.6%، حسب مؤشرات 2012، أما اليوم فقد وصلت النسبة إلى 82700% بحسب آخر الأرقام أمس. كانت عند مستوى 42000% قبل شهر، ما يُعني أنها تتضاعف تقريبا بشكل شهري، ومن المتوقع أن تتجاوز مليون في المئة قبل نهاية العام الجاري، بحسب توقعات البنك الدولي.
بجانب الصورة الفادحة التي تحملها النظرة إلى معامل التغيير السنوي، فإن النظر إلى سعر صرف العملية الفنزويلية (البوليفار) يكشف تطورا لا يقل فداحة وضغطا، فبينما لم يتجاوز سعر الدولار 6 بوليفارات في العام 2012، يتجاوز الآن 206 آلاف و985 بوليفارا، ويتواصل معدل الهبوط مترافقا مع اختلالات سوق الصرف ووجود أكثر من معدل صرف معتمد من الدولة، بشكل يُرجح أن يتجاوز الدولار الواحد مليوني بوليفار قبل نهاية العام حال استمرار الأمر بالمعدلات نفسها.
لم يجد النظام في كاراكاس مهربًا من هذا النزيف الاقتصادي عبر إجراءات عملية، سواء بضبط اختلالات سوق الصرف، أو وضع معدل أحادي معياري لسعر صرف الدولار، أو السيطرة على التضخم بإجراءات بنكية لامتصاص السيولة وتحجيم الإقراض، وغير ذلك من الإجراءات الضامنة لحصار حالة الانفلات، وإنما لجأ إلى مسلك قد يراه البعض جذريا، لكنه يظل مؤشرا على الخطورة المحتملة، وذلك باللجوء لإطلاق عملة جديدة (من المنتظر طرحها في الفترة المقبلة). في الغالب ستعتمد الدولة على موازنة المعروض النقدي الضخم بأرقام وفئات أقل من العملة الجديدة، ما يُظهر للوهلة الأولى تراجعا في معدل التضخم واتزانا في سوق الصرف، لكنه في الحقيقة لا يتجاوز حقيقة الضبط الورقي الظاهري، في ظل ضعف الاقتصاد الفنزويلي وعدم امتلاك قاعدة صناعية وسوق داخلية قوية حتى الآن.
مادورو يهدد أمريكا ويتراجع أمام الدولار
الضغوط التي يواجهها الرئيس نيكولاس مادور في بداية ولايته الثانية، لم تدفع النظام في فنزويلا للتعامل مع الأمر وفق رؤية منهجية صارمة، أو خطة إصلاح شاملة وواسعة المدى. ظلت خيارات النظام محصورة في الحلول الوقتية أو في الهروب إلى الأمام.
تورط النظام في التغلب على أزمات الاقتصاد بزيادة المعروض النقدي والتوسع في سياسات الإقراض، مع فتح الباب لإيجاد معدل صرف جديد لبيع الدولار، وهو ما شكّل ضغطا قاسيا على العملة المحلية، حتى مع ارتفاع الأسعار وفق هذا المعدل. بجانب هذا حاول "مادورو" الهروب من الاحتجاجات الشعبية بالمراهنة على بناء التفاف شعبي وفق آليات تعبوية، سواء باصنطاع عداء وهمي مع قوى إقليمية ودولية، وتسويق أن فنزويلا ضحية لمؤامرات وعمليات استهداف خارجية، أو بترويج أن الرئيس نفسه هدف للقوى المعادية من الخارج، وكانت آخر حلقات هذه الاستراتيجية محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس السبت الماضي.
في الوقت الذي أسّس مادورو دعائم خطابه الترويجي على أسس شعبوية تستهدف تهييج الشعور الوطني لدى الفنزويليين، وقال في وقت سابق من الشهر الماضي أمام حشد من العسكريين، إن الولايات المتحدة تخطط لغزو البلاد وإن الجيش الفنزويلي جاهز للتعامل مع هذا الاستهداف بحسم، واتهم كولومبيا بالتدخل لتصعيد التوتر الداخلي في البلاد. لم يعمل الرئيس على ترقية القدرات الاقتصادية وتأمين تدفقات النفط وزيادة معدلات الإنتاج والاحتياطي الإنتاجي بشكل يضمن استدامة الصادرات واستدامة الموارد من النقد الأجنبي، في ظل اقتصاد يقوم في جانبه الأكبر على العوائد النفطية.
أكبر كوارث النظام في فنزويلا تتمثل في السماح للدولار بالتغول في السوق المحلية. فالعملة الأمريكية التي تتجاوز حاليا 206 آلاف بوليفار، لم تكن تتجاوز قبل أقل من 15 عاما 1.6 بوليفار. في وقت لاحق تبنى النظام معدّلا ثنائيا للصرف يوفر غطاء سعريا منخفضا لتمويل سلّة الواردات من السلع الأساسية والاستراتيجية، بجانب مستوى تسعير أعلى للواردات الأخرى. وفي 2012 اعتمدت كاراكاس نظام ثلاثيا للصرف بسعرين منخفضين للدولار بغرض تمويل الواردات الأساسية والاستراتيجية، وسعر ثالث لبيع الدولار للراغبين، والنقطة الأخيرة كانت سببا في زيادة الطلب على الدولار وتراجع العملة المحلية، وتتجلّى هذه الأزمة بالنظر لمستويات الأسعار الثلاثة في العام 2015، التي سجلت 6.3 و12 و172 بوليفارا على التوالي.
إتاحة الفرصة لمعدل صرف حرّ يتيح تبادل الدولار على نطاق واسع، كان سببا في تنامي الطلب على العملة الأمريكية مع تراجع الاقتصاد والعملة المحلية، وظل الأمر يسير وفق هذا المعدل الطردي. ليصبح الدولار ملاذا آمنا للمواطنين في أجواء ضاغطة وسوداوية، وهو ما سرّع معدلات تهاوي البوليفار وتزايد التضخم. يمكن القول إن "مادورو" الذي يهدد الولايات المتحدة ورئيسها وجيشها، ويؤكد قدرته على التصدي لها وخوض صراع عسكري مباشر معها، خسر بالضربة القاضية أمام الدولار.
البحث عن ثغرة للهروب من المستنقع
ما تكشفه المؤشرات والأرقام يؤكد أن النظام في فنزويلا يشهد محنة قاسية. موارد الدولة ليست في أفضل أحوالها مع اهتزاز التدفقات النفطية وعوائدها، الاقتصاد يتكبّد مزيدا من الخسائر مع تنامي التضخم وتراجع سعر العملة مقابل الدولار والعملات الرئيسية، السوق الداخلية ليست قوية بما يكفي لتجنب الانهيار حتى مع إطلاق عملة جديدة، وفي الوقت نفسه ليست هناك قاعدة صناعية يمكن أن تمثّل رافعة لفنزويلا إذا قررت التقشف والانغلاق لحين التعافي من آثار النزيف الحاد.
خطوة إطلاق عملة جديدة (بالتحديد إلغاء 5 أصفار من القيمة الاسمية ليتقلص كل مليون بوليفار إلى 10 بوليفارات) لا تمثّل حلا فعالا للأزمة. المعروض النقدي سيجري تقليصه رقميا، لكن مع الحاجة لمزيد من التدفقات الدولارية لتدبير الاحتياجات الأساسية، ومخاوف المواطنين وبحثهم عن ملاذات آمنة وتنامي طلبهم على الدولار، واستمرار الأزمة في قطاع النفط، وترافق الضغوط الاقتصادية مع احتجاجات شعبية، ستفقد العملة الجديدة كثيرا من قيمتها بوتيرة متسارعة، وستضطر الحكومة لتدبير العجز عبر زيادة المعروض النقدي غير المُؤمّن بغطاء احتياطي، ما يُعني مزيدا من التضخم والجري باتجاه النقطة الراهنة مرة أخرى.
بجانب الحلول الاقتصادية التي لا تبدو ناجعة، لا يمكن النظر لمحاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس نيكولاس مادورو السبت الماضي بمعزل عن الأزمة. خاصة مع التطورات التي تلتها، سواء بتعقب الأحزاب والجماعات المعارضة واعتقال عشرات منها، أو مطالبة "مادورو" للفنزويليين بدعمه، واتهام الولايات المتحدة وكولومبيا بالضلوع في العملية، وصولا إلى اعتراف ضابط سابق بالاشتراك في مخطط اغتيال الرئيس.
بحسب ما نقلته وكالة رويترز اليوم، فقد اعترف سالفاتوري لوتشيسي، ضابط سابق وناشط مناهض للحكومة سبق سجنه لتورطه في احتجاجات سابقة، بتدبير الهجوم بطائرتين مفخختين دون طيار، بالتعاون مع معارضين للنظام أسماهم "المقاومة"، وهي مجموعة من الطلاب ونشطاء الشارع وضباط الجيش السابقين، مشيرا إلى أن المحاولة جزء من تحركات متواصلة ضد مادورو. بساطة ما يقوله الضابط عن الحركة والمحاولة، والوصول السهل إلى موقع مادورو وسط حشود عسكرية تضم أكثر من 17 ألف ضابط وجندي في احتفال بذكرى تأسيس الجيش، كلها أمور تزيد الشكوك حول المسألة برمّتها.
استباق "مادورو" للتحقيقات باتهام الرئيس الكولومبي السابق خوان سانتوس، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالتورط في محاولة اغتياله، لا يمكن النظر له باعتباره تصريحا ناتجا عن ضغوط وتوتر ما بعد النجاة، ربما كان أقرب للبحث عن ثغرة للهروب من المستنقع بتضخيم الأمر، أو كان تحرّكًا مخططًا له سلفًا في إطار استثارة مشاعر المواطنين والبحث عن غطاء شعبي، خاصة أن المحاولة سبقها تصريح لمصدر مقرب من مادورو، نقلته وكالات أنباء عدّة، عن احتمال تعرضه لمحاولة اغتيال.
الغريب أن "سانتوس" الذي اتهمه مادورو بالتورط في محاولة اغتياله، انتهت رئاسته لكولومبيا بشكل فعلي بالتزامن مع محاولة الاغتيال، عقب فوز إيفان دوكيه بالانتخابات التي جرت في يونيو الماضي، كما أن الرجل حاصل على نوبل للسلام في 2016 على خلفية توصله لاتفاق تاريخي مع حركة "الفارك" الشيوعية المتمردة بعد صراع ممتد منذ العام 1964 أودى بحياة أكثر من 220 ألف مواطن وشرّد 6 ملايين آخرين. ولم يُعرف بتورطه في تأجيج صراعات وتوترات إقليمية، إضافة إلى أن واشنطن تتعامل مع فنزويلا ودول رأس أمريكا اللاتينية باعتبارها حديقة خلفية قيد السيطرة، وتتغاضى كثيرا عن نزوات بعض مسؤوليها وأنظمتها، وكانت تتعامل بهذا المنطق مع هوجو تشافيز كثيرا، واعتمدت الأمر نفسه مع مادورو، كما أن انشغالها في ملفات ساخنة، سواء الصراع مع روسيا أو الحرب التجارية مع الصين أو إقرار حزمة عقوبات على إيران أو تفكيك الترسانة النووية لكوريا الشمالية، كلها لا تجعل فنزويلا ورئيسها على لائحة الاهتمامات الحالية، وبالتأكيد ليس في صالح الإدارة الأمريكية أن تشهد حديقتها الخلفية أي توترات ضاغطة في الوقت الراهن، بما قد ينعكس عليها في ملفات الهجرة والتسليح والعمليات العدائية.
الاقتصاد لا ينجو بالخلاص من المعارضة
في الأسابيع الأخيرة لا يمكن اقتناص تصريحين مهمين للرئيس الفنزويلي عن ملفات الاقتصاد المعقدة، بينما يتحدث كثيرا عن التوترات والمؤامرات والاستهداف. آخر هذه الأحاديث في اجتماع اليوم مع الحكومة بقصر "ميرافلوريس" بالعاصمة كاراكاس. خلال الاجتماع تحدث الرئيس عن محاولة اغتياله الفاشلة أثناء العرض العسكري الاحتفالي بالعيد 81 للجيش، وأشاد بجهود قوات الحرس الوطني في حمايته.
بجانب الضوضاء الإعلامية التي يثيرها النظام الفنزويلي حول محاولة الاغتيال، وترددت في تصريحات للمدّعي العام وعدد من الوزراء والمسؤولين الذين اتهموا كولومبيا والولايات المتحدة كما فعل "مادورو". احتجزت الأجهزة الأمنية 6 أشخاص قالت إنهم على صلة بمحاولة الاغتيال، وحذرت المعارضة من حملة استهداف متوقعة، مشيرة إلى تنامي الإجراءات العنيفة بحق المعارضة والسياسيين في الفترة الأخيرة.
قلق المعارضة بدا واضحا بقوة في البرلمان الفنزويلي، وهو الهيئة الوحيدة ضمن هيئات السلطة التي تحضر فيها المعارضة بقوة. وفي ضوء ما قالت المعارضة إنه استهداف مباشر لها، طالب البرلمان ببدء تحقيق جاد وعادل في محاولة الاغتيال سعيًا إلى "توفير معلومات دقيقة عن الوقائع التي تحدّثت عنها الحكومة الاشتراكية". متابعا: "نرفض الطرق العنيفة أو غير العنيفة التي تحيد عن المبادئ المنصوص عليها في الدستور. ونؤكد التزام الحلول السياسية والمؤسسية والسلمية" وحمّل البرلمان الحكومة والجمعية التأسيسية مسؤولية العنف في فنزويلا لأنهما "ساهمتا في تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية عبر عرقلة الآليات الدستورية التي من شأنها إتاحة حلول سلمية فعالة" بحسب بيان صادر عن البرلمان، كانت أخطر فقراته الإشارة إلى نضال الفنزويليين للوصول إلى "انتخابات حرة تحت رقابة دولية".
إفراط النظام في الحديث عن المؤامرة، ومخاوف المعارضة من الملاحقة، يُرجّحان أن تتواصل مسيرة فنزويلا باتجاه تكبّد فاتورة اقتصادية وإنسانية ضخمة. يبدو أن المعارضة تواجه أفقا سياسيا مغلقا رغم سيطرتها على البرلمان، ما يُعني تعطيل السلطة التشريعية وتقليم أظافرها، وفي الوقت نفسه لا يرى النظام مشكلة مُلحّة تعترض طريقه إلا المعارضة، ويسعى للخلاص منها أو تحجيم حضورها في المشهد، بينما لا يمكن أن يكون هذا المسار مسلكًا عمليًّا للهروب من الأزمة وإنقاذ الاقتصاد من التردّي.
فنزويلا في جنازة هوجو تشافيز
الأوضاع في فنزويلا بشكل عام كارثية. البلد الذي يملك مخزونا ضخما من النفط، ويُعد أحد أكبر مُصدّري البترول في العالم، يواجه أزمة حادة في البنزين والطاقة. ويعجز عن تدبير احتياجات المواطنين من السلع والخدمات المدعومة، في مقدمتها الطاقة والغذاء والدواء وخدمات النقل. يعود هذا العجز إلى تراجع الاحتياطي النقدي وتقلص عوائد العملات الأجنبية بشكل حاد، ما يفرض على النظام التحرك باتجاه تجاوز الضغوط الاقتصادية حتى لو تتطلب الأمر تقديم بعض التنازلات في مواجهة الاحتجاجات الشعبية ومطالب المعارضة. في كل الأحوال يصعب خوض معركة الاقتصاد دون حدٍّ أدنى من الوفاق والقبول الشعبي.
كانت فنزويلا في وقت سابق أغنى دول أمريكا اللاتينية. الآن هي أقرب إلى الدولة الفقيرة والمدمرة، وما شهدته من تراجع في الاقتصاد وخسائر في الموارد والاحتياطيات يحتاج عقودا لتجاوز آثاره، خاصة مع تراجع الدولة عن دورها الداعم لكثير من احتياجات المواطنين، وإلغاء كثير من الإعانات وبرامج الرعاية التي كانت تمثّل قشّة يتعلق بها الفقراء في البلاد، بينما ما زال النظام مصرًّا على عناده ومواقفه المتشددة سياسيا واقتصاديا، بشكل لا يُبشّر بتجاوز الضغوط أو الخروج من النفق المظلم.
هذه التحديات التي يتجاهلها مادورو وحكومته، في الوقت الذي يلقون فيه اللوم على الجيران بالقارة اللاتينية، أو على الولايات المتحدة الأمريكية، لا يُعني أن النظام ينظر للأمور في سياق مُتّزن، أو يُرتّب أولوياته بطريقة سليمة وتُبشّر بالحل. خليفة هوجو تشافيز الذي وصف نفسه بنصير الفقراء ووجه ملايين الدولارات لبرامج الدعم والرعاية الاجتماعية، يبدو الآن كما لو كان عدوًّا لسلفه وأستاذه، حتى لو لم يقصد هذا، لكن كل تحركاته وقراراته وتصريحاته وسياسات حكومته تثير الأعاصير، وتُبدّد ميراث "تشافيز" المادي والمعنوي. لن يخسر أحد في هذا الأمر إلا "مادورو" ورجاله، بالتأكيد ستخرج فنزويلا مُثخنة بالجراح، لكنها ستخرج، وسيكون خروجها كما لو كان جنازة مهيبة لـ"تشافيز" وتظاهرة حاشدة ضد مادورو.