أخطبوط بأذرع من نار ودم.. خناجر أردوغان المسمومة تقطّع أوصال سوريا والعراق
الإثنين، 16 يوليو 2018 08:00 م
بعد شهور من جرائم فادحة ارتكبتها وحدات الجيش التركي في بلدة عفرين السورية، ومع تواصل دور أنقرة في الملف السوري، وتصاعد عملياتها العسكرية بالمناطق الكردية شمالي العراق، ما زال رجب طيب أردوغان يحاول إنجاز مساعيه في البلدين الجارين، رغم ضخامة التكلفة التي تكبدتها كل منهما بسبب الممارسات التركية.
في موقفه العنيف من الجارتين، سوريا والعراق، ومن المكوّن الكردي في البلدين والروابط التي تجمعه بأكراد تركيا، سعى أردوغان إلى تكوين ظهير من الموالين والداعمين، ويمكن القول إنه نجح في الأمر، حتى لو استند في هذا النجاح إلى تكوين جبهة من الإرهابيين وأعضاء الميليشيات المسلحة، وتقديم خدمات لوجستية وتسهيلات لمقاتليهم سواء عبر الحدود المشتركة، أو المستشفيات والمنشآت العسكرية والمدنية بالداخل التركي.
رغم هذا الظهير الداعم للمواقف التركية، والذي كبّد العراق وسوريا خسائر ضخمة، ونزيفا من الدماء، لم يبدُ أردوغان مقتنعا بهذا الحيز من الوجود والعبث في الملفات السورية والعراقية، خاصة مع تنامي قوة الأكراد في إقليم كردستان، وتمتعهم باستقلال نسبي في إطار نظام كونفيدرالي، وأيضا تصاعد قوة الأكراد في سوريا بعد نجاحهم في تنظيم صفوفهم وتكوين مقاومة مسلحة لصدّ هجمات الإرهابيين، ونجاحهم في صدّ هذه الهجمات بالفعل، بل وفي التصدي للجيش التركي نفسه وتكبيده خسائر كبيرة خلال استهدافه الدموي العنيف لبلدة "عفرين".. لهذا عاد أردوغان إلى آلية التدخل المباشر، ومدّ أذرعه الأخطبوطية، دون اكتفاء بأذرع الحلفاء والتابعين والممولين من أموال تركيا ومخازن أسلحتها.
تركيا تهدد "منبج" خوفا من الأكراد
على مدى شهور طويلة اتخذت تركيا موقفا عدائيا من وحدات حماية الشعب الكردية، التي واجهت تنظيم داعش وغيره من الميليشيات الإرهابية في سوريا، ومثّلت حائط صدّ تولى الدفاع عن أهالي المناطق الكردية في وجه هجمات عنيفة من الإرهابيين، لكن على الجانب الآخر كان هذا الثبات عامل إزعاج لنظام أردوغان، الذي يواجه صراعا عنيفا ممتدا منذ عقود من أكراد تركية.
طوال الفترة الماضية حاول أردوغان توظيف سطوته المعنوية، والتلويح بالقوة العسكرية الباطشة، لإجبار وحدات حماية الشعب على الخروج من مدينة منبج شمالي سوريا، التي ظلت فيها على مدى الشهور الماضية، وهو ما تحقق مؤخرا في ضوء تصاعد الضغوط التركية، ووصول الأمر لمدى من التهديد المباشر، لتغادر الدفاعات الأخيرة من القوات الكردية المدينة أمس، حسبما صرح مجلس منبج العسكري الذي يسيطر على المدينة.
مجلس منبج العسكري، التابع لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، قال إن الانسحاب يأتي في ضوء اتفاق سابق يستهدف الحدّ من الغضب التركي، وتجنب تهديداتها المتواصلة بالتدخل العسكري المباشر لطرد وحدات حماية الشعب، على خلفية رفض وجودها على مقربة من حدودها الشمالية، لهذا "أكملت الدفعة الأخيرة من المستشارين العسكريين بالوحدات انسحابها، بعدما أنهت مهمتها في التدريب والتأهيل العسكري للقوات بالاتفاق مع التحالف الدولي".
خوف من التوتر أم إرهاب مقصود
الاعتراضات التركية القائمة منذ شهور، قادت في يونيو الماضي إلى توقيع الولايات المتحدة وتركيا "خارطة طريق" لترتيب الأوضاع في مدينة منبج ذات الأغلبية العربية، التي لا تبعد عن الحدود التركية سوى 30 كيلو مترا، وهي المسافة التي ترى تركيا أنها قد تشكّل تهديدا حل توسع نشاط وحدات حماية الشعب وإعلانها حكما ذاتيا في المنطقة.
المنطقة التي هدد أردوغان بالتدخل العسكري المباشر فيها خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (فصائل كردية وعربية مدعومة من واشنطن)، إضافة إلى انتشار قوات أمريكية وفرنسية في إطار عمليات التحالف الدولي ضد داعش، ما يشير إلى أن المخاوف التركية ربما لم تكن تتعلق بوحدات حماية الشعب بشكل مباشر، وإنما قد يكون مناورة مباشرة مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي، بشكل قد يوفر غطاء من المقبولية للجيش التركي إذا سعى لتنفيذ عمليات عسكرية مستقبليا ضد الأكراد في مناطق متفرقة من سوريا والعراق.
النظر لما أحرزته وحدات حماية الشعب، ونجاحها في طرد تنظيم داعش من مدينة منبج في صيف العام قبل الماضي (أغسطس 2016) ربما يعزز من احتمال أن التحرك التركي الأخير ضد وجود هذه القوات في المدينة، وتهديده بتنفيذ عمليات عسكرية مباشرة لاستهدافها، يُعني أن هذا الوجود أثر على مصالح تركيا في المنطقة الواقعة على مقربة من الحدود، في وقت تشير فيه تقارير ومعلومات عديدة إلى عمليات عبور مثيرة للشبهة على الحدود التركية.
هكذا يمكن النظر للأمر بصورة مغايرة، ليس باعتبار التحركات التركية استجابة لحالة حقيقية من القلق الذي تثيرة وحدات حماية الشعب التي تعتبرها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني الداعي للانفصال في تركيا، وإنما هي أقرب لاستعراض قوة، وسعي لإرهاب المكونات الكردية على حدود البلدين الجارين.
حصار خانق للجيران
على الصعيد العراقي، يواصل الجيش التركي عملياته العسكرية في المناطق الكردية، وتنفيذ طلعات جوية وأعمال قصف لكثير من القرى والتجمعات القريبة من الحدود العراقية التركية، تحت دعاوى اتخاذ مقاتلي حزب العمال الكردستاني لهذه الجيوب كمعاقل وتحصينات ينطلقون منها لاستهداف تركيا.
التعلل بصدّ المخاطر المحتملة لحزب العمال الكردستاني، يسقط بالضرورة مع الحديث عن خطوات أخرى لحصار العراق وخنقه اقتصاديا، أبرزها نشاطه للحدّ من تدفقات المياه الواصلة للعراق وسوريا من نهر دجلة، وآخرها سد "إليسو" الذي خصم ما يقارب نصف واردات العراق من نهر دجلة، وهو الأمر الذي لا يمكن تفسيره في ضوء المساعي التركية لضمان أمنها، ولكنه أقرب إلى المساعي المباشرة لتهديد أمن الآخرين.
الآثار الضاغطة على المناطق العراقية الواقعة على نهر دجلة، ستؤدي بالضرورة مع دوامها إلى عمليات نزوح من هذه المناطق، وهذه الموجات البشرية ستتجه إلى المناطق الأقل معاناة من نُدرة المياه، وبالتأكيد لا يغيب هذا البُعد عن أنظار أنقرة، وهكذا يمكن افتراض أنها تسعى لتغيير الخريطة الديموغرافية وتوزيع السكان والأوزان النسبية للمناطق والمدن العراقية، بشكل قد يُخلي مناطق استراتيجية تستهدفها تركيا، أو يدعم تحركات وانتشار الميليشيات والفئات الداعمة لها.
الأمر الأكثر تهديدا في هذا الإطار، أن أردوغان لديه خطة عملية لإنشاء 22 سدًّا جديدا على طول نهري دجلة والفرات، بنهاية العام المقبل، أي أن العراق وسوريا على موعد مع تكرار أزمة "إليسو" التي وقعت في العام الجاري 22 مرة مقبلة، ربما بشكل أفدح وأشد قسوة، ولا يبدو أن إجراءات العراق بالحد من زراعة الأرز أو ترشيد استخدام المياه، أو العمل على تحلية المياه، أو استثمار الموارد الجوفية، خطوات كافية لتلافي الآثار السلبية التي تعمل تركيا على تعميقها، خاصة أنها تعمدت أن تتخذ هذه الخطوات في شهور الصيف شديدة الحرارة.
الديكتاتور التركي يُهجّر الأكراد
إذا كان الموقف التركي على الجبهة السورية استهدف وحدات حماية الشعب، وعلى الجبهة العراقية يشهد عمليات عسكرية وقصفا جويا وتجفيفا للأنهار، فإن الموقفين لا يختلفان في حقيقة الأمر، خاصة أن وراءهما باعثا واحدا، وهو الضغط الخانق على المناطق الكردية التي تشكل حزاما مزعجا لتطلعات أردوغان الإقليمية، وتحركاته المضادة لحزب العمال، ويبدو أن الهدف المباشر الذي يسعى إليه الرئيس التركي هو إحكام الخناق حول العنق الكردي، وسحق التطلعات والآمال الكردية في الاستقلال أو التقارب، عبر إجبارهم على مغادرة مناطقهم والنزوح إلى مناطق بديلة، وبعيدة عن الحدود التركية.
العقبة التي يواجهها المشروع التركي ترتبط بالطبيعة الكُردية، التي ترتبط بأرضها ارتباطا وثيقا، لا يقل عن ارتباطها بفكرة القومية الكردية، وانحيازها للروابط العابرة للحدود، التي تجمع العرقية التركية في مربع سوريا والعراق وتركيا وإيران، وهو الأمر الذي يحتاج تفكيكا لهذه الدوائر، وفي ضوء طبيعة الروابط فإن هذا التفكيك لا يمكن تحققه إلا عبر سحق أكراد الداخل، وتهجير أكراد الجوار، ما يُبشر بمزيد من الإجراءات العنيفة عسكريا وسياسيا وفيما يخص مشروعات السدود، للنيل من العرقية الكردية في المنطقة.
الموقف التركي الحالي يتشابه مع ما قاله رئيس الوزراء التركي الأسبق توركوت أوزال، كاشفا حدود الرؤية التركية فيما يخص العلاقة بدول الجوار، وهو أن "تركيا ستبيع لهم الماء كما يبيعون لها النفط".. وإذا كان هذا التطلع هو الأساس الحاكم لتحركات أردوغان في ملف السدود، فإن تحركاته العسكرية في العراق وتهديداته في سوريا تفتح قوس الاحتمالات ليشمل أهدافا أخرى، في الغالب تخص تقطيع أوصال سوريا والعراق.