اتفاق رأى المتابعون أنه إيجابي في مسار الأزمة السورية، بإخراج ما يقارب 800 من عناصر "الخوذ البيضاء" من سوريا إلى الأردن، عبر الأراضي الإسرائيلية، تمهيدا لسفرهم باتجاه أوروبا.
طوال الشهور الماضية كانت "الخوذ البيضاء" حاضرة في المشهد السوري بصورة كبيرة، كثير من الأحداث التي قيل فيها إن الجيش العربي السوري نفذ اعتداءات عنيفة أو ضربات جوية أو هجمات كيماوية بحق المدنيين، كانت عناصر هذه المنظمة قاسما مشتركا فيها، بينما تُسارع القوى الغربية لتلقف بياناتها وتقاريرها، وفي ضوء هذه البيانات تحركت الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد النظام في دمشق، ونفذت ضربات جوية مباشرة لأهداف سورية.
لاحقا كشفت تقارير إعلامية مصورة، أذاعتها قناة روسيا اليوم الإخبارية ومنصات إعلامية أخرى، أن كثيرا من المشاهد المنقولة بعين "الخوذ البيضاء" كانت مصنوعة بطريقة إعلامية، وأن عناصر المنظمة رتبوا المشاهد بطريقة مسرحية درامية، ولقّنوا شهود العيان من الكبار والأطفال شهادات محفوظة، بغرض ترويجها في مسار يدين الدولة السورية. الملمح الإيجابي الذي قد يراه البعض في خروج هذه العناصر عودة التهدئة، وغياب قد من التوتر كانت تتسبب فيه، لكن الملمح السلبي أن القوى التي استندت لتقارير "الخوذ البيضاء" والتي دعمت خروجها، كانت تعرف منذ البداية أن المشهد مصنوع وتدعم هذا الاصطناع.
نار تحت "الخوذ البيضاء"
بعد أسابيع طويلة من الهدوء والغياب شبه التام عن المشهد، أعادت عملية إجلائهم من الداخل السوري الجدل المثار بشأنهم إلى الواجهة، خاصة مع ضلوع إسرائيل في هذه العملية الواسعة، ومشاركة الجيش الإسرائيلي في إخراجهم عبر هضبة الجولان في الجنوب السوري وصولا إلى تل أبيب، وسط أجواء مشتعلة في الجنوب على خلفية العمليات العسكرية الجارية في المنطقة، التي تُعد آخر معاقل الميليشيات المسلحة.
الجدل المتصاعد أعاد إثارة الأسئلة المحيطة بهوية المنظمة وداعميها، وما لعبته من أدوار خلال سنوات وجودها في الداخل السوري، ففي الوقت الذي يرى البعض أنها تجمع من المتطوعين والنشطاء المهتمين بالدعم الإنساني للمنكوبين في مناطق الصراع، تتوفر مؤشرات لدى آخرين على علاقات لا ترقى فوق مستوى الشبهات جمعت المنظمة وعناصرها بالقوى الحاضرة في المشهد السوري، وأذرعها العسكرية والاستخباراتية، بشكل سعى إلى تقويض الدولة السورية وفرض حصار على جيشها الوطني.
"الخوذ البيضاء" تقول عن نفسها إنها منظمة إنسانية مستقلة، تضع على عاتقها الالتزام بحماية المدنيين المتضررين من الحرب والعمليات العسكرية المتبادلة بين الجيش السوري والميليشيات المسلحة، زاعمة أنها تلعب هذا الدور وفق رؤية حيادية لا تنحاز لأي من الأطراف المتصارعة، لكن هذا الأمر تنفيه مواقف المنظمة المُدينة للدولة والجيش السوريين في وقائع عدّة، آخرها في غوطة دمشق الشرقية.
في الغوطة قالت المنظمة، وبثّت أشرطة مصورة لتأكيد روايتها، إن الجيش السوري نفذ ضربات كيماوية للمدنيين، في وقت كانت فيه المنطقة تحت سيطرة الميليشيات المسلحة قبل خروجها إلى مناطق أخرى بالشمال في إطار صفقة تبادل مع الجيش السوري، وفي الوقت الذي خرجت عناصر الميليشيات سليمة دون تضرر من الهجوم الكيماوي المزعوم، ظهر فريق المنظمة وهو ينفذ عمليات إجلاء وإنقاذ وهمية، ويضع المساحيق والماكياج على وجوه الأطفال والكبار ممن قال إنهم "ضحايا هجمات كيميائية" قبل أن يلقنوهم ما يتعين عليهم قوله أمام الكاميرات.
إسرائيل تدخل على خط الإجلاء
المعلن في ملف خروج عناصر "الخوذ البيضاء" أن روسيا وبعض الدول الأوروبية توصلت لاتفاق مع المملكة الأردنية على استقبال عدد من أعضاء المنظمة، العابرين من الجنوب السوري، تمهيدا لسفرهم إلى أوروبا، وبالفعل عبر عدّة مئات منهم إلى الجانب الأردني بموجب الاتفاق.
ما لم يكن مُعلنا أن الأمر لم يتوقف على التوصل لتفاهمات مع الأردن في هذا الشأن، وإنما شمل دخول إسرائيل على الخط ومشاركتها في إخراج عدد كبير من أعضاء الميليشيات عبر هضبة الجولان والحدود الشمالية لإسرائيل مع سوريا، وهو ما حدث بالفعل بحسب بيانات رسمية صادرة عن الدولة العبرية.
جاء الإعلان عن الأمر على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تحدث عن تفاصيل الصفقة التي أبرمتها تل أبيب مع الولايات المتحدة وكندا لإخراج مئات من عناصر الدفاع المدني السوريين المعروفين بـ"الخوذ البيضاء"، قائلا إنه تلقى اتصالات من دونالد ترامب وجاستين ترودو وآخرين، طالبين منهم المساعدة في إجلاء مئات من "الخوذ البيضاء".
الغريب في الأمر أن إسرائيل التي ترى نفسها في حالة عداء دائمة مع سوريا، ونفذت عمليات عسكرية وطلعات جوية مباشرة في الداخل السوري، أودى كثير منها بحياة مدنيين، بررت مشاركتها في إجلاء "الخوذ البيضاء" بأن عناصر المنظمة ساهموا في إنقاذ حياة غيرهم من المدنيين، واستكمل نتنياهو التبرير بالقول: "الآن يواجهون خطرا على حياتهم. لهذا السبب صادقت على نقلهم إلى دول أخرى عبر الأراضي الإسرائيلية، واتخذت القرار من منطلق إنساني".
واشنطن ترتدي خوذة بيضاء
واقع الحال يشير إلى أن أغلب عناصر الخوذ البيضاء من السوريين، ومن ثمّ فإن أي معاملة يحصل عليها أعضاء المنظمة ولا تتوفر لبقية المدنيين السوريين، ربما تشير إلى تفرقة في المعاملة، أو إلى شبكات مصالح خفية فيما يخص وجود المنظمة ونشاطها في الداخل السوري طوال الفترات الماضية.
في الوقت الذي فضحت فيه روسيا تقارير "الخوذ البيضاء" وكشفت أن كثيرا من معلوماتها وأشرطتها المصورة جرى صنعها بشكل مقصود ومخطط له، واتهم النظام السوري من جانبه المنظمة بالتورط في أعمال دعائية ضد الدولة، وتوفير غطاء إعلامي ومساندة مباشرة للميليشيات المسلحة، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعما كبيرا لها، منه ما أعلنته الخارجية الأمريكية في وقت سابق من أنها ستوجه 6.6 مليون دولار لدعم "الخوذ البيضاء".
الخارجية الأمريكية زعمت في بيان صادر عنها في هذا الشأن، أن "الخوذ البيضاء أنقذت أكثر من 100 ألف شخص منذ بداية الصراع في سوريا" مشددة على أنها تدعمها بقوة، واكتمل الأمر مع إعلان رئيس وزراء إسرائيل تدخله لإجلاء عناصر المنظمة بعد طلب مباشر من الرئيس الأمريكي، ومن رئيس وزراء كندا جاستن ترودو.
دمشق تدين تهريب الخوذ البيضاء
على الجانب السوري الرسمي أدانت وزارة الخارجية في دمشق ما حدث مؤخرا بتهريب إسرائيل لعناصر "الخوذ البيضاء" وسط إدانة ثابتة، كما قال البيان، للمنظمة بارتكاب أعمال عدائية ضد الدولة السورية، وتقديم دعم ومساندة مباشرين للميلشيات الإرهابية المسلحة.
وبحسب وكالة الأنباء الرسمية "سانا"، أدان مصدر مسؤول بالخارجية السورية موقف إسرائيل في عملية الإجلاء، قائلا إن "الخطوة الإجرامية التي اتخذتها إسرائيل فضحت حقيقة ما يُسمّى بالخوذ البيضاء، التي حذرت سوريا من مخاطرها على الأمن والاستقرار في الداخل السوري، وفي المنطقة، بسبب طبيعتها الإرهابية".
خروج "الخوذ البيضاء" من الجنوب السوري الذي يشهد حضورا وبقايا جيوب لعناصر داعش، يثير تساؤلات ومخاوف حول التنظيم الإرهابي واحتمالات نجاح بعض عناصره في مغادرة سوريا باتجاه مقاصد أخرى، ربما تكون في المنطقة أو في أوروبا، وهو ما أكده خبير عسكري سوري بقوله إن عشرات العناصر من المنتمين لـ"داعش" وجبهة النصرة خرجوا وسط أعضاء منظمة الخوذ البيضاء.
الخبير السوري رأى في تصريحات نقلتها وكالات أنباء، أن تهريب إسرائيل لمئات من عناصر تنظيم "الخوذ البيضاء الإرهابي" وقادة التنظيمات والميليشيات الأخرى، بالتعاون مع الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، يكشف حقيقة هذا التنظيم، ويفضح الدعم الغربي والتسهيلات التي قدمتها هذه الدول للإرهابيين النشطين في الداخل السوري.
روسيا تعبر عن غضبها بهدوء
الجانب الروسي لا يبدو راضيا عن الصفقة الأخيرة، ورغم أن موسكو لم تُفصح عن غضبها بشكل مباشر، إلا أن تحركاتها الأخيرة تكشف عن تحفظها على ما حدث، وتحسّبها بشكل جاد من احتمالات تكراره، وهو ما يمكن ملاحظته من تكثيف عملياتها العسكرية في الجنوب السوري، وفتح خطوط اتصال واسعة مع الجانب الأردني.
في اتصال هاتفي من وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بنظيره الأردني أيمن الصفدي مؤخرا، كان محور الاتصال حسبما كشف بيان الخارجية الأردنية بحث مستجدات الوضع السوري، ومساعي التوصل لحل سياسي، لكن الحقيقة كان ملف "الخوذ البيضاء" حاضرا بقوة، وسيطر على قدر كبير من مناقشات الوزيرين.
"لافروف" أثار مسألة قبول المملكة الأردنية لاستقبال 800 من عناصر "الخوذ البيضاء"، وهو ما ردّ عليه "الصفدي" بأن المطروح في بادئ الأمر كان يتجاوز 800 شخص، لكن جرى الاتفاق لاحقا على أن يكون العدد 422، وأن عُمان استقبلتهم في إطار خطة غربية لإعادة توطينهم في عدة دول غربية، التزمت بموجب تعهدات قانونية بإنجاز هذا الأمر خلال ثلاثة شهور من الآن.
بحسب ما أعلنه وزير الخارجية الأردني لنظيره الروسي، فإن المملكة قبلت هذه الوساطة لأسباب إنسانية، وبعد تقديم بريطانيا وكندا وألمانيا تعهدات باستضافة هذه الأعداد، وبينما اتفق الجانبان على مواصلة التنسيق والتشاور في كل الملفات، كانت طائرت الجيش الروسي وعناصره المدنية تستعد لتنفيذ عمليات عدّة على الحدود الشمالية للمملكة، فيما يبدو أنه قطع للخطوط والمسارات التي قد تضمن تكرار عملية إجلاء عناصر تابعة لـ"الخوذ البيضاء" في الفترة المقبلة.
تحركات عسكرية لتطويق الميليشيات
خطوة إجلاء مئات من عناصر "الخوذ البيضاء" كشفت عن ثغرة واسعة في الجبهة الجنوبية، رغم نشاط الجيش العربي السوري مدعوما بإسناد عسكري ومعلوماتي من القوات الروسية، خاصة أن هذه المنطقة تمثل واحدا من المعاقل الأخيرة لتنظيم داعش وعدد آخر من الجماعات المسلحة.
وفيما يبدو أنه ردّ على صفقة "الخوذ البيضاء" تحرك الجيش السوري والقوات الروسية باتجاه فرض مزيد من الحضور في الجنوب، وإحكام الخناق على الميليشيات، وقطع خطوط الإمداد والاتصال والمسارات والمحاور التي قد تسمح لهم بالتسلل إلى الداخل السوري، أو التمركز في محاور حيوية قد تسبب تهديدا للقوات الروسية، وفي إطار هذه الرؤية نفذت الطائرات السورية والروسية ضربات جوية مكثفة في المنطقة..
بحسب مصادر دبلوماسية سورية وعناصر من المعارضة، كثفت الطائرات قصفها لمعاقل وجيوب تنظيم داعش الإرهابي جنوب غربي سوريا، بالقرب من الحدود مع إسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية، في وقت توغلت فيه عناصر الميليشيات في مناطق سكنية وتحصينات أخلتها جماعات مسلحة أخرى، واستهدافهم على ما يبدو لفتح مسارات آمنة ودائمة باتجاه الأراضي الأردنية والإسرائيلية.
بجانب القصف الجوي شنّ الجيش السوري هجوما بريا على حوض اليرموك بالقرب من حدود الأردن مع هضبة الجولان، حاولت عناصر داعش التصدي له، لتتحول المنطقة الزراعية في تخوم اليرموك إلى ساحة قتال، بينما يتواصل نزيف الخسائر التي يُلحقها الجيش السوري بالجماعات المسلحة في المنطقة، وأعلن الجيش تصفية عشرات الإرهابيين، كما نقلت "رويترز" عن ضابط كبير قوله، إن المعارك تتركز في منطقة استراتيجية قريبة من حوض اليرموك.
تشير التقديرات إلى تحصّن أعداد تتراوح بين 1000 و1500 مقاتل من عنصار داعش في المنطقة المحيطة بحوض اليرموك، وسط توسع الجيش في فرض سيطرته على المنطقة واستعادة كثير من المحاور والطرق الرئيسية، بعدما سيطر التنظيم في وقت سابق على ما يقرب من 18 قرية هجرها مقاتلو الجيش السوري الحر، الذين سيطروا على المنطقة لشهور طويلة، قبل أن يتراجعوا تحت ضغط الحصار القاسي للجيش.
لا يبدو المشهد السوري الآن إيجابيا، رغم النجاحات التي يحققها الجيش في بسط سيطرته على كثير من المناطق المهمة والمحاور الحيوية، واستعادة كثير من المدن من قبضة الميليشيات الإرهابية، وحصار مقاتلي المعارضة المدعومين من قوى إقليمية ودولية، وقطع كثير من خطوط إمدادهم الآتية عبر الجنوب والشمال السويين، لكن رغم كل هذا تظل الصورة قاسية والاحتمالات سوداوية.
الولايات المتحدة تستعد للخروج من سوريا، لكنها ما زالت تأخذ موقفا حادا من النظام في دمشق، وتدعم كثيرا من قوى المعارضة وأجنحتها المسلحة، الأمر نفسه تفعله فرنسا وبريطانيا وبعض دول أوروبا، الميليشيات العراقية المتشددة تتوسع في الداخل السوري بصورة كبيرة ومتواصلة، وتركيا تتحرش بالقوات الموالية للنظام السوري أو المعادية لـ"داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى شمالي سوريا، وتواصل فتح حدودها في وجه المقاتلين وتأمين خطوط إمداد ودعم لوجيستي لهم.
روسيا لا تتحرك باتجاه حسم المشهد، وتحافظ على إيقاع هادئ لإدارتها تفاصيل المشهد، بقدر من التوازن بين دعم الدولة السورية وضمان ألا تتهاوى تحت ضربات الميليشيات والقوى الخارجية، وفي الوقت نفسه ضمان ألا يصل الأمر لمحطة الصدام مع الولايات المتحدة وحلفائها.. هذه المعادلة الحالية لا تنبئ بحل وشيك للأزمة، لكن الإيجابي أنها لا تحمل تهديدا بالتصعيد أو تفخيخ المشهد أو الوصول بدرجة حرارته إلى ما كانت عليه في السنوات الأخيرة.
خروج "الخوذ البيضاء" من سوريا ربما يكون تحوّلا إيجابيا في صالح دمشق، فبجانب أنه قدّم لها ورقة مهمة لفضح ممارسات بعض القوى والدول الكبرى والإقليمية، وهو ما لم تتأخر في توظيفه بالفعل، وأصدرت خارجيتها بيانا لإدانة إسرائيل والولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وألمانيا، فإنه يُعني أيضا أن عنصرا مهما من عناصر الدعم المباشر، كان يتولى تأمين خطوط إمداد ودعم لكثير من المناطق وفصائل المعارضة، أصبح خارج المعادلة تماما، والأهم أن الحرب الدعائية التي واجهتها دمشق قد تكون في سبيلها للتراجع والانحسار.
لن يكون مستقبل الأزمة السورية كماضيها، ولا حتى كحاضرها الماثل الآن، تتجه الصورة إلى تغير كبير في كل الأحوال، ترتفع فيه أسهم الدولة السورية مقابل خسارة كثير من الأطراف الأخرى، ورغم كل النجاحات التي حققتها دمشق في الأسابيع الماضية، يمكن القول إن فتنة "الخوذ البيضاء" ستلعب دورا كبيرا في ترتيبات المشهد الجديد، وستخصم كثيرا من الحروب الدعائية مستقبلا، ومن المشاهد الدرامية المصنوعة أيضا.