لم تقتصر انتقادات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى أسلافه على الرئيس السابق باراك أوباما، وإنما امتدت إلى آخرين، من الرؤساء المنتمين للحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه، وكان ممثلا له فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو ما يعطى انطباعا أن رؤيته كانت بمثابة تمرد على النهج الأمريكى فى العقود الأخيرة التى انتقصت من قيمة الولايات المتحدة ومكانتها الدولية، على الرغم من بقائها على قمة النظام الدولى.
ومع إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن نيته الترشح رسميا لولاية ثانية فى 18 يونيو المقبل، يأتى فى الأذهان الشعار الذى رفعه ترامب مع انطلاق حملته الانتخابية عام 2016 وهو «لنجعل أمريكا عظيمة مجددا»، ربما كان وقتها لا يخرج، فى أذهان المتابعين، عن إطار الشعارات الانتخابية التى ما يطلقها دائما المرشحون لمثل هذه المناصب، سواء فى الولايات المتحدة أو غيرها، إلا أنه فى واقع الأمر كان يمثل انعكاسا لرؤية المرشح الجمهورى آنذاك، وهو ما بدا واضحا فى التصريحات التى أطلقها، فى حملته الانتخابية، والتى لم تقتصر على الوعود الانتخابية بتحسين الأوضاع للمواطن الأمريكى، وإنما انتقاد السياسات السابقة.
عقيدة ترامب منذ البداية كانت تدور حول تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة فى السنوات الماضية، مما انتقص من «المكانة العظيمة» التى كانت تتمتع بها واشنطن فى الماضى، على حد ما يمكننا استخلاصه من الشعار الذى أطلقه، وبالتالى فهو يسعى لتبنى سياسات من شأنها إعادة أمريكا إلى سابق مجدها، سواء على الجانب الاقتصادى أو السياسى، فى ظل التراجع الكبير الذى شهدته الإدارة الأمريكية خلال ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمان، كان من المفترض أنها القوى الوحيد على قمة النظام الدولى العالمى، وذلك بعد إزاحة منافسها الرئيسى، وهو الاتحاد السوفيتى فى بداية التسعينات من القرن الماضى.
وعلى الرغم من تصريحات ترامب، خلال حملته الانتخابية، وكذلك التوقعات التى أحاطت به قبل وصوله إلى البيت الأبيض التى دارت فى معظمها أن يكون الاقتصاد الأمريكى سيكون بمثابة الشغل الشاغل للرئيس الأمريكى الجديد، خاصة إذا ما نظرنا إلى خلفيته قبل خوض المجال السياسة، باعتباره أحد أبرز رجال الأعمال فى العالم، إلا أن الوضع الاقتصادى، فى واقع الأمر، لم يكن الأولوية الوحيدة للرئيس الأمريكى، حيث كان استعادة «الكبرياء» هو أحد أهم أولويات ترامب، فى ظل صعود عدة قوى دولية يمكنها مزاحمة النفوذ الأمريكى فى العديد من مناطق العالم.
ولذلك كان الرئيس السابق باراك أوباما صاحب النصيب الأكبر من انتقادات ترامب، سواء فى حملته الانتخابية، أو حتى ما بعد تنصيبه، حيث يرى أن سعيه إلى التحرك الجماعى مع العديد من القوى الدولية فى العديد من القضايا، بمثابة انتقاص صريح من مكانة الولايات المتحدة، حيث سمح لتلك القوى للقيام بدور بارز على الساحة الدولية، مما فتح الباب أمامها للتحرك بعيدا عن فلك واشنطن، حتى وإن كان هناك حالة من التوافق فى المواقف التى تتبناها تلك الدول مع الرؤية الأمريكية.
وهنا يمكننا القول بأن سياسات ترامب قامت فى الأساس إلى إعادة هيكلة العلاقة بين واشنطن، ودول العالم، سواء من الخصوم أو الحلفاء، بالشكل الذى يمكن لأمريكا من خلاله الاحتفاظ بهيمنتها الدولية، دون خلق قوى أخرى يمكنها مزاحمة مكانتها ونفوذها، وسيطرتها على النظام الدولى العالمى.. ليبقى التساؤل ماذا فعل ترامب لتحقيق هذا الهدف منذ بداية حقبته كرئيس للولايات المتحدة.
تعد منطقة الشرق الأوسط نموذجا واضحا لإبراز تشابه النهج الأمريكى فى عهد الرئيس دونالد ترامب، تجاه الحلفاء والخصوم، فى ظل موقفه المعادى سواء تجاه الحليف التركى، الذى يمثل شريكا لواشنطن فى حلف شمال الأطلسى «الناتو»، أو الخصم الإيرانى، وهو ما بدا واضحا ليس فقط فى اللهجة التى اتسمت بقدر كبير من العداء تجاه الدولتين، رغم اختلاف وضعهما التاريخى والسياسى بالنسبة لواشنطن، ولكن فى سعيه إلى استعادة العلاقات مع حلفاء بلاده التاريخيين فى المنطقة.
فى أول زيارة خارجية قام بها الرئيس ترامب إلى المنطقة، كانت المملكة العربية السعودية هى المحطة الأولى له، فى رسالة مفادها رغبة واشنطن فى الاعتذار عن خطيئة أوباما، خاصة فيما يتعلق بالتقارب مع طهران، كما أنه التقى مع عدد من رؤساء الدول العربية، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسى، والذى كان قد استضافه قبلها بأيام فى البيت الأبيض، على هامش القمة العربية الإسلامية، التى دعت لدحض الإرهاب، وتجفيف منابعه، فى إشارة صريحة لرغبة أمريكا فى إصلاح ما أفسده أوباما خلال سنوات وجوده بالبيت الأبيض، إلا أن الرئيس الأمريكى ربما يرى أن ثمة تشابهات كبيرة بين طهران وأنقرة، مما دفعه إلى وضع الدولتين فى نفس السلة، حيث لوح تجاههما بعصا العقوبات، كما قوض الخطوات التى اتخذتها الإدارة السابقة للتقارب معهما، فى ظل النهج الذى تبنته الدولتان، والذى اتسم بقدر كبير من الاستعلاء فى التعامل مع واشنطن، رغم ما منحته لهما من مزايا فى السنوات الماضية. ولعل التغيير الكبير فى شكل العلاقة مع واشنطن، يمثل أكبر التشابهات بين أنقرة وطهران فى السنوات الماضية، حيث جعلت إدارة أوباما من تركيا حليفا رئيسيا لها، فى المنطقة، على حساب تحالفات واشنطن التاريخية، وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية، بينما سعت إلى تحقيق قدر من السلام مع إيران، عبر إبرام الاتفاق النووى، الذى يمثل تحديا رئيسيا ليس فقط لأمن منطقة الخليج، ولكن أيضا للمصالح الأمريكية فى المنطقة. رؤية ترامب للخطوات الأمريكية فى عهد أوباما قامت على فكرة رئيسية تتمثل فى أنها نالت من قيمة واشنطن، باعتبارها القوى الدولية المهيمنة، حيث لم تقتصر تجاوزات طهران على انتقاد السياسات الأمريكية، إلا أنها امتدت إلى النيل منها، ومن مصالحها فى الشرق الأوسط، فى خطوات ربما أثارت حفيظة الإدارة الأمريكية بصورة كبيرة.
التهديدات التركية للمصالح الأمريكية مازالت قائمة حتى الآن فى ظل رغبة النظام التركى على شراء منظومة صواريخ روسية «إس 400» فى انتهاك صريح لقواعد حلف شمال الأطلسى، بالإضافة إلى حملاتهم العسكرية التى تستهدف وحدات حماية الشعب الكردية فى سوريا، التى تحظى بدعم الولايات المتحدة فى حربها ضد تنظيم داعش الإرهابى.
ولم يتوقف التطاول التركى على واشنطن على مجرد تهديد المصالح الأمريكية فى المنطقة، وإنما امتد إلى استهداف المواطنين الأمريكيين، عبر اتهامهم بالتورط فى محاولة الإطاحة بالرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى يوليو 2016، وعلى رأسهم القس الأمريكى أندرو برونسون، وهو الأمر الذى اعتبره الرئيس ترامب تجاوزا غير مقبول.
أما الجانب الإيرانى، فلم يختلف نهجه بشكل كبير عن نظيره التركى، سواء فى الموقف من القضايا الدولية، أو على المستوى الثنائى، حيث قامت إيران باعتقال بحارة أمريكيين، وتصويرهم مقيدين، فى اتهامات تتعلق بدخولهم المياة الإقليمية الإيرانية، وهو ما علق عليه ترامب، بينما كان مرشحا فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بقوله إن المشهد يمثل انعكاسا صريحا للمهانة التى تتعرض لها الولايات المتحدة فى عهد أوباما. وهنا لم يجد الرئيس الأمريكى سوى عصا العقوبات لإرضاخ الحليف التركى المتمرد، أو الخصم الإيرانى، وهو ما بدا واضحا فى الحالة التركية، فى العقوبات التى فرضتها واشنطن على مسئولين أتراك، وكذلك فرض إجراءات جمركية على الصادرات التركية القادمة لواشنطن، مما دفع أنقرة فى النهاية إلى إطلاق سراح القس الأمريكى، وهو ما اعتبره ترامب انتصارا دبلوماسيا كبيرا سعى إلى الترويج له عبر الخروج مع زوجته ميلانيا فى استقباله بالمطار. أما فى الحالة الإيرانية، كان القرار الأمريكى بالانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى، فى مايو الماضى هو أول الصفعات الأمريكية فى وجه طهران. ولكن يبقى التساؤل حول ما إذا كانت السياسات الأمريكية أتت بثمارها فى إرضاخ الخصم الإيرانى والحليف التركى أم لا.. يبدو أن سياسات واشنطن تحقق نتائج كبيرة فى ظل حالة الانهيار التى تشهدها البلدين فى المرحلة الحالية، سواء على المستوى الاقتصادى أو السياسى، ونجد أن تركيا خضعت لرغبة واشنطن فى الافراج عن القس الأمريكى. أما بالنسبة لطهران، فنجد أن نجاح ترامب يكمن فى تمكنه فى إظهار الوجه القبيح لنظام الملالى الحاكم، وبالتالى فك الارتباط بين الدولة الفارسية، ودول أوروبا المتعاطفة معها، التى أبدت تمسكها بالاتفاق النووى.