نقطة نظام
"فَرْشة صُحُف"
الخميس، 29 نوفمبر 2018 03:26 م
المُعاقون مهنيًّا والمُتجمّدون فكريًّا فقط هم من يُبشِّرون باندثار الصحافة الورقية، وزوال عهدها إلى غير رجعة. هؤلاء العاجزون المُستسلمون هم الذين قضوا على ما تبقّى من هذه الصناعة، ويستعدّون الآن لتشييعها إلى مثواها الأخير، وفوق وجوههم الباهتة ضحكاتٌ بلهاء.
لا يختلفُ اثنان على أن هناك تحدياتٍ جسامًا لا تخفى على أحد، أسهمتْ في تراجع الإقبال على الصحيفة الورقية. إذا استيقظتَ مبكّرًا، وساقتْك أقدارُك إلى "فَرْشَة صُحُف"، فسوف تُصاب حتمًا بالإحباط، صحفيًّا كنتَ أو قارئًا، فلن تقعَ عيناك على "عنوان جديد"، ستشعرُ أنها صُحف أمس أو أول أمس، فهذا العنوانُ سمعته في مذياع سيارتك، وذاك العنوان تابعته في التليفزيون، أو عبر هاتفك الذكي، حينئذٍ لن تمدَّ يدك لتسحبَ صحيفة أو اثنتين، كما كنتَ تفعلُ في سنواتٍ سابقاتٍ، بل ستمطُّ شفتيك، وتشيح بوجهك، وتنصرفُ فى هدوءٍ.
المُبرِّراتُ جاهزة ومُعلَّبة عند القائمين على مقاليد أمور الصحافة الورقية، على اختلاف أطيافها، تارةً يخدعونك بأسبابٍ سياسيةٍ ودواعٍ أمنيةٍ لا مكان لها إلا في رؤوسهم، وتارةً أخرى بأن غول التكنولوجيا والثورة الرقمية قضى على أسطورة الصحافة الورقية، وتارة ثالثة بارتفاع أسعار الورق، وتارة رابعة بأن المصريين لا يقرأون، ولكنهم في كل الأحوال لن يعترفوا أبدًا بفشلهم المهني، وعجزهم الفكري، وأنهم السببُ الأولُ والأخيرُ فيما آلتْ إليه الصحافة الورقية من تردٍّ وتدنٍّ على جميع المستويات. ودليلُ كذبهم أنه عندما ظهر التليفزيون لم يندثرْ الراديو، ولكن حدث العكس تمامًا، وأصبحت هناك محطاتٌ إذاعية خاصة.
الوسائلُ الإعلامية يُكملُ بعضُها بعضًا، ولا تقضي إحداها على الأخرى. في غيابِ المهنية والمبادرة والابتكار والتجديد لا تتوقَّع سوى أسوأ السيناريوهات وأشدّها قبحًا، ووصلات لا تنتهي من الأكاذيب والأباطيل والأوهام المُلفَّقة. عندما يكونُ لديك شعبٌ قوامُه 100 مليون نسمة، فمن العار أن يكون إجمالي توزيع الصحف أقل كثيرًا من نصف المليون نسخة يوميًّا. قد يكونُ للأزمة بعض الوجاهة في الدول الصغيرة ذات الملايين التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. الهندُ مثلاً بها 350 صحيفة ورقية لم تُغلق أيٌّ منها أبوابها. المسؤولية هنا ليستْ على "شعبٍ لا يقرأ"، ولكنها تقع على صناعة ضخمة لا تُقدِّم له جديدًا، بل تريدُ أنْ تخدعه بـ"بضاعة بايتة"، سبق نشرُها في المواقع الإلكترونية، وبثّها إذاعيًّا وتليفزيونيًّا، وإن لم يبلعْ الطُعم اتّهموه بعدم القراءة.
لو أن الأزمة تكمن في "الشعب الذي لا يقرأ"، فأنتم من ربّيتموه على عدم القراءة، وحرّضتموه تحريضًا على الجهل. ثم إذا كان مُبرِّرُكم الأكبر هو "الشعب الذي لا يقرأ"، فلماذا لم تسألوا أنفسكم يومًا: كيف تنفد طبعاتٌ عدّة من الروايات أو دواوين الشعر مثلاً؟ وكيف يتسابق الشباب "المُتّهم الأول بعدم القراءة" لشراء كتاب أو رواية قد يتجاوز ثمنها 100 جنيه؟
بعيدًا عن كل ما قيل آنفًا من حلول لأزمة الصحافة الورقية، بعضُها عمليٌّ، وكثيرٌ منها نمطيٌّ وساذجٌ وكسولٌ، فإنه آن الأوان للدعوة إلى مؤتمر "مصري/ عربي" لوضع خُطط إنقاذ جادة وعملية للصحافة الورقية، بشرط أن تغيبَ عنه جميعُ الوجوه التي أسهمت في هذه المحنة.
قد تسأل: وهل هناك حلولٌ؟ أم أن المؤتمر سيكون "مَكْلَمة" لا طائل من ورائها؟ والإجابة: بكل تأكيد.. نعم، فلا تزالُ الآمال مُمكنة ومتاحة، لإحياء صناعة تحتضر، لا يقتاتُ منها صحفيّون فقط، بل قطاعاتٌ كبيرة وكثيرة، ولكن هذا لن يحدث إلا بعد التخلُّص من جميع العقليات التي "خرَّبت" الصحافة الورقية، سواء عن عمدٍ أو جهلٍ. وأخيرًا.. لا يجبُ على الدولة المصرية، بتاريخها وحضارتها وريادتها، أن ترفع يدها وتتخلّى عن مسؤوليتها تجاه الصحافة الورقية، وتترقّب احتضارها، بل يجب أن تُعيد حساباتها بشأنها، لأنها ليستْ شرًّا مُستطيرًا كما يزعم الزاعمون.