كوريا تُعيد الأموات وأمريكا تحاصر الأحياء.. هل تقتص واشنطن الآن لقتلاها في 1953؟
الخميس، 02 أغسطس 2018 09:00 م
كرم بيونج يانج وصلف واشنطن
في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي اندلعت الحرب الكورية، التي أدت لاحقا لانفصال الكوريتين وخوضهما رحلة صراع وعداء ممتدة حتى الآن، وفي هذه الحرب قُتل أكثر من 35 ألف أمريكي (7700 في عداد المفقودين حتى الآن بينهم 5300 في كوريا الشمالية) وبينما أُعيدت 229 مجموعة من الرفات بين 1990 و2005، توقف الأمر بشكل كامل قبل ثلاث عشرة سنة مع تدهور علاقات البلدين في ضوء الخلاف حول الملف النووي.
مع العودة للتقارب مؤخرا بادرات كوريا الشمالية بإعلان استعدادها إعادة رفات الجنود الأمريكيين. بدأت العملية بعد قمة ترامب وكيم في سنغافورة بأيام، وجرى تسليم دفعة سابقة، وخلال الأسبوع الماضي أُعيد 55 صندوقا، وقبل ساعات سلّمت بيونج يانج رفات عشرات آخرين، ونظمت الولايات المتحدة مراسم عسكرية رسمية لاستقبال الرفات في قاعدة "بيرل هاربر هيكام" بولاية هاواي، بحضور نائب الرئيس مايك بنس، الذي قال إن "البعض أسموا الحرب الكورية بالحرب المنسية، لكننا اليوم نقدم البرهان على أننا لم ننس هؤلاء الأبطال إطلاقا".
عملية تسليم الرفات التي شارك فيها 500 مسؤول من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وقيادة الأمم المتحدة أمس الأربعاء، كانت تعبيرا واضحا عن عزم بيونج يانج على المضيّ قُدمًا في مسار التهدئة مع واشنطن. ويبدو أن الرسالة فُهمت في البيت الأبيض على المحمل الإيجابي، إذ عبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة عبر حسابه على تويتر" عن امتنانه للزعيم الكوري الشمالي، وقال في تغريدته: "أشكر الزعيم كيم جونج أون على الوفاء بوعده وبدء إرسال رفات أحبائنا المفقودين. لست مندهشا على الإطلاق من اتخاذك هذا الإجراء الجيد، وأشكرك على خطابك اللطيف، وأتطلع لرؤيتك قريبا".. لكن رغم هذه المشاعر الدافئة فإن التعبير عن الامتنان والتطلع للقاء لم يُترجم لإجراءات عملية إيجابية من جانب واشنطن حتى الآن.
منذ اللحظة الأولى لقرار الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون بالتخلي عن ترسانته النووية لقاء رفع العقوبات والتقارب مع الولايات المتحدة، كان واضحًا أن الأمر يُعزى إلى الحصار الخانق والأوضاع الاقتصادية الصعبة والنزيف المتواصل الذي تتكبده بيونج يانج في ظل عجز واضح عن توفير الاحتياجات الأساسية لملايين من مواطنيها.
وضع كوريا الشمالية الحالي لا يخصّ صعوبات اقتصادية عادية وعجزا روتينيًّا عن تدبير الموارد، وإنما يتفاقم الأمر باتجاه المعاناة من أزمة إنسانية، وهو ما أكدته بيونج يانج اليوم بالدعوة إلى معركة شاملة واتخاذ موقف جاد من مخاطر التغيرات المناخية والارتفاع المتواصل في درجات الحرارة بالشكل الذي يهدد مواردها الزراعية ويُشكّل إنذارا قويًّا بالاقتراب من حافة "الكارثة الطبيعية" ومواجهة خطر المجاعة واسعة المدى.
وكالة "رويترز" نقلت عن مسؤولين كوريين شماليين قولهم، إن "الجفاف الناتج عن درجات الحرارة المرتفعة تسبب في كارثة طبيعية غير مسبوقة". وحذّرت بيونج يانج من أضرار فادحة قد تلحق بالمناطق الزراعية والمحاصيل الاستراتيجية بشكل يهدد بتقويض الاقتصاد المعتمد على الزراعة بالدرجة الأكبر.
في السياق ذاته قالت صحيفة "رودونج سينمون" الكورية الشمالية إن التغيرات المناخية وظاهرة ارتفاع درجات الحرارة "أكبر كارثة طبيعية تواجهها البلاد، ولم تحدث من قبل" داعية إلى التحرك بشكل جاد وتعبئة كل الجهود والإمكانات المتاحة لمكافحة خطر الجفاف، خاصة أن الأضرار بدأت تظهر بوضوح على محاصيل الذرة والأرز، بشكل يُهدد بالمعاناة من موسم فقير والعجز عن تدبير الاحتياجات الأساسية من السلع الاستراتيجية.
الجميع معا ضد "كيم"
يبدو الزعيم الكوري الشمالي كمن يقف في ساحة الرماية بمفرده، بينما تتجه صوبه فوهات البنادق، الأصدقاء قبل الأعداء يضعونه في مجال التصويب، ولا يُفصح المشهد - محدود الخيارات - عن ثغرات للهروب، أو بطاقات للمناورة وتحسين الموقف التفاوضي، وربما لا بديل عن الاستجابة حتى لو كانت الشروط قاسية.
الحليف الصيني لا يبدو داعمًا لكوريا الشمالية كما كان الأمر في السنوات الماضية. فرغم دعوة بكين اليوم لوضع آلية للتهدئة ونزع السلاح النووي وإحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية، لم تقدم ما يُشير إلى توفر النية العملية لإيجاد هذه الآلية أو دعمها، فقط طالب وزير الخارجية وانج يي الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بالإبقاء على اتصالاتهما والعمل على تبديد المخاوف وإنجاح المحادثات. ربما يرتبط الأمر بتنامي حدّة الصراع التجاري وتحسّب بكين لمواجهة درامية قد تترك آثارا سلبية على اقتصادها الزاحف على قدميه وبطنه، فرغم ضخامة قدراتها الاقتصادية وارتفاع ما تسجله من معدلات نمو، تظل الصين رهينة للسوق العالمية وتحولاتها، في ظل عجز سوقها الداخلية عن امتصاص إنتاجها وفوائضها من السلع والخدمات. الجارة الجنوبية لم تنس هي الأخرى على ما يبدو ميراث الصراع، ولا تشعر بالأمان طالما ظل النظام الكوري الشمالي محافظا على كلّ أظافره أو بعضها، والولايات المتحدة تمضي في طريق طحن عظام بيونج يانج، ربما لتقديم عبرة للدول المارقة أو التي تفكر في الخروج على الأطر التي ترسمها واشنطن، وربما لتخليص ثأر قديم يعود لـ65 سنة مضت.
خلال الشهر الماضي زار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بيونج يانج، والتقى مسؤولين بارزين بالحكومة الكورية. وقتها قال إن رفع العقوبات مرهون بإنجاز تفكيك كامل للترسانة النووية، وألمح لمواصلة كوريا الشمالية برنامجها النووي وتخصيب اليورانيوم في بعض المواقع. بعدها زار اليابان وكرر التلميحات نفسه، ثم أكد عليها في تصريحات جديدة عقب عودته لواشنطن، بينما أصدرت بيونج يانج بيانا شديد اللهجة قالت فيه إن تعامل واشنطن معها أقرب إلى "أسلوب العصابات" ربما في إشارة إلى مسلك تعتمده الإدارة الأمريكية للحصول على كل شيء دون تقديم أي شيء.
اليوم كرّرت كوريا الشمالية دعوات سابقة لجارتها الجنوبية، بقدر تعبيرها عن حُسن النوايا فإنها تُشير إلى شعور لدى نظام بيونج يانج بالاستهداف المباشر والتعنت من جانب حكومة "سول". ففي تقرير نشرته صحيفة "رودونج سينمون" الناطقة باسم حزب العمال الحاكم، جدد النظام دعوته للجارة الجنوبية لاتخاذ إجراءات حقيقية لتحسين العلاقات، متهمًا "سول" بالمماطلة والتمسك بالعقوبات المفروضة على بيونج يانج.
في رسالة الحزب الحاكم التي نشرتها صحيفته ونقلتها وكالة أنباء "يونهاب" الكورية الجنوبية، طالب نظام بيونج يانج الحكومة في "سول" بالعمل الجاد والمكثف لتنفيذ مخرجات الاتفاق الذي أقره زعيما البلدين في أبريل الماضي، وحل القضايا العالقة داخليا دون اعتماد على القوى الخارجية. وأشارت الصحيفة إلى أنه "إذا تمسك الجنوب بنظام العقوبات والضغوط، فلن يكون من المتوقع حدوث تقدّم فعلي في العلاقات. فالموقف إزاء إعلان بانمونجوم يجب أن يظهر من خلال الأفعال لا الأقوال".
إعادة الأموات وإبادة الأحياء
بطبيعة الحال لا يمكن تجاهل سنوات من العناد والتمادي في تهديد الجميع، وتبرئة كوريا الشمالية الآن والتعامل معها كملاك بجناحين. لكن لا يمكن أيضا تجاهل كل بوادر حُسن النية وإيقاف اللحظة العملية عند مشهد ما قبل يونيو 2018. فإذا كانت كوريا الشمالية شيطانا يسعى إلى التوبة، فإن بعض الأطراف الأخرى في المعادلة ليست ملائكة، بل ربما كانوا شياطين، مع فارق أنهم لم يُقدّموا ما يشير إلى رغبتهم في التوبة.
إذا افترضنا أن تشدد كوريا الجنوبية تجاه جارتها الشمالية ينطلق من مخاوف حقيقية قائمة على الجوار المباشر وخطورة تنامي القدرات العسكرية لبيونج يانج، وأن تراجع الصين بدرجة كبيرة عن موقفها الداعم لنظام كيم جونج أون مبعثه الانشغال في ملفات أخرى ساخنة، أو السعي للتهدئة مع الولايات المتحدة، فإن موقف الأخيرة لا تتوفر مبررات كافية للتعامل معه خارج إطار الاستهداف القاسي، والسعي الحثيث لكسر الإرادة.
ربما تستهدف واشنطن تقديم نموذج للتأديب وتوجيه السياسة العالمية عبر نمط التعامل مع كوريا الشمالية، بالشكل الذي يجعل المشهد أقرب إلى عظة حيّة تردع راغبي التمرد عن السير في هذا المسار. لكن حتى هذا الهدف لا يمكن أن يمنع الإدارة الأمريكية من مدّ يد العون لبيونج يانج في محنتها الاقتصادية، والعمل على تقليص الآثار الضاغطة للعقوبات، خاصة أنها تُهدد معيشة ملايين الكوريين وحياتهم. ربما لا معنى وراء كل هذه التفاصيل والضغوط إلا أن الولايات المتحدة لم تنس ثأرها في الحرب الكورية، وأن قدمها تقف في 2018، لكن يدها تحمل بندقية من طراز 1953.. لهذا ترى أنه من الطبيعي أن تُعيد لها كوريا الشمالية رفات الجنود بينما تعمل هي على خنق الكوريين المهددين بالمجاعة. في حالة الحرب الثأرية فقط يُمكن فهم المنطق وراء الردّ على إعادة الأموات بإبادة الأحياء.
جددت وسائل الإعلام الكورية الشمالية، اليوم الخميس، مطالبها لكوريا الجنوبية باتخاذ إجراءات جوهرية لتحسين العلاقات الثنائية، وألقت باللائمة على حكومة سول لمماطلتها وتمسكها بنظام العقوبات العالمى.