مصر وأوروبا.. والمقارنة الظالمة

الخميس، 13 ديسمبر 2018 06:45 م
مصر وأوروبا.. والمقارنة الظالمة

ولأن الكلمة كالرصاصة، إذا خرجت لن تعود لمكانها مرة أخرى، فمن المسلم به، وبحكم المنصب، أن يحرص المسؤول على الظهور بشكل جيد، وينتقي كلماته بعناية، ويوزنها بميزان الذهب قبل التفوه بها؛ حتى لا يعرض نفسه للمحاسبة، أو للسخرية منه ومن الحكومة كلها.
 
لكن هناك فارق كبير بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن.. والصورة الجميلة، والكلام المحسوب لكثير من المسؤولين لم تعد موجودة، أو موجودة بصورة مشوهة، أو مهتزة إلى حد كبير.. وساهم في رسم تلك الصورة ورسوخها في الأذهان، تصريحات اتسمت بالغرابة، وأثارت موجات استهجان واسعة، بل تسببت في إحراج الحكومة، والإساءة للنظام.
 
من هذه التصريحات، الإصرار على ربط بعض القرارات المصرية بدول أخرى، وعقد مقارنات «ظالمة» مع دول أوروبا، وأمريكا، وآسيا، أو حتى إفريقيا.. فبعض المقارنات، إن لم تكن كلها غير متكافئة، وضررها أكبر من نفعها؛ لأنها قد تفتح عيون النائمين، وتنبه الغافلين إلى حقائق وأشياء كانوا عنها صامتين، أو «عاملين مش واخدين بالهم منها»!
 
في 2014 قال عبد العزيز أحمد، المتحدث باسم هيئة الطرق والكباري، إن «الطرق في مصر تتفق مع المعايير الدولية ولا تقل عن طرق أبو ظبي وألمانيا»! لا تعليق.
 
وبمناسبة المؤتمر الاقليمي لوزراء التعليم العرب 2015، قال وزير التعليم، الدكتور محمود ابو النصر- خلال مداخلة هاتفية متلفزة: «مصر حتى الآن صاحبة الريادة، وكل الدول تحتذي بها في المجالات التعليمية»! فكيف ذلك ومصر كانت تحتل- وقتذاك- المركز 139 من بين 140 دولة في مجال جودة التعليم؟!
 
وخلال لقائه المبعوثين المصريين في بريطانيا، قال وزير التعليم العالي الأسبق، الدكتور السيد عبد الخالق: «مصر تمتلك مستشفيات أفضل من الموجودة في بريطانيا، من حيث المباني والتجهيزات».. وحسنًا فعل الوزير حين حصر الأفضلية في «المباني والتجهيزات»، لكن لا أحد ينكر أن بونًا سحيقًا بين الطب عندنا والطب في بريطانيا، وإلا ما كان «عِلْيَةُ قومنا» يذهبون إلى لندن للعلاج، أو لعمل «تشك أب»!
 
وفي تبريره لزيادة سعر تذكرة مترو الأنفاق، قال الدكتور هشام عرفات وزير النقل، خلال مداخلة هاتفية متلفزة، إن «سعر تذكرة المترو في مصر هي الأرخص عالميًا، حتى بعد الزيادة»، وأن سعر التذكرة فى المكسيك 2.25 دولار، أي ما يعادل 40 جنيهًا، بينما تباع في مصر بثلاثة جنيهات! «نو كومنت».
 
أما المهندس طارق الملا، وزير البترول، فقال إن سعر لتر البنزين والسولار فى الدول الأوروبية يعادل 30 جنيهًا مصريًا.. وأن سعر البنزين في أمريكا يعادل 15 جنيهًا للتر، وفي المغرب 21 جنيهًا، والأردن 27 جنيهًا، والإمارات 12 جنيهًا.. عادي «مجتش عليه».
 
وهكذا، يكاد لا يكف أي وزير- إلا ما رحم ربي- عن عقد مقارنة بين أم الدنيا ودول الغرب أو الشرق؛ كتبرير لارتفاع سلعة، أو تمهيدًا لزيادة الرسوم على خدمة أو منتج، أو لتجميل صورة سلبية.. متناسيًا- مع سبق الإصرار- قواعد المقارنة، وأن هذه المقارنات «ظالمة»، خاصة مع الدول الأكثر منا تقدمًا، ودخلًا.
 
هذه المقارنات تجلب تساؤلات- أظنها «مشروعة»- عن متوسط الدخل بيننا وبين دول أوروبا وأمريكا، وعن طبيعة وجودة الخدمات المقدمة لمواطني هذه الدول، ولماذا عند «الرفع» أو «الدفع»، أو «الأخذ منا» يحاسبوننا بالأسعار العالمية، ويقارنوننا بأكثر دول العالم دخلًا ورفاهية، وعند المطالبة بشيء يعايروننا بما تقدمه الدولة لنا، ويطالبوننا بحمد ربنا «وش وضهر» حتى لا نكون مثل عزبة الأقرع، أو كفر طهرمس!
 
وفقًا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2018 عن ترتيب الدول حسب دخل الفرد من الناتج المحلي الاجمالي بالدولار سنويًا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية53.101 ألف دولار، وبريطانيا 37.307 ألف دولار، وفرنسا 35.784 ألف دولار، ﺍلإمارات 31.493، وأوكرنيا- وهي بالمناسبة أفقر دولة أوروبية- فمتوسط الدخل فيها 7.423 آلاف دولار، بينما متوسط الدخل في مصر 6.579 آلاف دولار.. معنى ذلك أننا لم نحصل أفقر دولة في القارة العجوز حتى يقارننا وزراؤنا الأجلاء بأوروبا.
 
ربما غاب عن ذهن بعض المسؤولين أن المواطن المصري ذكي جدًا، و«بيفهمها وهي طايرة»، لكنه صابر، وراضٍ بواقعه، على أمل أن تتحسن الأمور، ويجني ثمار الإصلاح الاقتصادي، وبالتالي فأي مقارنة «غير واقعية» أو غير منطقية لن تمر عليه مرور الكرام، وليس معنى صمته موافقته، بل يمكن أن تكون «صبرًا» على الابتلاء بهؤلاء المسؤولين، الذين يزيدون ناره اشتعالًا!
 
اختصارًا، هؤلاء المسؤولون رغم كفاءتهم، ونزاهتهم، وطهارة أيديهم، إلا أنهم يفتقرون إلى الحس السياسي، واللغة التي يخاطبون بها الشارع.. تجرهم أضواء الكاميرا إلى منطقة اللاعودة.. لا يدركون متى يلوذون بنعمة الصمت، حين يكون الصمت فضيلة، ولا يعلمون متى يتكلمون، حين يكون الكلام واجبًا ومُعبرًا، وكافيًا، ويشف صدور قوم مصريين.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق