طلال رسلان يكتب: كتب ودراسات «الطيب» تدعو للفكر التجديدي.. فلماذا تراجع الآن؟

السبت، 08 فبراير 2020 05:59 م
طلال رسلان يكتب: كتب ودراسات «الطيب» تدعو للفكر التجديدي.. فلماذا تراجع الآن؟
تجديد الخطاب الديني

«الكلام عن التراث كلام عجيب، خسارة ما يقال عن التراث هذا مزايدة، هذا التراث الذى نهون من شأنه اليوم ونهول فى تهوينه، التراث خلق أمة كاملة وتعايش مع التاريخ، قل حضرتك قبل أن نلتقى بالحملة الفرنسية كيف كان يسير العالم الإسلامى، كان يسير على قوانين التراث.. الدول الإسلامية والحضارة التى تغيرت، وجاءت قوة فوق قوة كان التراث هو من يحملها، تصوير التراث بأنه يورث الضعف ويورث التراجع هذا مزايدة عليه.. ونحن نحفظ من الإمام أحمد بن حنبل ما يؤكد أن التجديد مقولة تراثية وليست مقولة حداثية

والحداثيون حين يصدعوننا بهذا الكلام هم يزايدون على التراث ويزايدون على قضية الأمة المعاصرة الآن، والتراث ليس فيه تقديس، وهذا ما تعلمناه من التراث لم نتعلمه من الحداثة، أما قصة أن القرآن قطعى الدلالة وظنى الدلالة ليست مقولتى ولا مقولتك، تلك مقولة التراثيين، وتعلمناها من التراث.. درست العلوم الحديثة فى المرحلة الثانوية، ودرسنا فى أصول الدين البحث العلمى وعلم الاجتماع، أما تصويرنا أننا لسنا معنا سوى المصحف والتفسير هذا الأمر يحتاج إلى مراجعة.. الفتنة الكبرى فى عهد عثمان هى فتنة سياسية وليست تراثية، وأنت كرئيس للجامعة يقتدى بك ويستمع لك طلاب، والسياسة تختطف الدين اختطافا فى الشرق والغرب، حين يريدون تحقيق غرض لا يرضاه الدين»... بهذه الكلمات فتح الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، المعركة القديمة الجديدة، وضغط على جرح غائر عُرف بمعركة التراث.
 
لم تهدأ الأقلام وعناوين وسائل الإعلام الرئيسية، منذ حديث الدكتور الطيب فى جلسة «دور المؤسسات الدولية والدينية والأكاديمية فى تجديد الفكر الإسلامى»، بين فريق رأى حديث الشيخ انتصارا لعمائم الأزهر أو جانب التراثيين «المصفقين فى الجلسة وخارجها»، بغض النظر عن لب القضية نفسها، استنادا على أسلوب الشيخ، من وجهة نظرهم، الذى راوغ به الخشت، وفريق ثان رأى فى «الخشت» حصان طروادة الذى ربما يبشر بالخلاص، وحائط وقف بوجه العاصفة والتراثيين فى عقر دارهم، وفريق ثالث فضّل المدرجات ولم يُخرج الحدث برمته عن كونه مكايدات ومحاولة لتحقيق مكاسب متوارية خلف الكواليس.
 
لا إنكار أن «الخشت» بطرحه ومن قبله كتابه، رمى حجرا فى المياه الراكدة عندما قال: «من الضرورى تجديد علم أصول الدين بالعودة إلى المنابع الصافية من القرآن وما صح من السنة النبوية، التجديد يقتضى طرق التفكير وتغيير رؤية العالم، ويجب أن تقوم على رؤية عصرية للقرآن بوصفه كتابا إلهيا يصلح لكل العصور والأزمنة، فى القرآن الكريم هناك تعددية الصواب، فالقرآن به ما هو قطعى الدلالة وما هو ظنى الدلالة، وظنى الدلالة أكثر حتى تتعدد المعانى، لذا فالصواب ليس واحدا، وهو ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم فى قضية صلاة العصر فى بنى قريظة.. الواقع الحالى للعلوم الدينية ثابت مقام على النقل والاستنساخ، مفيش تحليل نقدى أو علمى ولا أى استفادة من العلوم الإنسانية، بل استعادة للفنون القديمة، لأننا لم نستطع الدخول لعصر جديد، وهنا من الضرورى تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين، لو عاد الشافعى لجاء بفقه جديد، وكذلك ابن حنبل لو عاد لجاء بفقه جديد، هناك اتهام بالتشدد لابن حنبل، وأنا هنا بتكلم قدام المشايخ، سنجد أن لابن حنبل ثلاثة آراء فى المسألة الواحدة، من أين جاءنا بالرأى الواحد والصواب والحقيقة الواحدة ولو كنت بقول غلط يقولوا، أنا هنا راوى».
 
إلى هذا الحد، يبدو أن الحدث عند المثقفين والمفكرين كان صحيا إلى أبعد مدى، بإيجابياته وسلبياته حتى بصورته التى خرجت به على مواقع التواصل الاجتماعى، بافتراض إلقاء الضوء على القضية نفسها بعد تجميدها فترة لا بأس بها، قبل أن يطلق شيخ الأزهر رصاصته الأخيرة «اغلقوا الحديث فى موضوع تجديد التراث نهائيا، ونشوف قضايا أخرى».
 
كلمات شيخ الأزهر الأخيرة التى بدت أمرا «بالابتعاد عن قضية التراث» جاءت متناقضة مع طرحه فى الجلسة نفسها، والذى أقر بأن التراث نفسه يطرح التجديد، بل وتتناقض مع وجهة نظر «الطيب» قبل أعوام من حمل أمانة منصب شيخ الأزهر فى مناقشاته ودراساته.. فلماذا أنكر الشيخ القضية بكاملها، حتى مجرد الطرح، طالما هو فى الأساس يؤمن بالتجديد حتى لو كان بشروطه التى وضعها مسبقا وناقشها فى كتبه؟
 
فى قراءة لكتاب الدكتور الطيب «التراث والتجديد.. مناقشات وردود» الذى يناقش ما ورد بكتاب بالاسم نفسه للأستاذ حسن حنفى، مثل سيرة ذاتية نقدية للحياة الفكرية والسياسية فى مصر من ستينيات القرن العشرين، وتبرز من خلال أبحاثه العقلية النقدية لمؤلفه، التى لا تقبل ما يطرح عليها، ونجد الكتاب فى العموم، بمثابة مناقشة لمجمل المدارس التى أدلت بدلوها فى مجال تجديد الفكر العربى والإسلامى، فيقول المؤلف فى مقدمته: «يقتضينا واجب الإنصاف أن نقول: إن طائفة من كبار مفكرينا الأصلاء نظروا إلى التراث نظرة شديدة التوازن، ونبهوا إلى أن إغفال تراثنا العقلى والنقلى فى مشروع النهضة الحضارية هو بمثابة الانتحار أو الدمار الحضارى.. أو السقوط فى هاوية لا قرار لها، وأنه لا يتسنى لحضارة عربية حديثة أن تستوى على سوقها إلا إذا اعتمدت على تراثها فى عملية التحديث؛ وذلك حتى تستبين شخصيتها وتتحدد لها ملامحها وقسماتها...». 
 
ويجمع الكتاب فى منهجه بين مختلف هذه التوجهات، ففيه دعوى ومقدمات واستدلالات، وفيه أيضا مناقشات واعتراضات وردود، وتأكيد على أن عملية التجديد يجب أن تقوم على أساس استبقاء الأصول والثوابت.
 
ومما ذكره «الطيب» فى كتابه، أنه لا يزال يذكر الكثير من ستينيات القرن الماضى وهو طالب فى المعهد الدينى، على وشك الفراغ من دراسته الثانوية فى الأزهر، وعلى عتبات كليات الجامعة، حين كانت الفلسفة الماركسية والاشتراكية العلمية تغرقهم بمطبوعاتها وسلاسل كتبها، وتأخذ على مسامعهم وأبصارهم كل طريق، ويبين «الطيب» أنه بلغ تأثير المعسكر الاشتراكى فى ذلك الوقت مبلغ التدخل المباشر فى المؤسسات الدينية.
 
ويبين «الطيب» أن هذا «المد» فى الشئون الدينية بلغ حد أن خُطب المنابر فى تلك الفترة كانت موحدة، ترتبط بالواقع المادى للمجتمع وتدور معه حيث دار.
 
وعاش طلاب الأزهر فى هذه الحقبة، تهب عليهم الرياح الثقافية العاتية من شرق أوروبا وغربها، كانوا بين طريقين: إما فتح النوافذ لهذه الرياح ومعاناة الاغتراب، وإما الانغلاق فى مقررات التراث ومعاناة الاغتراب.. ولم ينقذهم من هذا الصراع إلا هذه النخبة من عظماء مفكرى مصر، الذين صمدوا لهذا الفكر الوافد من شرق ومن غرب، وكشفوا عن كثير من عوراته ونقائصه ونقائضه أيضا، وبينوا للتائهين من القراء والشباب مواطن الضعف والتهافت فى هذه المذاهب، وكيف أنها «مذاهب هدَامة».
 
وهنا نصل إلى الطريق الذى سلكه «الطيب» فى وسط هذه الحقبة، فقرأ، كما يقول، لعدة من العمالقة وكان «العقاد» فى مقدمة هذه النخبة من العظماء، الذين مثلوا لجيلنا طوق نجاة، وأعادوا لنا الثقة فى أنفسنا وفى تراثنا وحضارتنا، ثم كانت مؤلفات المفكر الإسلامى الكبير الأستاذ الشيخ محمد الغزالى، ومقالاته ومحاضراته، «مصدات» قوية وشامخة وقفت فى مهب هذه الرياح المادية العاتية.
 
وخلص «الطيب» وجهة نظره فيما سمى بمعركة التراث إلى، أولا: ثمة فرق بين التجديد وبين التغيير، الأول: حفاظ على الأصول وإضافة إليها ونفض لما يتراكم عليها من غبار يحجبها عن الأنظار، والثانى: هدم وبدء جديد من فراغ يتم تحت أى مسمى إلا مسمى التجديد، اللهم إلا إذا كان القصد تغييب الوعى أو خداع الجماهير.
 
ثانيا: إن التراث والتجديد ينتهى بنا فى التحليل الأخير إلى المتاهات الآتية، الأولى: اعتبار الإسلام «معطى تاريخيا وواقعة حضارية حدثت فى التاريخ، يهمنا منه ما نشأ كحضارة، وليس مصدره، من أين أتى، تهمنا حضارته بعد حدوثه بالفعل، وتجديد التراث ليس هو البحث عن النشأة بل عن التطور»، والثانية: البداية العلمية للتغيير تعنى البدء بالواقع واعتباره المصدر الأول والأخير لكل فكرة، والثالثة: تحريم عملية التغيير على الطبقة البورجوازية أو من ينتمى إليها، وإسناد المهمة بكاملها إلى الطليعة المنتسبة نفسيا ونضاليا إلى الطبقة العاملة.
 
ومن حقنا أن نقرر أن التراث والتجديد فى هذا الإطار نظرة خاصة وشخصية إلى أبعد حد ممكن، وأنه لا يعبر عن آلام وآمال الجماهير، بل جاء تعبيرا عن آمال فئة محدودة العدد جدا وإلى الحد الذى يسقطها من حساب النسبة والتناسب.. ومن حقنا أيضا أن نقول: إن تجديد التراث الإسلامى لا يحسنه إلى عالم ثابت القدمين فى دراسة المنقول والمعقول، فاهم لطبيعة التراث المعقد، مدرك لطبيعة المناهج وأدوات التحليل الفكرى المستخدمة فى البحث والتقصى، وهل تتلاءم مع طبيعة تراث يعتمد على أصول ثابتة موجهة للواقع وحاكمة عليه، أو تتنافر معه منذ الخطوة الأولى من البحث.
 
والذى لا شك فيه أن التراث والتجديد، بل أكثر مشاريع التجديد، خلا من هذه الشروط الضرورية ونظر إلى تراثنا فى أصوله الثابتة من منظار منهج تطورى، أولى مسلماته: ألا ثابت ولا مقدس فلا شك أن تجيئ النتائج كلها مضطربة متناقضة، الأمر الذى يجعلنا نتساءل عن أهداف مثل هذه الدراسات، وهل هى حقيقة تجديد لتراث الأمة الإسلامية وبحث عن هويتها وتأكيد لذاتيتها أو هو استئصال لما تبقى من عناصر قوتها وحيويتها تأكيدا لاستمرار التبعية، ثانيا: أن مشروع التراث والتجديد، قد أهدر كثيرا من دلالات النصوص اللغوية والتاريخية لحساب رؤية خاصة لم تحل الإشكال بل زادته اضطرابا وغموضا.
 

ثالثا: لا ننكر أننا في حاجة إلى التجديد بل مشكلتنا الأم هي غيبة التجديد لكن شريطة الوضوح والفصل بين مجال الثوابت ومجال المتغيرات والتفرقة والحاسمة بين أصول الدين وتراث أصول الدين، ومن المؤسف حقا أن نقرر أن ارتباط جماهيرنا بالتراث قاصر على مجال العبادات، بينما يختفي هذا الارتباط أو يكاد في مجال العمليات والاجتماعيات، وأنه لا يزال أمام دعاة المسلمين من أولى الفهم والوعي الكثير مما هو مطلوب لربط المسلم بتراثه في هذا المجال.

رابعا: لا أرى أن التراث هو المحرك لتصرفاتنا والمسؤول الأول والأخير عن أزماتنا المعاصرة بل أستطيع أن أنطلق من نقيص هذه الدعوى وأزعم أننا لا نستلهم تراثنا الإسلامي في كثير مما نفعل أو نترك، وإلا فأين في أمتنا العربية والتي يعلقون تخلفها على مشجب التراث أين فيها هذا المجتمع الذي تنضبط قواعد حياته على أصول الحلال والحرام في التراث؟.

ولنضرب لذلك مثلا موقف مجتمعاتنا الإسلامية من المرأة إن بعض هذه المجتمعات ينظر إليها في إطار العورة ويصادر في هذا الإطار كثيرا من حقوقها التي يقررها الإسلام والإنسانية في وضوح لا لبس فيه، هل هذا الموقف مقولة تراثية إسلامية أو هو مرض مزمن ورثناه من عصر ما قبل الإسلام؟ والبعض الآخر من مجتمعاتنا ينظر إليها في إطار غربي تختلط فيه الإيجابيات والسلبيات معا. فهل هذه نظرة تراثية إسلامية، أو هو انسحاق في تراث آخر غير تراث الإسلام؟ إن هذا أو ذاك تقليد وافد على تراثنا من خلف ومن أمام ولا يستطيع منصف أن يلحق أيا منهما بتراث الإسلام، ونحن لا ننكر أن في تراثنا أقوالا منغلقة ومفاهيم قبليه قدمت لنا أحكاما خالية من روح النص ومقاصده، بل ومتعارضة مع روح النص ومقاصد". ولكن وبكل تأكيد ليس هذه هو التوجه السائد أو التوجه الأغلب في هذا التراث المظلوم.

وأنهى الطيب وجهة نظره بالقول «اذن فقدر كبير جدا من أنماط سلوكنا لا يعكس تراثنا الإسلامي بقدر ما يعكس إما تأثيرات مزمنة من مجتمعات قبلية سابقة على ظهور الإسلام، أو تأثيرات مستجلبة من بيئات غريبة، أو من خليط غير متجانس ولا متوازن بين هذين المصدرين المتضادين، فليس صحيحا ما يؤكده "التراث والتجديد" من أن سبب خلط الأوراق في أذهاننا هو أننا نعمل بالكندي ونتنفس بالفارابي ونرى ابن سينا في كل الطرقات، بل المشكلة فيما رأي أننا نعيش عصرنا وإحدى قدمينا في ميدان "داحس والغبراء" والأخرى في "البيكادلي والشانزليزيه" وغياب التراث الحقيقي كان دائما مصدر الخلل وستظل مقولاته الثابتة هي الحلقة المفقودة لاستعادة التوازن بين الماضي والحاضر».

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق