إنهم يقتلون "مسرحنا" بدم بارد

الأربعاء، 17 أكتوبر 2018 01:58 م
إنهم يقتلون "مسرحنا" بدم بارد
حازم حسين

لا تُوحي المقدمات بالنتائج دائمًا. رغم ما درجنا عليه من قناعات تخصّ ارتباط الأمور وتضافرها؛ لتقود البداياتُ المُحدَّدة إلى مآلات مُحدّدة، قد نكتشف أحيانًا أن هناك أمورًا تسير بقانون آخر. فقد يبدأ أمرٌ ما بطريقة سلبية أو كترضية لشخص ما، ثم يتحوّل إلى فعل مُهم ومؤثِّر. كثيرًا ما تفرض الحياة منطقها وتُحدِّد للأشياء مساراتها.

المثال الأبرز على هذا القانون المُعاكس لمنطقنا الموروث، جريدة "مسرحنا" التي تُصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة. بدأت الجريدة كمنحة من الوزير السابق فاروق حسني لصحفي من حواريّيه والمُقربين منه، في البداية استغرب الناس العطيَّة التي لا منطق فيها، إذ لا رابط بين المنحة والممنوح، الرجل صحفي وشاعر عامية (جهبذ وسِيد الشُطّار) لكن لا علاقة له بالمسرح ولم يقترفه من قبل. المهم سارت الأمور كما أراد لها فاروق، واجتهد الحواريّ المُقرّب ليفهم ملعبه الجديد. وقال المسرحيون كلمتهم.

بدأ الأمر من مهرجان نوادي المسرح الذي نظمته الهيئة في العام 2007 بمحافظة الإسكندرية. وقتها كان رئيس الهيئة الفنان التشكيلي أحمد نوّار، الذي استدعى أحد الصحفيين للإشراف على النشرة اليومية لمهرجان الهواة وأصحاب الخطوات المسرحية الأولى. وقتها كانت مصر تستفيق من كارثة احتراق مسرح قصر ثقافة بني سويف في سبتمبر 2005، التي أودت بحياة أكثر من 50 مسرحيًّا، وفتّش الوزير ورئيس الهيئة ومعاونوهما في دفاترهم بحثًا عن ما يتصوّرونها ترضيات تُخفِّف حدّة الاحتقان والموقف الحاد لدى المسرحيين من المؤسسة. ربما من هذه الزاوية قرّر أحمد نوّار امتداد النشرة كصحيفة أسبوعية بعد انتهاء المؤتمر، وقرر فاروق حُسني أن تكون هديته للصحفي المُقرّب منه، وهو (جهبذ وسِيد الشُطّار). وبين القرارين انطلقت "مسرحنا".

كان المُتوقّع أن تهتز التجربة وترتبك و(تلبس في حيطة).. ليس فقط لأنها أول صحيفة أسبوعيّة مُتخصِّصة في المسرح بعد "ستيدج" الإنجليزية، ولا حتى لأن القائم الأول على أمرها لا علاقة له بالمسرح، ولا أن الجمهور لا يهتم بهذه النوعية من الصحافة ولا يتعاطاها. وإنما لأن لدينا فقرًا واضحًا في المتابعة الجادة للأنشطة المسرحية والتعاطي معه بالعرض والتحليل، وفقرًا في النقد التطبيقي، وشظفًا وشبه انعدام في التنظير والقُدرة على مقاربة الأمور النظرية والأكاديمية المُتّصلة بهذا الفن. كان هذا التصوّر واضحًا مع انطلاق الصحيفة، لكن يبدو أن المسرحيين أخذوا على عاتقهم أن يتجاوزوا هذه المصاعب والعقبات، فكثّفوا نشاطهم وعمّقوا معارفهم وبسّطوا لغتهم، حتى واكبوا كل العروض وقاربوا النظريات واتّصلوا بقُرّائهم اتصالاً سهلاً وواعيًا. وهكذا سارت "مسرحنا" ببركة المسرحيين والمُحبّين والمُتعاطفين وكل أهل الخير والقلوب الرحيمة، لا ببركة الهيئة ولا الوزير ولا الشاعر المُقرّب منه، وهو (جهبذ وسِيد الشُطّار).

صَنَعت "مسرحنا" حالة زخم قويّة في أوساط المسرحيين، الهواة والمحترفين، لكنها لم تكن جريئة ولا ديناميكية بما يكفي لتمدّ ساقيها خارج "ستاند" المطبوعات البائرة لدى باعة الصحف، وتقفز في يد رجل عادي أو طالب جامعي أو موظف مُحبّ للفنون. ظلّت الصحيفة حبيسة الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفروعها التي تستقبل منها مئات النسخ المجانية، وطلاب أكاديمية الفنون، وبعض النقاد والفنانين، وقبلهم من يكتبون فيها. كان الأثر المباشر لهذا الأمر أن تظل الصحيفة في حالة خسارة دائمة، صحيح أنه ليس مطلوبًا من هيئة قصور الثقافة ذات الطابع الخدمي أن تكون جهة ربحية أو تُحقق مكاسب من إصداراتها، لكن على الأقل كان يتعيّن على من أُوسد لهم أمر الصحيفة أن يتحسّبوا لمُستقبلها، ويعلموا أن الهيئة محدودة الميزانية والموارد قد تواجه أزمات مالية طاحنة في أي وقت، وأنه أمام الأزمة ربما تتقدّم "مسرحنا" طابور الضحايا. إن لم يكن بمنطق أنها لا تصل لمتلقي الخدمة الثقافية الأساسي الذي تستهدفه الهيئة، فبمنطق أن الهيئة ليست مؤسَّسة صحفية، وإذا تعارضت قدراتها مع متطلباتها فإنها قد تعود خطوة إلى الخلف، قابضة على أنشطتها ومهامها الأساسية، مُضحّية بالصحيفة. هذا ما حدث، وكان غائبًا عن أذهان القائمين على "مسرحنا"، وفي مقدمتهم (الجهبذ سِيد الشُطّار).

في ولاية الراحل الدكتور سيد خطاب بالهيئة العامة لقصور الثقافة نشبت أزمة مع الصحفي الذي قبض على زمام الأمور في "مسرحنا" طيلة تسع سنوات، كأنها إقطاعية أو تركة موروثة. أُثيرت شبهات وتساؤلات عدّة حول مشكلات في الإدارة والرواتب وتسريب الأعداد للنشر الإلكتروني قبل طباعتها. تطوّر الأمر لاحقًا لتغيير إدارة التحرير، وتقليص الأعداد المطبوعة من 4 أعداد إلى عدد واحد شهريًّا، مع إصدار الثلاثة الأخرى بصورة إلكترونية عبر موقع دشّنته الهيئة للصحيفة. خرج الموقع فقيرًا وبدائيًّا لأنه لم يُؤسَّس بآلية احترافية، وتُركت مهمة تصميمه وتنفيذه لموظّفي الهيئة ولم تُوكل لجهة فنيّة مُختصّة. وسارت الأمور وفق هذا الإيقاع شهورًا، إلى أن قرّر رئيس الهيئة الحالي، الدكتور أحمد عواض، على ما يبدو أن يتخلّص من "مسرحنا" ويُطلق عليها رصاصة قاتلة. وبحسب المتوفّر من مؤشرات ومعلومات من مصادر بالصحيفة أن "عواض" ومجلس إدارة الهيئة قرّروا إيقاف الإصدارالمطبوع والاكتفاء بالموقع البدائي الفقير، كمقدمة لتصفية الموقع نفسه لاحقًا وطيّ صفحة "مسرحنا" للأبد.

مع تنامي المشكلات وتعقُّدها تواصل رئيس تحرير الصحيفة الحالي، الناقد والكاتب الصحفي محمد الروبي، مع وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم، التي أبدت بحسب المصادر مشاعر إيجابية تجاه "مسرحنا"، وتمسُّكًا واضحًا بضرورة بقائها وتطويرها، ووعدت بالحفاظ عليها وفق الآلية الحالية، عدد مطبوع وثلاثة أعداد إلكترونية شهريًّا، لكن ما يحدث في أروقة الهيئة وداخل إدارة أحمد عوّاض ربما يُشير لوجهة أخرى وهدف مُضمر، لم تتحدّث عنه الوزيرة أو يُصارح به رئيس الهيئة فريق تحرير الصحيفة. يبدو أن اتفاقًا خفيًّا جمع الوزيرة بـ"عواض"، أو أن الأخير يُناور ويسلك مسارًا شخصيًّا برؤية وقرار فرديين، ضاربًا بموقف الوزيرة ووعودها عرض الحائط.

الأقرب إلى التحقُّق مُستقبلاً أن تُضحّي الهيئة بـ"مسرحنا"، ويفقد الوسط الثقافي والمسرحي الدورية الوحيدة المُتخصِّصة حاليا. في وقت كان يتعيّن فيه على مسؤولي الوزارة والهيئة العامة لقصور الثقافة، الذين يُهدرون ملايين الجنيهات في خطط نشر غير منطقيّة أو مُجدية بهيئة الكتاب وقصور الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة، وفي أنشطة وفعاليات ركيكة ودعائية، وفي مطبوعات لا قيمة لها، مثل برنامج النشاط الشهري لهيئة قصور الثقافة الذي ابتدعه "عوّاض" وتُرجّح التقديرات أن يستنزف أكثر من نصف المليون جنيه سنويًّا من ميزانية إدارة النشر، وغيرها من التحرّكات التي تبدو مُتخبّطة وتضرب في كل اتجاه إلا العمل الثقافي الواعي والحفاظ على خدمة ثقافية جادة وحقيقية، تُرسِّخ قيم وأفكار بناء الإنسان، وتخوض مع الدولة معركة الوعي. وسط أمواج الملايين التي تذهب هباء في اليمين والشمال، لا يرى أحمد عواض حلاًّ رشيدًا للتوفير إلا التضحية بمطبوعة مُهمّة وفريدة من نوعها، حتى لو أُديرت طوال سنوات بشكل خاطئ، أو عانت قصورًا في التخطيط والهيكلة والسياسة العامة والتوزيع. كل الأمور قابلة للإصلاح بعيدًا عن الحلول السهلة المنحازة للتخلُّص من المسؤوليات والقتل بدم بارد.

في ستينيات القرن الماضي حقّقت مجلة "المسرح" طفرة مهمة في صياغة الوعي العام، لدى الفنانين والمسرحيين وفئات عدة بالمجتمع، ومثّلت جسرًا مهمًّا يربطهم بالأمور الفنية والرؤى الحداثية والتوجهات الجديدة في الإبداع. توقفت المجلة وعادت أكثر من مرة، والآن هي في غَيبة طويلة مُمتدّة منذ سنوات، وبدلاً من البحث عن سبيل لإحيائها بغرض دعم "مسرحنا" وتعزيز موقفها، تُقرّر الهيئة العامة لقصور الثقافة، ورئيسها أحمد عواض، التخلُّص من الأخيرة وإلحاقها بالمرحومة "مجلة المسرح". سبق هذا قرار الرجل بوأد مشروع مسرح الجُرن، الذي كان مُتنفّسًا لطلاب المدارس وبابًا لاكتشاف مواهبهم وتنميتها، ويترافق مع مُشكلات وارتباكات عدّة داخل إدارة المسرح، وكأنه إشارة قاطعة يتعمّد "عواض" تكرارها والتأكيد عليها، مفادها أن الرجل الآتي من حقل السينما التجارية يكره المسرح، ويكره الفنون الجادة، ويتمنّى لو حوّل الهيئة إلى فرع تابع لشركات السُبكي ونوعية المنتجين الذين يُجيد التعامل معهم.

هل ترضى وزيرة الثقافة عن خطة تصفية "مسرحنا" والتخلص منها؟ وهل ترى إيناس عبد الدايم - التي أدرات دار الأوبرا لسنوات - أن وزارتها يُمكن أن تكون وزارة ثقافة بحق وهي تتخلَّص من كل نشاط جاد وإصدار مُستقر، وتُعادي الفنون، وتتجاهل مهمّتها في العمل على الوعي العام وبناء الشخصية المصرية؟! منطقيًّا يصعب تصوّر أن تكون الوزيرة الآتية من ساحة الفن، والموسيقية ذائعة الصيت وصاحبة التاريخ الواسع فوق خشبات المسارح ومع فرق الأوركسترا العالمية، تأخذ موقفًا عدائيًّا من الفن وما يُحيط به من أنشطة وفعاليات، لكن عمليًّا يتقلَّص حضور الفن وتتسارع مُعدلات تجفيف منابعه وردم أنهاره الصغيرة، بدلاً من حفرها وتعميقها وزيادة تدفُّقها لتُغذّي شرايين البلاد من شرقها لغربها. منطقيًّا تنحاز الفنانة إيناس عبد الدايم للفن والثقافة، وعمليًّا تتورّط وزارتها في مصادرتهما، وتترك بعض من يأخذون موقفًا مُعاديًا منهما في مواقعهم، يُعيثون فيها إفسادًا وتخريبًا، ويقضون على آخر ما تبقّى فيها من آمال وإمكانات.

ما لم تأخذ الوزيرة موقفًا جادًّا سنخسر "مسرحنا"، بدلاً من دعمها وتنميتها وتعزيز موقفها في الوسطين المسرحي والثقافي. ينحاز أحمد عواض ضد الصحيفة، ويجد دعمًا من مجلس إدارة الهيئة، وبعضهم محسوبون على الفنون للأسف. فهل نتعشّم في أن تُبادر إيناس عبد الدايم بإنهاء هذا الوضع المختل؟! لماذا لا تعود "مسرحنا" صحيفة أسبوعية مطبوعة مع تطويرها وتحديثها وإعادة هيكلة إدارتها ووضع خطط جادة ومُتكاملة لتسويقها؟! أو لماذا لا تتحوّل إلى مجلة شهرية تليق بوجه مصر وثقافتها ومسرحها وتاريخها في هذا الفن العريق؟!.. إنهم يقتلون "مسرحنا" بدم بارد يا (أوّل فنانة أتت من خشبة المسرح لكرسي الوزارة).. إنهم يقتلون "مسرحنا" بسبق إصرار وترصُّد، فلا تساعديهم على إنجاز هذه الجريمة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق