قطار سريع باتجاه النار.. هكذا تنسحق عظام إيران بين ضغوط الاقتصاد وعقوبات ترامب
الإثنين، 30 يوليو 2018 09:00 م
يمضي قطار إيران باتجاه المجهول، من محطة لأخرى تبدو الأمور أشد صعوبة، وتذكرة السفر أكثر كُلفة وإرهاقا، خاصة أن الحصار السياسي الأمريكي يدفع الاقتصاد إلى مزيد من التهاوي الكارثي.
في الوقت الذي حققت فيه الولايات المتحدة تقدما على جبهة كوريا الشمالية، بإجبار الأخيرة على القبول بخيار تفكيك ترسانتها النووية على وعد مستقبلي برفع العقوبات الاقتصادية والعسكرية المفروضة عليها، يبدو الوضع في إيران أكثر قسوة. لم يعد لدى البلد الشيعي مجال للمناورة، ولم تعد طاقة واشنطن موزّعة على نظامين متمردين على قواعد اللعبة.. هكذا انسحبت بيونج يانج من مشهد الصراع وتركت طهران وحدها في مواجهة العاصفة.
آمال طهران بين خطر التهديد واحتمال التراجع
منذ اللحظة الأولى لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، مطلع مايو الماضي، ثم حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن حزمة عقوبات مرتقبة على طهران، راهنت الأخيرة على تفاعلات المشهد السياسي الإقليمي والعالمي، وما تفره لها قوتها النفطية من حماية جزئية، تضمن لها مراجعة واشنطن لخطواتها والتدقيق فيها قبل الإقدام على أي سيناريو تصعيدي.
ما تخيلته طهران بدا صحيحا جزئيا، لكنها تجاهلت حقيقة أن التفاعلات الدولية بقدر ما يمكن أن تُعطّل مخططات واشنطن، يُمكنها أيضا أن تدفعها قُدمًا أو تدعم موقفها المتشدد من النظام الإيراني. ومع انضباط الأوضاع بشكل جزئي وإيجابي في سوق النفط، لم تعد مخاطر التصعيد واستهداف إيران تحمل تهديدات كارثية لاستقرار قطاع الطاقة، في ظل تدفقات جيدة ومستويات أسعار قيد السيطرة، بينما يتعافى المخزون الأمريكي الذي فقد أرقاما كبيرة من رصيده خلال شهور خفض منظمة أوبك لإنتاجها.
وفق تفاصيل المشهد الراهن لا يمكن التنبّؤ بأن الولايات المتحدة قد تتراجع عن موقفها. ليس بالضرورة أن تتجه إلى النفخ في النار لقدح شرارها إلى المدى الأقصى، لكنها في كل الأحوال تملك مزيدا من الخيارات لتقييم الموقف والتعاطي معه، وقائمة واسعة من المسارات والحلول الصالحة لإحكام الخناق حول رقبة طهران، حتى دون الاضطرار إلى الإمساك بطرف الخيط.
الاقتصاد يُقلِّص قدرة إيران على المناورة
حاولت إيران خلال الفترة الماضية الإيحاء بتوازن القوى في الصراع المرتقب، وفي سبيل هذا وظّفت كل أدواتها المتاحة، بدءا من تنشيط حضورها في المشهدين السوري والعراقي، وزيادة حجم دعمها المادي واللوجيستي للحوثيين الذين يسيطرون على مناطق عدّة باليمين، مرورا بالضغط على منظمة أوبك لعدم اتخاذ موقف داعم للرؤية الأمريكية بشأن صادراتها النفطية، وصولا إلى التهديد باتخاذ خطوات جادة لحصار تدفقات النفط العالمية.
المؤكد أن إيران تُدرك حجم الفوارق الشاسعة في موازين القوى مع الولايات المتحدة، وتعرف تماما أنها لن تستطيع تشكيل قلق حقيقي وضغط مزعج على واشنطن، لكنها قد تكون راهنت على التصعيد السياسي وتسخين لهجة الخطاب، استهدافا لأن تُشكل هذه السخونة ضغطا على الأوضاع الإقليمية، وعلى سوق الطاقة، بشكل يثير القلق فيزيد الطلب على النفط ويدفع أسعاره للصعود، وهو ما يكفي لغلّ يد واشنطن وأوبك عن المغامرة بمنع تدفقات النفط الإيراني في أجواء متوترة ومشحونة بالمخاوف.. لكن ما لم تضعه طهران في الحُسبان هو حجم الضغط الاقتصادي الذي قد تواجهه داخليا.
في الفترة الأخيرة تراجع سعر الريال الإيراني بشكل حاد، وصولا إلى مستوى قياسي لم يسجله من قبل، وهو ما يبدو أنه نتاج المخاوف الإيرانية الحالية في ضوء ترقب حزمة العقوبات الأمريكية الأولى، المنتظر سريانها الثلاثاء 7 أغسطس. هذه المخاوف تسببت في تراجع العملة الإيرانية لتسجّل 112 ألف ريال للدولار الواحد في السوق السوداء، من مستوى 98 ألف ريال للدولار قبل يومين، بينما قفز سعر الدولار في السوق الرسمية إلى 44 ألفا و70 ريالا بعدما كان 35 ألفا و186 ريالا قبل ستة شهور.
بحسب المؤشرات الاقتصادية الرسمية فقد فقد الريال الإيراني ما يوازي نصف قيمته في الشهور الثلاثة الأخيرة، مدفوعا للتراجع بضغوط من الأداء الاقتصادي المهتز، والاحتجاجات والتظاهرات الشعبية في كثير من المناطق، وتراجع تدفقات النقد الأجنبي إضافة إلى قائمة صعوبات مالية تواجهها البنوك المحلية، مع تصاعد قياسي في حجم الطلب على الدولار وسط المخاوف الضخمة من العقوبات الأمريكية وآثارها، وسعي الإيرانيين لـ"دولرة" أموالهم باعتبار الدولار مخزنا آمنا للقيمة، ومخرجا مضمونا حال تفاقم العقوبات والضغوط الاقتصادية.
الضغط القاسي على سوق العملات وسعر الريال الإيراني، تسبب في موجة احتجاجية جديدة، تُضاف لسلسلة الاحتجاجات المشتعلة منذ ديسمبر الماضي، اعتراضا على تردّي الأوضاع الاقتصادية واستمرار دعم الحرس الثوري بأموال طائلة وتوجيه قدر من الدعم لحزب الله والحوثيين وعدد من الميليشيات الناشطة في سوريا والعراق، وعلى خلفية الموجة الجديدة اعتقلت السلطات 29 شخصا بتهمة إثارة البلبلة و"إشاعة الفساد في الأرض" التي تصل عقوبتها للإعدام، بحسب ما نقله التليفزيون الرسمي عن غلام حسين محسني إجئي، المتحدث باسم السلطة القضائية الإيرانية.
بجانب التظاهرات المدفوعة بالمخاوف الاقتصادية التي تسبب فيها تراجع سعر الريال مقابل الدولار، شهدت شوارع العاصمة طهران احتجاجات أخرى من التجار الذين عادة ما يكونون موالين لنظام الملالي، لكن ضغوط تراجع الريال بجانب المخاوف المتصاعدة من حزمة العقوبات الأمريكية المرتقبة، وتزايد وتيرة الفساد والتربح بين صفوف النظام والوجوه البارزة والمقربة منه، يبدو أنها بدأت تتسبب في انشقاقات في صفوف داعمي النظام أو من عُرف عنهم مساندة مراجع قُم ومرشد الثورة علي خامنئي طوال الوقت.
الكونجرس يُحذّر أوروبا من اختراق العقوبات
الموقف الأمريكي الذي بدا لوهلة موقفا خاصا من البيت الأبيض، تواترت مؤشرات في الفترة الأخيرة على اتّساع مداه ليُشكّل رؤية عامة للمؤسسات الأمريكية الشريكة في السلطة، وهو ما ظهر بوضوح في تحذيرات عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي لبعض الحلفاء الأوروبيين من الانحياز لإيران ومساندتها في وجه قائمة العقوبات الأمريكية المرتقبة.
في رسائل وجهه جمهوريون من مجلس الشيوخ الأمريكي إلى سفارات ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بواشنطن، حذّر أعضاء "الشيوخ" الدول الثلاثة من تجاهل العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، مشددين على أن قائمة العقوبات ليست رؤية شخصية للبيت الأبيض، وإنما تُمثّل موقفا عاما نابعا من حزمة قوانين فيدرالية أقرها الكونجرس، ومن ثمّ فإن تجاهلها قد يؤدي لعواقب وخيمة ويدفع في اتجاه توتر العلاقات بين واشنطن والدول الثلاثة.
كانت الفترة الأخيرة قد شهدت محاولة من بعض الدول الأوروبية لإنقاذ الاتفاق النووي عقب انسحاب الولايات المتحدة، وبحسب مطالب إيرانية فكان من المنتظر أن توفر الدول المذكورة مساندة اقتصادية وحزمة من الحوافز المالية والاستثمارية للنظام في طهران، كما قدمت طلبات مباشرة للإدارة الأمريكية باستثناء شركاتها من العقوبات المرتقبة، وهو ما رفضته واشنطن.
من جانبها حاولت إيران الإيحاء بأن الضغوط الحالية لا تُمثّل تهديدا ضاغطا على اقتصادها، فأعلنت - بحسب ما نقلته وسائل إعلام إيرانية رسمية - عن اعتزامها توفير حزمة حوافز استثمارية ومزايا ضريبية للقطاع الخاصة والمستثمرين فيما يخص الأسعار والأعباء الضريبية على المشروعات، بجانب تقديم تسهيلات للشركات التي تنفذ مشروعات الدولة المُعطّلة، سعيا لدعم الاقتصاد وتقليص آثار العقوبات الأمريكية.
إيران والهروب من الحرّ للنار
بينما كان المُتَوَقّع وسط أجواء السخونة المسيطرة على المساحة بين واشنطن وطهران، أن تراقب الأخيرة تفاصيل المشهد وتطوراته، وتعمل على تلطيف درجة الحرارة وحصارها، حتى لا تتصاعد السخونة ويصل الأمر إلى حريق. لكن على العكس من هذا التوقع دفعت إيران في اتجاه التصعيد، فيما يبدو أقر للهروب من الحرّ إلى النار.
في تصريحات أمام حشد من الدبلوماسيين بالعاصمة طهران خلال الأسبوع الماضي، حذّر الرئيس الإيراني حسن روحاني الولايات المتحدة من التصعيد تجاه بلاده، قائلا إن هذا السلوك "لعب في ذيل الأسد". الأمر نفسه تكرر من وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي قال إن واشنطن تستهدف طهران، وإن الأخيرة سترد على أي استهدف، وأكد الموقفين قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني (القوة العسكرية الأبرز في إيران) وهو ما ردّ عليه "ترامب" بلهجة حادة محذّرا إيران من تهديد الولايات المتحدة، وإلا ستكون العواقب قاسية عليها.
تهديدات إيران لم تتوقف عند العبارات الفضفاضة والصياغات الأقرب للتلاسن والشجارات العابرة، لكنها تطورت إلى التهديد المباشر بأمور تبدو مزعجة، ليس للولايات المتحدة فقط، وإنما لعشرات الدول الأخرى، بعضها من حلفاء طهران، فخلال الأيام الأخيرة هددت الدولة الشيعية بأنها قد تتحرك لإغلاق مضيق هرمز الذي يمثل بوابة الخليج العربي، ومنع تصدير النفط منه، حال أقرت واشنطن عقوباتها التي تشمل منع تصدير النفط الإيراني اعتبارا من نوفمبر المقبل.
في فيديو توضيحي نشرته وكالة "تسنيم" الإيرانية، استعرضت طهران خططها للتعامل مع قرار وقف صادراتها من النفط، مهدّدة بأن نصف تدفقات النفط العالمية تعبر إلى محطاتها النهائية وفق رضا إيران وقبولها، وأنه حال الضغط عليها فإنها ستضغط على هذه الصادرات بشكل سيؤدي لتوقفها وحرمان سوق النفط من نصف احتياجاته اليومية.
فيديو التصعيد الإيراني أشار إلى أن 80% من تدفقات النفط العالمية توفرها روسيا والسعودية والعراق والإمارات والكويت وإيران وكندا ونيجيريا وأنجولا وكازاخستان وفنزويلا والنرويج والولايات المتحدة وبريطانيا والمكسيك، وضمن هذه القائمة 5 دول تقع غربي آسيا وتمدّ الأسواق بنصف الصادرات اليومية من النفط، خاصة أوروبا والصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، عبر مضيقي هرمز وباب المندب (مر منهما 28 مليون برميل يوميا في 2017).. ملوّحة بإغلاق مضيق هرمز وتوظيف أذرعها في اليمن (الحوثيين) بالضغط بشكل مماثل على باب المندب.
لن تستطيع إيران الإقدام على هذه الخطوة في كل الأحوال، وفي الغالب حاولت توظيف فلسفة الرعب والهلع للضغط على الأسواق العلمية، طمعا في ضغط الدول الكبرى وكبار مستهلكي النفط على الولايات المتحدة وحلفائها للتراجع عن مسارها العقابي بحقها، لكنها حتى لو حققت الأثر المستهدف بإشاعة المخاوف في أسواق الطاقة، فالمؤكد أن تهديدها لن يظل أمرا عابرا، وهو أقرب إلى بروفة إشعال نار، ستتجه إلى مدافع وخراطيم المياه باتجاهها لضمان ألا يحدث هذا الأمر مستقبلا، ولو على سبيل المصادفة والعشوائية، ما يُبشّر باحتمال تقليم أظافر طهران، سواء بالقضاء على الحوثيين وتطهير باب المندب، أو حتى بوجود عسكري دولي في الخليج العربي أو على مقربة من مضيق هرمز.
طهران بين الرضوخ والعناد
حتى الآن لا يبدو موقف طهران النهائي واضحا، فمقابل كل موقف أو تصريح يحمل لهجة تصعيدية أو تهديدا ساخنا، تتواتر تصريحات أخرى هادئة من مسؤولين بارزين بالنظام الإيراني، وبين تغريدات ترامب وردود روحاني، لا تنقطع الإشارات والشواهد التي تشير إلى محاولات خفية في الكواليس للوصول إلى تفاهمات وحلول سياسية.
في تقرير مفاجئ لموقع "ديبكا" المقرب من الاستخبارات الإسرائيلية، تحدث الموقع عن اتجاه الولايات المتحدة وإيران لفتح حوار غير مباشر بوساطة إحدى الدول العربية بغرض وضع أُطر اتفاق نووي جديد، مشيرا إلى أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي وجه في بداية يوليو الجاري ببحث قائمة الشروط الأمريكية فيما يخص الملف النووي، بغرض الوصول لاتفاق جيدد وتجنب حزمة العقوبات المرتقبة وآثارها المُدمّرة لاقتصاد البلاد.
يقول الموقع الإسرائيلي المُطّلع في تقريره، إن هذه الخطوة جاءت مدفوعة بتحذيرات تلقاها "خامنئي" من مساعديه حول حجم الأضرار المُحتملة وما ستُسفر عنه العقوبات الأمريكية من ضغوط على الاقتصاد، خاصة مع توقف صادرات النفط التي تمثّل المورد الأهم من تدفقات النقد الأجنبي، لافتا إلى أن لقاء جمع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بأحد وزراء الخارجية العرب، شهد بحث سبل إزالة الاحتقان بين واشنطن وطهران، متابعا: "البلدان يستعدان للتفاوض بشأن اتفاق نووي جديد".
هذه الخطوة التي تُبشّر بتهدئة كبيرة في الملف الإيراني، لا يبدو أن موقف طهران منها محسوم بشكل نهائي، ففي الوقت الذي تدعم الشواهد مسألة توجيه خامنئي ببحث شروط ترامب، خرج بهرام قاسمي، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، نافيا أن تكون طهران طلبت وساطة وزير خارجية البلد العربي المذكور، بُغية إزالة الاحتقان والتوتر مع واشنطن، حسبما نقلت وكالة "فارس" الإيرانية الرسمية.
"لا يمكن التفاوض مع الإدارة الأمريكية الحالية، ولن تكون هناك بالتأكيد إمكانية للحوار معها، وقد أظهرت أنها غير موثوقة وليست طرفا مأمونا لأي شيء".. هكذا علّق قاسمي على الأمر في لقائه الصحفي الأسبوعي، وأجاب عن سؤال حول زيارة وزير الدولة العربية المذكورة إلى واشنطن لإنجاز الوساطة بالقول: "لا أعرف مضمون المحادثات، لكن علاقتنا متواصلة ونحن على اتصال دائم".
التناقض بين موقفي خامنئي وقاسمي، أو ما نقله "ديبكا" ووكالة أنباء فارس، ليس بالضرورة تعبيرا عن خطأ معلومة من الاثنتين، وإنما قد يُشير إلى موقف إيراني يتلمّس الطريق ويدرس المشهد دون استقرار على الخيار النهائي، بينما تبدو إحدى عيني إيران مُعلّقة على فكرة الممانعة والتحدي ومعاندة واشنطن، بينما تتجه الأخرى إلى مكاسب التهدئة والهروب من حزمة العقوبات، حتى لو ارتبط الأمر بالرضوخ، والمؤكد أن حسم الخيار لن يكون سهلا على الصعيد الداخلي، حتى لو دعم خامنئي خيار التهدئة، في ضوء تضخم الصقور وازدياد قوتهم، وارتباط السياسة الخارجية بمصالح اقتصادية وعسكرية مباشرة للحرس الثوري وبعض المتشددين في بنية النظام الإيراني.
هل تذهب المنطقة إلى الحرب؟
إذا لم تتوصل إيران إلى صيغة عاقلة للتهدئة والتراجع أمام الموقف الأمريكي، الذي لا يبدو أنه مطروح للتفاوض أو النقاش من جانب واشنطن، فإنها قد تجد نفسها فجأة مُحاصرة بالنار من كل جانب، خاصة إذا نجحت الضغوط الأمريكية في دفع دول أوروبا الكبرى للالتزام بالعقوبات، بشكل قد يُعني نسفًا كاملا للاتفاق النووي، ومزيدا من الحصار الاقتصادي والتجاري الخانق.
رغم تأكيد أن إيران لن تُغامر بتهديد تدفقات النفط العالمية وإغلاق مضيقي هُرمز وباب المندب، فإن إحكام الحصار حولها وزيادة خسائرها ونزيفها الاقتصادي كلها أمور قد تدفعها باتجاه تحركات جنونية، سواء للفت الأنظار والضغط على القوى الكبرى، أو لتكبيد الأطراف الأخرى خسائر موازية لما ستتكبده.. هذا الخيار قد يقود الأمور إلى قدر من السخونة لا يمكن استيعابه سياسيا، وبطبيعة الحال إذا عجزت السياسة عن احتواء المشهد فقد يتطور إلى حرب شاملة، أو مواجهات عسكرية جزئية.
ضمن الخيارات المتاحة أن توظّف إيران أذرعها العسكرية في سوريا للضغط على جبهة الجولان وتشكيل خطر حقيقي على إسرائيل، لكن هذا المسار قد يحمل مخاطر لا تستطيع طهران مواجهتها، أولا لأن ميزان القوة العسكرية يميل في صالح تل أبيب، وثانيا لأن سوريا ونظام بشار الأسد لن يسمحا بهذا الأمر لأنه يقوّض الجهود الجارية لاستعادة زمام الأمور والقضاء على الميليشيات الإرهابية، وثالث الأسباب وأخطرها أن هذا التصعيد قد يُعني تطويرا أمريكيا للمشهد في وقت تُرابط فيه قواعدها الضخمة بالمنطقة (أبرزها العديد في قطر) على بُعد كيلو مترات من العُمق الإيراني.
على الجانب المقابل لا تبدو المغامرة الأمريكية بتنفيذ عملية عسكرية شاملة ضد إيران أمرا سهلا، المؤشرات المتوفرة تؤكد أن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" درست الأمر بالفعل، واكتشفت أن مثل هذه العملية الشاملة تحتاج تدخلا برّيًّا ضخما، بقوة لا تقل عن 800 ألف مقاتل، وهو غير المتاح لدى الولايات المتحدة أو حلفائها في المنطقة. لكن رغم هذا التعقيد لا يمكن نفي احتمال تطور الأمر إلى مواجهة عسكرية بين واشنطن وحلفائها من جانب، وطهران من جانب آخر، إذ يظل احتمال تنفيذ ضربات خاطفة وعمليات جوية استراتيجية لاستهداف مواقع عسكرية أو شلّ القدرات الصاروخية الإيرانية أمرا مطروحا.
ما يزيد من مخاطر تطور الأمر أن العقوبات الأمريكية لن تلقى إجماعا عالميا، حتى لو رضخت أوروبا والتزمت بها في ضوء تأثير واشنطن عليها والالتزامات المشتركة في حلف شمال الأطلنطي "ناتو".. المؤكد أن روسيا والصين وتركيا لن تلتزم بالعقوبات، والأخيرتان تستوردان النفط والغاز من إيران، وإضافة لهذا كانت أنقرة تساعد في تهريب حصّة أخرى من التدفقات النفطية الإيرانية إبّان سريان العقوبات في وقت سابق، هذه التركيبة كافية لتقليل آثار العقوبات الأمريكية بشكل نسبي، وزيادة قدرة إيران على الصمود نوعا ما. وكلما طال أمد التحدّي الإيراني ستزيد حدّة الغضب الأمريكي، ما قد يدفع في اتجاه تطوير العقوبات، وهكذا ستظل طهران بين سندان الاقتصاد المُتداعي، ومطرقة العقوبات القاسية، ومع كل ضربة جديدة ستزداد الشقوق، وستقدح الضربات العنيدة من الجانبين مزيدًا من الشرر، الذي يكفي لإشعال حريق في بيئة نفطية ملتهبة بالأساس، ليجد قطار طهران نفسه فجأة في عُمق النار.