ميزانية البنتاجون تقفز 20% في سنتين.. هل تحافظ واشنطن على قوتها أم تهدد العالم؟
الخميس، 02 أغسطس 2018 10:00 م
%87 من نواب أمريكا يدعمون البنتاجون والتسليح
أمريكا تنتزع نصف حصة العالم من الإنفاق العسكري
ما سبق ليس كل ما تتضمنه خطة التسليح الروسية. في مارس الماضي خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلنا عن قائمة من الأسلحة الجديدة، واعتبر البعض خروجه عملا دعائيا مع استعداده وقتها للانتخابات الرئاسية للفوز بولاية ثانية، بينما رأى آخرون أنه رسالة للولايات المتحدة الأمريكية في ظل مناخ التوتر والشحن بين البلدين، واستمرار تحقيقات واشنطن ومُدّعي وزارة العدل الأمريكي روبرت مولر في مزاعم تدخل موسكو في الانتخابات الأمريكية التي جرت خلال نوفمبر 2016 وفاز فيها دونالد ترامب.. الرأي الأخير عزّزته مواقف الإدارة الأمريكية وتصريحات عدد من وجوهها البارزة، الذين علّقوا على ما أعلنه "بوتين" محذّرين من إشعال سباق تسلّح قد يزيد حدّة الصراع السياسي والعسكري ويضغط على الاقتصاد ومستويات النمو والاستقرار التي يشهدها العالم.
بطبيعة الحال لا يُمكن الجزم بأن واشنطن تخاف من موسكو، ليس فقط لأنها القوة الأولى عالميا، ولكن لأن جبهات الصراع عديدة ومفتوحة، وبطاقات المناورة والمساومة بين البلدين أكثر وأيسر من أن تقود لنزاع مسلّح. لكن حتى لو أقررنا بتوازن القوى البارد بما يكفي لردع أي من البلدين عن التفكير في تصعيد الأمور، يظل باب القلق مفتوحًا واحتمالات التطور الدراماتيكية للمشهد قابلة للتحقق، خاصة إذا سعى طرف منهما لفرض إرادته في ساحة من ساحات المواجهة الناعمة، سواء في سوريا أو غيرها.
الصين وفنزويلا وتركيا وإيران.. مَن الأكثر قلقًا؟
رغم الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، لا يوجد ما يدعو للقلق من تطور الأمر لنزاع عسكري. حزمة الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن على سلع صينية بقيمة 34 مليارات دولار، وردّت عليها الأخيرة بشكل دفع ترامب للتهديد بتوسيع مدى الحماية ليشمل سلعًا بقيمة 200 مليار دولار بنسبة رسوم 25%، من غير المتوقع أن تتطور كثيرا أبعد من هذا. الميزان التجاري بين البلدين يميل لصالح الصين بما يتجاوز 375 مليار دولار، ما يجعل بكين الطرف الأضعف في حرب الرسوم الحمائية، وحتى مع دعم واشنطن لتايوان التي تسعى للانفصال وتعتبرها الصين إقليما تابعا لها، فلن يذهب البلدان في الغالب إلى الحرب، وعلى الأرجح ستنجح الإدارة الأمريكية في فرض وجهة نظرها والحصول على تنازلات اقتصادية من الصين، خاصة أن الأخيرة لا تملك سوقا داخلية قوية كالسوق الأمريكية، وتظل الطرف الأكثر عُرضة للتأثر جرّاء أي نزاع تجاري واسع وطويل المدى.
في فنزويلا لا يختلف الأمر، رغم الفروق الضخمة واختلال ميزان القوى قياسا على الحالة الصينية. البلد الذي يحتل واجهة أمريكا الجنوبية تعتبره الولايات المتحدة حديقة خلفية لها، ولا يُشكّل تهديدا مزعجا في واقع الأمر، وحتى تصريحات رئيسه نيكولاس مادورو عن استهداف واشنطن لبلده واستعداد الجيش الفنزويلي للرد، لا تخرج عن كونها استهلاكا محليا يستهدف أمرا من اثنين، إما تعزيز موقعه في المنافسات الرئاسية المرتقبة، أو التغطية على الفشل الاقتصادي مع تأثر صادرات النفط (المورد المالي الأهم للدولة) وتسجيل معدلات التضخم قفزات قياسية بتجاوزها 15000%.. وفي النهاية لن تتطور الأمور، وحتى لو تطورت فإن الولايات المتحدة لا تحتاج للاستعداد الاستثنائي أو زيادة إنفاقها العسكري للتعامل مع مواجهة بعيدة الاحتمال من بلد ضعيف كفنزويلا.
حالة تركيا قد تكون أكثر سخونة من الحالتين السابقيتن، في ظل تطلعات سياسية تقود إدارة أردوغان للاشتباك واسع المدى مع الملفين العراقي والسوري، وهما من الملفات المهمة بالنسبة للولايات المتحدة، ورغم تحرش الجيش التركي بقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب (المدعومة من واشنطن) يظل الأمر قابلا للسيطرة والضبط. أخطر ما في علاقات البلدين محاولات أنقرة لتعميق قنوات الاتصال مع روسيا، الغريم اللدود للولايات المتحدة، وضغوط الأخيرة على نظام أردوغان للتخلّي عن هذه التطلعات، وتوظيف صفقة مقاتلات "إف 35" في هذه الضغوط برهن تسليمها لتركيا بتراجع الأخيرة عن توقيع عقد شراء منظومة الدفاع الجوي المتطورة "إس- 400". نقطة التوتر الوحيدة المرتقبة ستكون مع بدء سريان العقوبات الأمريكية على إيران، ومواصلة أنقرة شراء النفط والغاز منها، بجانب تسهيل تهريب تدفقاتها النفطية للخارج، كما فعلت في فترات العقاب السابقة. لكن حتى هذا الموقف لن يقود إلى نزاع عنيف، ويمكن للولايات المتحدة التعامل معه بالضغوط الاقتصادية والحصار السياسي وتقليم أظافر تركيا في سوريا والعراق، بشكل يردع أنقرة عن تماديها في التحدي والمعاندة.
هكذا يبدو القلق نصيبا مستحقا لإيران وحدها. فالبلد الذي يشهد نزيفا اقتصاديا دفع عملتها المحلية خطوات عديدة للخلف (الدولار سجل مؤخرا 122 ألف ريال إيراني) بشكل تسبب في اشتعال تظاهرات احتجاجية واسعة، شملت مؤخرا فئة التجار وصغار المستثمرين التي طالما عُرفت بولائها للمرجعيات الدينية ونظام الملالي، لا يبدو أنها تحتمل مزيدا من الحصار الاقتصادي في وقت تخسر فيها كثيرا من مناطق نفوذها، ولا تستطيع التراجع عن دعم النظام السوري والجماعات الشيعية في العراق وحزب الله اللبناني وجماعة عبد الملك الحوثي في اليمن. ما يُعني أن أي ضغط اقتصادي زائد سيُمثّل ضربة موجعة للبلد المغلق على نفسه، بشكل يزيد حدّة الاحتجاجات الشعبية، ويبتر أذرعها الممتدة خارج الحدود الإيراني، بما يحرمها من بطاقات تفاوض مهمة للضغط على واشنطن والبقاء في المشهد السياسي الإقليمي.
يزيد من سوداوية المشهد أن الولايات المتحدة تبدو مُصرّة على إنفاذ عقوباتها، وتمارس ضغوطا على كثير من حلفائها للاستجابة للأمر. في النهاية ستستجيب دول أوروبا والمنطقة العربية، وحتى مساندة روسيا وتركيا والصين لن تكون فعالة في تجاوز الآثار السلبية على الاقتصاد وقطاع الطاقة الإيرانيين. هذه المحنة قد تدفع طهران لتنفيذ بعض تهديداتها على سبيل الزحف الاضطراري لتقوية الموقف، كأن تحرك حزب الله اللبناني لشن ضربات صاروخية على بعض الأهداف الإسرائيلية، أو تُغلق مضيق هرمز أو توجه الحوثيين لاستهداف مضيق باب المندب بما يضغط على تدفقات النفط العالمية. هذا الأمر يُمثّل لعبًا متهورا بالنار، لن تصمت عليه واشنطن بطبيعة الحال، وقد يتبعه توجيه ضربات عسكرية خاطفة أو حتى شنّ عملية واسعة المدى على أهداف إيرانية داخلية أو خارج المدى الجغرافي للدولة.. يمكن القول إن إيران في موقف لا تُحسد عليه، تزداد قسوته ومآلاته الصعبة مع تعزيز القدرات العسكرية الأمريكية ودعم موازنة البنتاجون بصورة تسمح للجيش الأمريكي بخوض صراع شامل دون كُلفة طارئة أو ضغط على الاقتصاد الأمريكي ومستويات عجز الموازنة المُحدّدة سلفًا.
جولة جديدة من الحرب الباردة
رغم اتّزان المشهد وفق طبيعة الملفات وأهداف اللاعبين البارزين فيها، باستثناء المشهد الإيراني، لا يمكن القول إن زيادة الإنفاق العسكري الأمريكي بهذه النسبة الكبيرة حدث عادي أو عارض، ولا إنه سيمر بشكل هادئ ودون تدابير من الخصوم والغرماء التقليديين.
روسيا التي بدأت سباق التسلّح بينما كان الإنفاق العسكري الأمريكي لا يقترب من 4% من الناتج المحلي، لن تظل عند معدلات التسلح نفسها وقد قفزت موازنة الجيش الأمريكي إلى 4.2% من الناتج المحلي. الصين لن تظل على تركيزها في السباق الاقتصادي مع إهمال القوة العسكرية، وربما تزيد الإنفاق الذي لا يتجاوز 2% من ناتجها المحلي حاليا.. العالم بكامله قد يجد نفسه متورّطًا فجأة في سباق تسلّح، فأينما سارت الولايات المتحدة تتجه العيون ويسير الجميع لاحقا.
دخول سباق تسلّح جديد قد يُعني موجة جديدة من الحرب الباردة (دارت رحاها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 حتى انهيار الاتحاد في 1991)، ورغم أن هذه الحرب تُعني مزيدا من التجارة ودوران ماكينات المصانع، فإن فوائض القيمة الناتجة عن الأمر ستتركز بالدرجة الأكبر لدى الولايات المتحدة وروسيا (أكبر مصدرين للسلاح) مع حصص ضئيلة لبريطانيا وفرنسا وألمانيا. هذا الأمر يُعني مزيدا من الصراع الأمريكي الروسي المكتوم، مزيدا من النمو والفوائض في البلدين، ومزيدا من الضغط على الاقتصاد العالمي ونسب النمو في كثير من الدول، حتى مع تحقيق معدل نمو عالمي إيجابي. الصناعات العسكرية ليست قاطرة جيدة للاقتصاد.
حال الاتجاه إلى هذا السيناريو بالفعل، ومن المرجح أن يحدث، فإن الأمر قد يُعني دورة جديدة من الحرب المكتومة، ودوامة واسعة من التباطؤ الاقتصادي والتضخم المصحوب باتجاهات انكماشية في عديد من الأسواق (ركود تضخمي) لتحتكر النمو دول التصنيع العسكري الكبرى، ويسقط ملايين من البشر على امتداد العالم في قبضة الفقر وتراجع مستوى المعيشة. لاحقا ستجد الولايات المتحدة وخصومها أنفسهم أمام أزمة اقتصادية، حتى مع تراكم الفوائض في خزائنهم، إذ إن كل ضغط على اقتصادات الدول النامية والفقيرة يُعني عجزا عن استيعاب فوائض الاقتصادات الكبرى ونواتج نموّها من السلع والخدمات، ووقتها قد يكتشف المتأهبون في حلبة الصراع أن الحفاظ على القوة أو تخويف الخصوم لا يضمنان الاستقرار طويل المدى.