موجة غضب عارمة يواجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ اللحظة الأولى لانتهاء لقائه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي احتضنته العاصمة الفنلندية هلسنكي الاثنين الماضي، على خلفية ما رآه الأمريكيون تقصيرا في أداء "ترامب" خلال القمة.
في المؤتمر الصحفي الذي أعقب اللقاء المغلق، قال بوتين إن روسيا لم تتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت في نوفمبر 2016، منتقدا ترك الأمر لما يقرره المدّعي الخاص الأمريكي المكلف بالقضية، روبرت مولر، بينما لم يُبد "ترامب" موقفا حاسما تجاه هذه الأقوال، بل قال بشكل واضح إنه لا يرى سببا للاعتقاد بأن روسيا تقف وراء التدخل في الانتخابات، ممتدحا بوتين بالقول: "كان حاسما وقويا للغاية في نفيه اليوم".
أمريكا الغبية الحمقاء
أبرز النقاط التي أشعلت حالة الشحن والحشد ضد الإدارة الأمريكية، ما تورط فيه ترامب بشكل مباشر، حتى لو لم يكن مقصودا، في إدانة واشنطن وتحميلها نتيجة توتر العلاقات الأمريكية الروسية، دون أي انتقاد أو إدانة لروسيا أو الكرملين، وذلك حسبما دونه في تغريدة عبر حسابه على تويتر، قال فيها: "علاقاتنا مع روسيا لم تكن بمثل هذا السوء قطّ، ويرجع ذلك لسنوات عديدة من الحمق والغباء الأمريكي، والآن هذه الحملة الظالمة المصطنعة" وهو ما ردت عليه وزارة الخارجية الروسية بتغريدة: "نتفق معكم".
الأكثر حدّة في رؤية ترامب أنه اتهم الولايات المتحدة بالحماقة، في إجابة على سؤال حول المسؤولية عن تدهور العلاقات، قائلا: "أُحمّل المسؤولية للبلدين. وأعتقد أن الولايات المتحدة اتسمت بالحماقة، كُنّا جميعا حمقى" منتقلا للحديث عن الانتخابات بنفي تدخل روسيا تماما، باعتبار أنه تفوق على هيلاري كلينتون بشكل مستحق، وأنه "من العار أن تكون هناك أية شبهة ولو بسيطة في ذلك".
عاصفة الغضب تهز البيت الأبيض
تصريحات بوتين وردود ترامب أثارتا جدلا واسعا في كل الأوساط الأمريكية، لتتواتر الانتقادات من سياسيين وإعلاميين ووجوه أمنية بارزة، معتبرة أن الرئيس الأمريكي أفسح مجالا لنظيره الروسي، كي يثير الغبار حول قضية بالغة الحساسية، وتمثل اهتماما أمريكيا استثنائيا.
لم يفلت ترامب من سهام الناقدين ممن يُحسبون على الإدارة الأمريكية الحالية بصورة من الصور، فكان في طليعة المنتقدين مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، الذي قال إن مؤسسات الأمن والاستخبارات الأمريكية تصرّ على موقفها بشأن التدخلال الروسية، رغم نفي بوتين وصمت ترامب، وإن ما قاله ترامب ليس أكثر من رأي شخصي.
المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جون برينان اعتبر أن موقف ترامب في قمة هلسنكي يُعتبر "خيانة تتجاوز الإثم والجريمة الكبرى وتُوجب العزل. لم يكن معتوها فحسب، وإنما كان في جيب بوتين بالكامل". مدير المخابرات الوطنية دان كوتس لم يبتعد عن هذا الموقف، مشددا على رؤية جهازه بالقول "كنا واضحين في تقييم التدخل الروسي، وجهودهم المتواصلة لتقويض ديمقراطيتنا، وسنستمر في تقديم تقييمات مخابراتية لدعم أمننا القومي".
السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام رأى أن أداء دونالد ترامب خلال قمة هلسنكي والمؤتمر الصحفي التالي لها بمثابة "رسالة ضعف إلى موسكو تخلق مشكلات أكثر مما تقود لحلول" مشددا على أن الرئيس الأمريكي أضاع فرصة مهمة للتوقف مع روسيا ومحاسبتها على التدخل في انتخابات خريف 2016، بشكل كان يُمكن أن يحمل تحذيرا صريحا وقوي اللهجة من مواصلة الأمر مستقبلا. سيناتور أريزونا جيف فيلك اعتبر موقف ترامب أمرا مشينا، خاصة مع تحامله على الولايات المتحدة وتجاهل العدوان الروسي.
زعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب، ناسي بيلوسي، عبرت عن دهشتها من مواقف ترامب المتساهلة تجاه روسيا، متسائلة عبر تويتر: "في كل يوم أسأل نفسي ما الذي يُمسكه الروس على دونالد ترامب شخصيا؟ هل هي أمور مالية أم سياسية؟ والإجابة على هذا السؤال هي الشيء الوحيد الذي يفسر سلوكه ورفضه للوقوف أمام بوتين". بينما دعا زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، إلى زيادة العقوبات على روسيا.
مراوغة ترامب وإدارته
في محاولاته للهروب من تبعات المؤتمر، نفى الرئيس الأمريكي أن يكون قد شكك في مسألة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، قائلا في لقاء مع قناة "سي بي إس" إنه يتفق في الرأي مع دان كوتس، مدير المخابرات الوطنية الأمريكية، ويرى أن موسكو ما زالت تشكل تهديدا حقيقيا لواشنطن.
البيت الأبيض حاول موازنة المشهد المشحون ضد الإدارة الأمريكية، عبر نفي أن يكون "ترامب" قال خلال القمة إن موسكو لم تعد تستهدف الولايات المتحدة، وهو ما عرضته متحدثة البيت الأبيض سارة ساندرز، في موجز صحفي عقب القمة، بقولها أن "ترامب لا يُشكّك في الأمر، وما زال مقتنعا بأن روسيا ستحاول التدخل في انتخابات الكونجرس المرتقبة خلال نوفمبر المقبل. وخلافا للإدارات السابقة فإن إدارة ترامب تتخذ إجراءات لضمان منعهم من فعل ذلك مجددا".
حاولت سارة ساندرز في موجزها الصحفي تبرير إجابة ترامب بالنفي على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان يعتقد أن روسيا تتدخل في الشؤون الأمريكية الداخلية، قائلة إنه كان يقصد بقول "لا" أنه لا يريد الإجابة على مزيد من الأسئلة، لكنه "وجه رسالة واضحة لبوتين بأن التدخل في الانتخابات الأمريكية لا يجوز".
الكونجرس على خط الصراع
النقد والارتياب اللذان أحاطا بتعامل ترامب مع قمة هلسنكي لم يقفا عند حدّ المُعلن، بل وصل الأمر إلى حدود تقترب من التشكيك في الرئيس الأمريكي ومواقفه وروايته للأمور، والبحث عن رواة آخرين من شهود عيان اللقاء.
هذا البحث دفع عددا من الديمقراطيين في الكونجرس الأمريكي لطلب استدعاء مترجمة ترامب في لقائه مع بوتين، للاطلاع على تفاصيل أكثر من 120 دقيقة من الحوار المغلق بين الرئيسين، قبل دقائق المؤتمر الصحفي التي أثارت كل هذا الجدل، بشكل ربما يدعم افتراض أن ما دار في الكواليس وخلف الأبواب المغلقة ربما يكون أكثر إثارة وجدلا.
وجوه عديدة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري طالبت بالأمر نفسه، أبرزهم النواب بوب مينيديز وريتشارد بلومنثال وجين شاهين، بينما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بوب كوركر إنه "يتفهم الأمر ويبحث عن سابقة مشابهة ليرى إن كان الطلب قابلا للتحقيق. هؤلاء ليسوا سياسيين. وفي بعض الحالات يعملون كموظفين بعقود" مشيرا إلى أن الخيار الأفضل قد يكون استدعاء وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي كان رفقة ترامب في هلسنكي.
الهروب إلى الأمام
الحصار المضروب حول ترامب وإدارته يبدو خانقا، كما يبدو أن الإدارة الأمريكية نفسها لا تقتنع بالتفاسير والتبريرات التي يمكن سَوقها لتجاوز آثار تصريحات ترامب، وربما في ضوء هذا التصور يأتي موقف البيت الأبيض الأخير بالتراجع عن مواقف سابقة، والهروب إلى الأمام فيما يخص الموقف من روسيا.
في هذا الإطار جاء نفي ترامب ومتحدثة البيت الأبيض ووجوه عديدة بالإدارة لأن يكون الرئيس الأمريكي أقر ما قاله بوتين، أو نفى تدخلات موسكو في انتخابات خريف 2016، وتمثلت خطوة الهروب للأمام في قوله إنه "الرئيس الأكثر حزما حيال روسيا. ونبلي بلاء حسنا معها، ربما أفضل من أي طرف على الإطلاق".
صحيفة "ديلي بيست" الأمريكية نقلت عن ترامب قوله - عن موقفه الحازم تجاه موسكو - إنه يعتقد أن "بوتين يعرف ذلك أكثر من أي شخص آخر .. وبالتأكيد أكثر من الإعلام. وليس مسرورا بذلك، ويجب ألا يكون مسرورا، لأنه ليس هناك أي رئيس آخر على الإطلاق حازم مع روسيا مثلي" مشيرا إلى أنه أبلغه في هلسنكي أن إدارته "لن تتسامح مع التدخل في الانتخابات" وأنه يُحمّله شخصيا مسؤولية الأمر.
وفي قفزة كبيرة للأمام أيضا، قال البيت الأبيض إن "تهديد روسيا للديمقراطية الأمريكية ما زال قائما رغم التفسير السيئ لتصريحات ترامب" وأشارت متحدثة البيت الأبيض إلى أن الرئيس والإدارة الأمريكية ينجزان عملا شاقا لضمان الحدّ من قدرة روسيا على مواصلة التدخل في الشأن الأمريكي أو أي انتخابات في المستقبل.
تراجع وتراجع مضاد
على الصعيد الروسي تراجعت موسكو جزئيا عن إشادتها السابقة بقمة هلسنكي، منتقدة التحركات الأمريكية التالية للقاء الرئيسين ترامب وبوتين، وأعربت بشكل مباشر في هذا الإطار عن أسفها لتوقيف الروسية ماريا بوتينا في الولايات المتحدة، بتهمة العمل ضد واشنطن والتأثير على أفراد ومؤسسات أمريكية لصالح موسكو.
متحدثة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قالت في مؤتمر صحفي إن توقيف ماريا بوتينا يستهدف الخصم من الآثار الإيجابية لقمة هلسنكي، بينما رأى متابعون أن هذا التوقيف جاء كرد مباشر من واشنطن على حديث بوتين خلال لقاء ترامب عن ضرورة "استجواب عملاء الاستخبارات الأمريكية الذين تشتبه موسكو في تورطهم بقضية رجل الأعمال بيل براودر الذي تتهمه روسيا بالتهرب الضريبي".
مستقبل ترامب مع الكرملين
رغم تصريحات عديدة سابقة لـ"ترامب" مثّلت محاولة للتقارب الإيجابي مع روسيا، فإن الرئيس الأمريكي قد يكون مضطرا للتراجع عن هذه البادرة التي تعيد تصنيف موسكو باعتباره منافسا لا عدوًّا، وتصعيد لهجة التوجس والانتقاد، وربما العداء.
يستعد الجمهوريون لانتخابات الكونجرس في نوفمبر المقبل، ويراهن ترامب نفسه على الفوز بولاية ثانية في نوفمبر 2020، وإذا لم يحترم رؤى ومواقف المؤسسات السياسية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية تجاه روسيا، فإنه يُغامر بمزيد من الاهتزاز والتوتر في أروقة إدارته، وربما يلتحق بطابور رؤساء الولاية الواحدة، وأبرزهم جيمي كارتر الذي خسر انتخابات 1980 بسبب موقفه من إيران وعملية اقتحام السفارة الأمريكية في طهران وحتجاز 52 دبلوماسيا أمريكيا قرابة 15 شهرا.
هكذا يبدو أن البيت الأبيض قد يُعيد صياغة رؤاه تجاه الكرملين، وفي الغالب ستشهد الفترة المقبلة تصعيدا في لهجة دونالد ترامب تجاه موسكو، في وقت تواجه فيه روسيا أزمة مع أوروبا على خلفية محاولة تسميم العميل السابق سيرجي سكريبال وابنته في بريطانيا قبل شهور، وتتعرض ألمانيا لضغوط بسبب خط "نورستورم" لنقل الغاز الطبيعي، ووسط هذه الأجواء الخانقة على محاور عدّة قد تلجأ روسيا للتصعيد في بعض الملفات، لموازنة الصورة والاحتفاظ ببطاقات لعب تسمح لها بالمناورة.
أحد الاحتمالات أن يواصل ترامب وبوتين اللعبة بطريقة أخرى، محافظين على علاقات دافئة في الكواليس وخلف الأبواب المغلقة، ولهجة حادة وانتقادات علنية وفي وسائل الإعلام، تجنبا لمواقف المؤسسات الأمريكية وانتقادات الكونجرس وقيادات الأجهزة الاستخباراتية، لكن هذا الخيار يظل رهانا مفخخا، قد يؤكد شبهات علاقة "ترامب" السابقة بالكرملين ويُطيح به في أي وقت.. فهل يضع الرئيس الأمريكي إدارته على طاولة "روليت" ويبدأ المقامرة؟!