حيتان في بحيرة من الأكاذيب.. مواقع التواصل الاجتماعي بين البيزنس وانعدام المصداقية
الخميس، 27 سبتمبر 2018 08:00 م
العُملة الجيدة تطرد العملة الرديئة.. لعقود عديدة تعامل الاقتصاديون مع هذا القانون المُجرّد بيقين مُطلق، وللحقيقة كان صحيحا في الغالب، لكن في السنوات الأخيرة تطوّر الأمر بشكل ينسف هذا القانون.
رغم كل الملاحظات التي يُمكن تسجيلها على المنصات الإخبارية التقليدية، الصحافة والتليفزيون والمنصات الإلكترونية، إلا أنها تظل مصفاة محكومة بأُطر ومُحدِّدات موضوعية، تضمن التزام جامعي الأخبار بآليات واضحة في جمع المعلومات وتصنيفها وفرزها واصطفائها وبثّها للمتلقين. هذا الأمر بات من مُخلّفات الماضي الآن، مع بروز وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ولعبها - ضمن ما تلعبه من أدوار عديدة - دورًا مباشرًا في التشبيك المعرفي والإعلامي، بالدرجة التي تحوّلت معها إلى منصّات إخبارية رائجة، مع فارق بسيط يتمثّل في اتساع ثقوب المصفاة، أو غيابها أصلا.
لا يُشكّل انفتاح مدى التواصل وتبادل المعلومات عبر منصات الاتصال ذات الطابع الاجتماعي هاجسًا مؤرّقًا للدول والمؤسسات وجهات الضبط والقانون فقط، وإنما بات في الفترة الأخيرة يُشكّل إزعاجًا مباشرًا للمنصات نفسها، مع تورّطها في تجاوزات قانونية بسبب ما يوفّره الفضاء المفتوح من فرص ذهبية سهلة للجهات والأفراد، لترويج معلومات غير مُدقَّقة، وبثّ محتوى قد يخالف الضوابط الاجتماعية والقانونية الإقليمية في عديد من الدول. وبينما استندت هذه المنصات في هروبها من تبعات هذا الأمر في عشرات من الدول، إلى أنها تستظل بمظلة غربية تمنح هامشًا واسعًا للحركة، مع قيود أقل على المحتوى، فإن السياق الذي وصل له المشهد الآن يسير في اتجاه التعقيد، مع انعكاس الممارسات السلبية على البيئات الغربية نفسها، بشكل تسبب في اصطدام هذه المنصات بالأطر القانونية التي ظلت لسنوات طويلة أداة حماية مباشرة لها.
في قبضة الولايات المتحدة وأوروبا
منذ انطلاق موجة مواقع التواصل الاجتماعي أواخر العام 2004، وتوسّعها لاحقا لتغطي عشرات البلدان في أرجاء الأرض. تورّطت المنصات الناشئة في ممارسات تقع تحت طائلة القوانين الوطنية في هذه الدول. كانت المشكلة في البداية أن هذه الدول لا تمتلك قوانين خاصة ومؤسَّسة على رؤى عصرية حديثة للتعامل مع هذه النوعية من الخروقات. كانت الممارسات مُجرّمة وفق قوانين قديمة تتناول الأفعال في السياق المادي، وبهذه الصيغة كان عصيًّا عليها أن تتصدّى للأفعال نفسها في سياق افتراضي، وهذا الموروث نفسه هو ما جعل من الصعب إحكام السيطرة على هذا الانفلات، حتى بعد الالتفات للأمر وإنفاذ تشريعات جديدة تتعامل مع الواقع الطارئ حديثا.
شركة جوجل
ظلت دول عديدة تشكو في السنوات الأخيرة من الانفلات المتنامي عبر المنصات الاتصالية الحديثة، ولم تلتفت الدول التي تحتضن هذه المنصات للشكاوى والملاحظات. سارت الأمور على هذه الصورة حتى وجدت بلدان المنشأ نفسها في المواجهة. اشتبكت أوروبا مع جوجل وفيس بوك وتويتر وأبل وغيرها من الشركات، لأسباب تتعلق بالخصوصية وجمع بيانات المستخدمين وإساءة التعامل معها بشكل يتخطى القانون. وفي الولايات المتحدة اشتعلت الأزمة عقب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2016، واتهام فيس بوك وغيره من المنصات بتسهيل الاختراق الخارجي للتلاعب في مسار الانتخابات، وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المنتقدة لممارسات جوجل وتوجيهها نتائج البحث بشكل انتقائي وعدائي، أو ممارسات تويتر وغيره من المنصات.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
إدارة "فيس بوك" اعترفت بأنها مرّرت إعلانات ممولة من الخارج إلى ملايين الأمريكيين قبيل الانتخابات، ثمّ واجهت فضيحة تسريب بيانات أكثر من 80 مليون مستخدم لشركة كامبريدج أنالتيكا. جوجل نفت توجيه نتائج البحث. أبل خاضت صراعا مع المؤسسات الأمنية الأمريكية بسبب الخصوصية وبيانات المستخدمين وخوادم الشركة. وظل القوس مفتوحا على اتهامات عديدة لمنصات أخرى، بشكل دفع الكونجرس لتنظيم جلسات استماع للمسؤولين التنفيذيين في هذه الشركات، بدأها مع مارك زوكربيرج مؤسس فيس بوك، ويستعد لاستكمالها مع مديرين آخرين. بجانب عشرات الدعاوى القضائية التي تنظرها محاكم في أوروبا والولايات المتحدة من شركاء وموظفين سابقين ومؤسسات رسمية ومستخدمين عاديين، لأسباب تخص المحتوى والخصوصية أيضًا.
مارك زوكربيرج مؤسس فيس بوك ومديرها التنفيذي
ما تمتعت به منصات التواصل من حرية وتساهل قانوني طوال سنوات، يبدو أنه آخذ في التراجع قريبا، مع بروز الآثار السلبية لإدارة هذه المنصات بمنطق ربحي، وقصور الأدوات التقنية عن إحكام الرقابة على المحتوى والمستخدمين، ومعاناة بلدان المنشأ من آثار هذا الانفلات، بالصورة التي دفعتها لحصار شركات التقنية عبر الوسائل التنفيذية والقانونية والاقتصادية. بدأ الأمر بغرامات وعقوبات مالية، وتطور الآن لجلسات استماع برلمانية ودعاوى قضائية، وغالبا سيتطور في مدى وشيك لمنظومة تشريعية تحكم هذا الفضاء وحركة المستثمرين والمستخدمين من خلاله. ويمكن القول إن ما مضى من عمر مواقع التواصل الاجتماعي تحت حماية الولايات المتحدة وأوروبا، سيختلف جدّيًّا وبشكل معاكس تمامًا عما سيأتي على هذه الشركات وهي في قبضتهما.
بين الحصار والمناورة الاستباقية
الحالة التي تعيشها بعض شركات التقنية الكبرى حاليا تبدو أقرب إلى الحصار. والقراءة الموضوعية التي تمدّ الخط على استقامته يمكنها توقّع الصورة وما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلا. بالتأكيد بعض المنصات الكبرى أصبحت ترى مستقبلها القريب وتستشرفه، ولأنه من الطبيعي أن تسعى لتفادي هذا المستقبل المُنذر بالخطر، فمن المنطقي أن تلجأ لقدر من المناورة.
أول ما يطرأ للذهن بشأن هذه المناورة المحتملة أن تلجأ الشركات لخطوات عملية على طريق حصار المحتوى المتجاوز، أو ضبط أوضاع المستخدمين. في وقت سابق قالت فيس بوك إنها حذفت أكثر من مليار حساب وهمي من جملة 2.2 مليار مستخدم، وقالت إدارة تويتر في أبريل الماضي إنها حذفت 70 مليون حساب وهمي، بحسب بيانين للشركتين. وفي بيان صادر أمس الأربعاء قالت المفوضية الرقمية الأوروبية إن جوجل و"فيس بوك" وشركات أخرى غيرهما اتفقت على إجراءات عملية لمحاصرة الأخبار المزيّفة سعيا لتجنّب تأثيرها السيئ على الاستحقاقات الانتخابات، مشيرة إلى أن هذا التحرك يستهدف قطع الطريق على التعامل مع الأمر بتشريع أكثر قسوة وضغطا لهذه الشركات.
مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل
مسؤولو الاتحاد الأوروبي الذين يستعدون لانتخابات برلمان القارة في مايو 2019 يستعدون منذ الآن لحصار ظاهرة التدخل في الانتخابات، وتجنّب تكرار المشهد الذي عاشته الولايات المتحدة في انتخاباتها الرئاسية، أو ما يقال عن توجيه استفتاء البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، لهذا تعمل المفوضية الأوروبية على إحباط أي تدخل مُحتمل في الانتخابات المقبلة، عبر اتخاذ إجراءات جادة حيال ثغرات شركات التكنولوجيا وما تشهده من انفلات. وبحسب بيان للمفوضة الأوروبية ماريا جابرييل، فقد استجابت جوجل وتويتر وفيس بوك و"موزيلا" وعدد من المعلنين بإجراءات عديدة، تشمل تمييز الإعلان من المحتوى التحريري، وتعزيز نشاط المدققين ومراقبي المحتوى لتصفية الأخبار المزيفة، ومساعدة المستخدمين على فهم آليات توجيه الإعلانات وخريطة الاستهداف، والتدقيق بشكل أكبر في المحتوى الإعلاني، خاصة من الصفحات المتورطة في نشر أخبار مُزيّفة أو غير مُدقّقة.
ماريا جابرييل المفوضة الأوروبية
شروخ في جدران العمالقة
الانطلاقة المبكرة لعدد من الشركات ساعدت على تكوين إمبراطوريات تكنولوجية ومالية ضخمة. والآن بات استمرار هذه الإمبراطوريات مرهونا باستقرار هياكلها التنفيذية وعوائدها المالية، بينما تتابع الضربات والاهتزازات بشكل يخلق فجوات ويتسبب في شروخ واضحة ومؤثرة في أبدان هذه الشركات وجدرانها العملاقة.
في الوقت الراهن يحصد "فيس بوك" قرابة 8 مليارات مشاهدة لمقاطعه المصورة يوميا، بحسب تقارير ومؤشرات صادرة عن الموقع، ما دفعه لتوظيف هذا الرواج في تعظيم العوائد المالية بوضع فواصل دعائية غير قابلة للتخطي، رغم احتمالات أن يؤثر هذا السلوك على تعاطي المستخدمين مع المحتوى، ومخاوف نزوحهم من الموقع. بجانب هذه المغامرة يواجه "فيس بوك" مشكلة مع العاملين الذين يرون أنهم لا يحصلون على حقوقهم، فبحسب تقرير لموقع gadgetsnow الهندي، حرّكت موظفة سابقة تُدعى سيلينا سكولا دعوى أمام المحكمة العليا في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، تتهم إدارة الشركة بأنها لا تحمي العاملين لديها، بينما يواجهون صدمات نفسية بعد مراجعة الصور المؤلمة والمحتوى السيئ عبر المنصة.
بريان أكتون مؤسس تطبيق واتساب
الكونجرس الأمريكي
ساندر بيتشاي الرئيس التنفيذي لشركة جوجل
تدفق هادر ووعي مُتَبدِّل
21 ألف خبر كاذب راج في مصر خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، حسبما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته بحفل تخريج إحدى دفعات الكليات العسكرية قبل أسابيع، بمتوسط 7 آلاف خبر كاذب أو غير دقيق شهريًّا، وأكثر من 230 خبرًا يوميًّا، وما يقارب 10 أخبار كاذبة في الساعة الواحدة. الأمر نفسه يحدث في باقي دول العالم بدرجات متفاوتة وأرقام متباينة. يمكن القول إن أطنانًا من المحتوى المُختَلَق أو غير المُدقَّق تتدفق بين ملايين المستخدمين، دون مرور على مُرشِّحات أو "فلاتر"، ودون معايير فنية أو معرفية، والأهم أن قناة الاتصال التي تمر منها هذه المواد تظل مفتوحة، لتعبر من مستخدم لآخر مُحمَّلة بتصوراته وإضافاته وهواجسه، ليُعاد إنتاج المادة نفسها في متوالية لا نهائية، ويُعاد إنتاج الوعي بها أيضا بالطريقة نفسها.
النمو الكبير في حجم منصَّات التواصل الاجتماعي، وإتاحة الأدوات التقنية، وتعزيز قدرة المستخدمين على الوصول لهذه المنصّات، لم يرافقه نموٌّ موازٍ للمنصات الإخبارية التقليدية والرقمية، ومع تحوّل اهتمامات الأفراد باتجاه الاندماج في السياق الاتصالي الجديد، أصبحت حصّة كبيرة منهم مُنتجي محتوى ومنصّات إرسال مباشرة - بفضل امتلاك البنية والأدوات الاتصالية التي تمنح كل فرد منصّة شخصية قابلة للوصول لقطاعات أوسع - ونتيجة غياب المعرفة العلمية والعملية بآليات جمع الأخبار وتدقيقها ومعالجتها وفق محدّدات فنية وموضوعية منضبطة، كان طبيعيًّا أن يتورَّط كثيرون من منتجي المحتوى أو وكلائه الجدد في ترويج معلومات وأحداثٍ غير صحيحة، أو غير دقيقة، تُصبح مع اتّساع نطاق تداولها أخبارًا كاذبة أو مُحرَّفة (شائعات)، أو تُصبح هذه المنصَّات الصغيرة الناشئة قنوات توصيل تُوظِّفها ماكينات إنتاج محتوى أخرى، باستغلالٍ محسوب لآليات الحشد والتعبئة، وتوجيه مُستنِدٍ إلى سيكولوجية الجمهور المُؤسَّسة على تفضيلاتٍ أو عاداتٍ أو أفكارٍ وانحيازاتٍ أيديولوجية وسياسية واجتماعية، يسهل جمعُها أو مراقبتُها من خلال منصَّات "السوشيال ميديا" نفسها.
حروب غير نمطيّة ونزيف اقتصادي
لا تتوفَّر تقديراتٌ نهائية مُدقَّقة حول حجم الأخبار الكاذبة حول العالم، أو خسائرها الاقتصادية، لكن بعض الدراسات تُشير إلى أن إجمالي الكُلفة الاقتصادية والمالية لهذا النوع من المحتوى الرائج قد تتجاوز تريليون دولار سنويًّا، تغطي أغلب دول العالم، بضخّ يُقدَّر بعشرات الآلاف من المعلومات والأخبار، ونسبة تأثير في الرأي العام تتراوح بين 30 و60%، بحسب استطلاعات رأي عدّة، جرت في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ومصر والإمارات والمملكة العربية السعودية وعدد آخر من الدول.
يُنظر للأخبار الكاذبة أو المُحرّفة باعتبارها واحدةً من أدوات الحروب غير النمطيّة. بدأت هذه النظرة من مقال للكاتب الأمريكي أندرو مارك في العام 1975، انطلق فيه من هزيمة الولايات المتحدة، الأغنى والأقوى عسكريًّا واقتصاديًّا، في مواجهتها مع فيتنام، البلد الفقير محدود الموارد، وخَلُص الكاتب في مقاله إلى أن كثيرًا من الحروب قد لا تحسمها موازين القوى التقليدية، وربما تتوقف نتائجها النهائية على حجم القدرة على تكبّد مزيد من الخسائر، والعمل خارج ساحات الحرب، واختراق الجبهة الداخلية للخصم، عبر توظيف أطرافٍ ناعمة من الداخل أو الخارج، بتقنيات إعلامية ونفسية، لتشتيت الانتباه، وتفكيك قنوات الاتصال الداخلية، وإرباك قدرة المجتمع على التعاطي البيني، وحصار المؤسَّسات الرسمية ومنصّات الإعلام، بشكل يُحوّل الجبهة الداخلية إلى جُزرٍ مُنعزلة، ويُشعل صراعات ومناوشات طرفيّة صغيرة، تُعزّز سوء الفهم، وتُغذّي الشكوك في قنوات المعلومات الرسمية، بشكل يخلق معادلة طرديّة تواصل تنمية نفسها ذاتيًّا.
الأخبار الكاذبة، أو الشائعات، تُعرَّف بحسب كتاب Psychology of Rumor (سيكولوجية الشائعة/ عدد من المؤلفين) بأنها "رسالة سريعة الانتقال، قد تكون خبرًا أو مجموعة من الأخبار الزائفة، تتعمّد المبالغة أو التهويل أو التشويه أو التلوين، وعادة ما تكون شيّقة ومُثيرة وتفتقر لمصدرٍ موثوقٍ، بهدف إحداثُ فوضى أو بلبلة، والتأثير في الرأي العام والروح المعنوية للمتلقّين، مُستغِلّةً نَهَم الجمهور وسعيَه الدائم للمعرفة والإلمام بالأوضاع المحيطة"، وبحسب الكتاب أيضا فإن مُعدَّل رَواج الأخبار الكاذبة يتناسب طرديًّا مع البيئة الاتصالية العامة، ويوازي أهمية الموضوع الذي يتناوله الخبر مضروبًا في حجم الغموض والقصور المعلوماتي المحيط به، فكلما كان الموضوع مهمًّا ويتصل بتطلعات الجمهور للمعرفة ولا تتوفّر بشأنه معلومات واضحة، كانت الشائعة أكثر رواجًا، والعكس صحيح. ووفق التعريف والصورة السابقة يمكن القول إن تلك الصيغة من المحتوى لا يمكن أن تصمد حال إخضاعها للمعايير الموضوعية لجمع وتصنيف وتقييم ومعالجة الأخبار، ومن ثمّ فإن أي ازدهار لماكينة الأخبار الكاذبة أو غير المُدقّقة، وأي رواج واسعٍ لها، يُعنيان بالضرورة أن قدرًا من القصور يهيمن على المناخ الإعلامي، وربما على المنظومة القانونية والتنفيذية، وأن الأمر يتطلّب نظرة مغايرة بشكل شامل، تأتي في القلب منها النظرةُ الإعلامية، وآلية التعاطي مع المحتوى الإخباري، ومُحدِّدات جمعه وتقييمه وتسويقه.
ملف شائك وتحرّكات عالمية
لا يُمكن القول إن فكرة رواج الأخبار الكاذبة وغير الدقيقة، أو الشائعات، فكرة مُستحدَثة بشكل كامل، ربما يرتبط الأمر بالسيكولوجية البشرية الساعية للمعرفة بشكل دائم، والمتطلِّعة لأن تكون مصدرًا للمعلومة وشريكًا فيها، ما يُمكن وصفه بـ"شهوة قيادة الرأي" كأمر مرتبط بالطموح الدائم لدى الأشخاص لأن يكونوا فاعلين اجتماعيًّا، وذوي تأثير مباشر على محيطهم، لكن يمكن القول إن الأمر تطوّر في السنوات الأخيرة - مع تنامي آليات الاتصال وإتاحتها على نطاقات واسعة وبكُلفة يسيرة - ورغم أن الشواهد العملية تؤكّد أن منصّات التواصل الاجتماعي كانت قوة الدفع الأكبر في رواج المحتوى المكذوب أو المُصطَنَع، فإن هذه المنصًّات نفسها اتّخذت مواقف عملية أخيرة باتجاه حصار هذه الظاهرة، رآها البعض محاولة للهروب من المسؤولية القانونية والأدبية عن دعم ماكينات الشائعات والحروب النفسية، وتعامل معها آخرون بجدّيةٍ واستحسان، لكن إذا تجاوزنا البحث عن عِلّتها المباشرة، فإنها تظلّ إشارة قوية إلى أن أزمةً كبيرةً يتسبَّب فيها المحتوى غير الحقيقي، وأنها باتت ذات طابع عالمي، والجميع يستشعرون مخاطرها ويسعون لمواجهتها.
في مطلع العام الجاري، أعلن "فيس بوك" عن اتخاذ خطوات جادّة باتجاه حصار المحتوى المُضلِّل، بدأها بتقليص نسبة ظهور المحتوى الإخباري في صفحة آخر التحديثات إلى 4%، مقابل 5% سابقا، ثم أعلن لاحقا عن الاستعداد لإطلاق آلية للتحقق من المحتوى والصور والفيديوهات، الأمر الذي شكّك فيه رجل الأعمال روجر مكنامي في تصريحات لقناة "سي. بي. إن. بي. سي" قائلا إن "فيس بوك" تتصرَّف بشكل سيّئ وإنه يشعر بالرعب، لتتهاوى أسهم عملاق التواصل الاجتماعي 1.6% وتخسر الشركة 1.2 مليار دولار، وفي مارس أعلن مؤسس الموقع ومديره التنفيذي مارك زوكربيرج أن شركته بدأت عملية "تقصّي حقائق" فيما يخص محتوى الفيديو والصور، سعيًا إلى حصار الأخبار المُلفّقة والحدّ منها، وهو ما قالت عنه تيسا ليونز، إحدى مسؤولات الصف الأول في "فيس بوك"، إنه بدأ فعليًّا الأربعاء 28 مارس 2018 في فرنسا، بمساعدة وكالة الأنباء الفرنسية، تمهيدًا لتوسيع الشراكة مع دول ووكالات أخرى، وامتدّ الأمر لاحقًا ليشمل خدمة Snopes، وصحيفة واشنطن بوست، وتقنية PolitiFact، ثمّ أعلن الموقع في يونيو الماضي طرح برنامجه للتحقُّق من الأخبار في 14 دولة، واستخدام آلية للتعلّم الآلي بغرض تحديد الصفحات الأجنبية التي قد تُروِّج أخبارًا وهميّة في بلدان أخرى، لكنَّ مسؤوليه لم يُحدِّدوا معايير تقييم الأخبار، أو الضوابط التي ستعمل من خلالها هذه الآليات لتحديد ما إذا كان المحتوى حقيقيًّا أم مُضلِّلاً.
الانتخابات الرئاسية الأمريكية
خطوة "فيس بوك" المتهم بتسريب بيانات 50 مليون مستخدم لشركة كامبريدج أنالتكيا، وتسهيل عمليات حشد وتوجيه للرأي العام الأمريكي، تقول تقارير وتحقيقات قضائية إن جهات روسية وقفت خلفها للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لم تكن الخطوة الوحيدة في هذا الإطار، فبالتزامن أعلنت "جوجل"، عملاق محركات البحث، تخصيص 300 مليون دولار في إطار خطة تمتدّ ثلاث سنوات، لمكافحة الأخبار الكاذبة والحدّ من انتشارها، مشيرة إلى أنها ستعمل على تطوير برمجياتها (الخوارزميات) للتعرف على الأخبار المثيرة للجدل، وستعمل مع مجموعة First Draft لإطلاق "Disinfo Lab" لمكافحة الأخبار المزيفة أثناء الانتخابات والأحداث العاجلة، والتعاون مع معهد بوينتر، ومع جامعة ستانفورد، ورابطة الإعلام، لإطلاق برنامج MediaWise لتحسين معرفة القراء بالوسائط الرقمية وتقييم الأخبار، وأعلنت لاحقًا أيضًا عن أداة اسمها Outline، بمثابة أداة مفتوحة المصدر من ذراعها التكنولوجية Jigsaw لمساعدة منصّات إنتاج المحتوى الإخباري على تدشين شبكات VPN لمحرّريها، وضمان وصولهم للإنترنت بشكل أكثر أمانًا وكفاءة.
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي
على صعيد الحكومات، قالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إن الأخبار المزيّفة تشكل خطرا على الإعلام والمجتمع، مشيرة إلى تأسيس وحدة تابعة للحكومة للسيطرة على الأخبار الكاذبة وردع من يروّجونها أو يسعون لاستغلالها. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن اعتزامه إصدار قانون لمكافحة الأخبار الكاذبة قبل نهاية العام الجاري، يتضمن آليات للرقابة والمتابعة، وحزمة عقوبات شاملة، وتعزيز قدرات المجلس الأعلى البصري السمعي الفرنسي، ومؤسسة البثّ العامة، في مواجهة وسائل الإعلام الموجهة من دول أجنبية. وفي ماليزيا أقر البرلمان قانونا لمواجهة الأخبار الكاذبة، يتضمن السجن ستّ سنوات لمن يختلقون هذه الأخبار أو يروّجونها، بجانب غرامات تصل إلى 500 ألف رنجيت (123 ألف دولار).
القانون في مواجهة الطوفان
في مصر، انتهى مجلس النواب مؤخّرًا من مناقشة وإقرار قانون مكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات، الذي يتضمّن توصيفًا شاملاً لأعمال اختلاق وترويج الأخبار والصور وتلفيق المحتوى بغرض إشاعة الفوضى والبلبلة، وينصّ على حِزمة عقوبات رادعة لمواجهة هذه الممارسات. لكن تظلّ المشكلة في مدى القدرة العملية على ضبط اختلالات سوق إنتاج وتداول المحتوى الإخباري، وحدود فاعلية أدوات الرصد والرقابة في تتبّع منصّات الاتصال وتبادل المعلومات، في ظلّ التنامي الواسع لشبكات الاتصال ومواقع "الشوشيال ميديا"، والأهم في الأمر هو صعوبة كَبح جِماح الشهوة المُتنامية لدى المستخدمين للمشاركة المباشرة في إنتاج وتداول الأخبار والمعلومات، وأيضا صعوبة تعزيز قدراتهم جميعًا على فرز المحتوى وتقييمه وفق مُحدِّدات موضوعيّة.
يظلّ الحلّ الأفضل والأكثر واقعية وعملية في التعامل مع الملف محصورًا في اتخاذ خطوات جادة باتجاه تحسين كفاءة إنتاج المحتوى الإخباري، وتعظيم نطاق ونوعية تداوله عبر المنصّات المؤهّلة مهنيًّا، وتطوير شبكة فعّالة للتواصل عبر المنصّات المختلفة، وتوفير صيغة لفرز وتقييم المحتوى المُتدَاول، بشكل يتضمّن تفنيد الأكاذيب التي يشتمل عليها هذا المحتوى، بجانب إتاحة قدر أكبر من المعلومات المدقّقة والحقيقية، وأكثر قدرة على الوصول للمتلقِّي النهائي ودوائر اهتمامه وتفاعله.. وبمعنىً أكثر وضوحًا: إذا كُنتَ عاجزًا عن إيقاف النَّهَم المُتصاعد لدى المُتلقِّين للمعرفة وتداول المعلومات والأخبار، والمشاركة في إنتاجها وتسويقها، فعليك أن تقتحم دوائرهم بشكل مباشر، وتشتبك عمليًّا مع ما يتداولونه من معلومات وأخبار، وفق أُطر منهجية وموضوعية دقيقة، تُراعي مُحدِّدات الصنعة الإخبارية، وإمكانات وطفرات تقنيات الاتصال.
في الشقّ العملي يحتاج الأمر قدرًا من الضبط العاقل من جانب منصات التواصل الاجتماعي. لكن المشكلة أن رؤية المؤسسات المالكة لهذه المنصات تبدو مرتبكة في تصوّرها عن نفسها، وبالتبعية عن مستخدميها والمتعاطين معها. حتى الآن يتنقّل "فيس بوك" نموذجًا في توصيفه لنفسه بين المنصّة الإخبارية، والمنصة التقنية الاتصالية. في الوجه الأول تترتب على الموقع مسؤولية قانونية ومعنوية مباشرة عن المحتوى الرائج من خلاله، لكن في الوجه الثاني يبدو بريئًا ومتحلّلاً من المسؤولية باعتباره مسؤولا عن الدعم الفني وأمن المستخدمين، لا عن رسائلهم وأخبارهم. وإلى الآن لم تستقر الشركة على توصيف واحد، ولم يُرتّب القانون مسؤوليات واضحة عليها بناء على هذا التوصيف. والأمر نفسه مع الشبكات الأخرى، وفي كل أنحاء العالم.
فيس بوك
وفق هذه التركيبة التي يسيطر عليها الارتباك في المركز. وانفلات الأوضاع القانونية والعملية في بلدان المنشأ التي تنطلق منها هذه الشبكات، يصعب الرهان على نجاعة القانون في الأطراف المتأثرة بهذه الحالة. لا يمكن أن يتوفر للتشريعات المحلية سلطة حازمة في التعاطي مع المنصات الاتصالية الجديدة بطريقة فعالة، كما لا يُمكن أن يُحقق القانون أثرًا حاسمًا مع المستخدمين المحليين في ظل اتساع حدود هذه المنصات وسماحها بالتخفّي، وتجاهلها للثغرات الفنية التي توفّر متّسعًا لإطلاق وإدارة ملايين الحسابات الوهمية. يبدو الأمر فوضويًّا للغاية ما لم تتحرك بلدان المنشأ، أو تتكاتف الدول مع المؤسسات الأممية لوضع أطر منظومة تشريعية أممية تحقق الضبط الشامل، وتضمن الردع العام، وتتعامل بالجدية نفسها مع المستخدم ومُقدّم الخدمة.
ملايين الصحفيين و"زيرو" صحافة
لا يستطيع الإعلام التقليدي حتى الآن مجاراة "السوشيال ميديا". بما يتوفر لها من فتح قناة تبادُليّة تُنتج اتصالاً تفاعليًّا، وتتغذّى على كثافة التدفقات المعلوماتية وتُغذّيها في الوقت نفسه، في دائرة مغلقة تُحقِّق الاتصال الديناميكي ثنائي القطب، بل ومتعدّد الأقطاب في الآن ذاته، وتضمن التأثير المُباشر في المتلقِّين وتأثرهم أيضًا، والاشتباك العضوي مع قواعد عريضة من المستخدمين.
السوشيال ميديا
وسط هذا المناخ من تراجع الإعلام التقليدي لصالح منصّات الإعلام الاجتماعي، تتغيّر خريطة إنتاج وتداول المحتوى الإخباري، من صيغة قديمة تضمن آليّة مركزية أو شِبه مركزية لصناعة وتوجيه المحتوى، إلى صيغة عصرية مُنفتحة ومتعدِّدة الأقطاب، بقدر انفتاح وتعدُّدية تقنيات الاتصال الجديدة، بشكل يضمن لكل مُستخدِمٍ لمواقع التواصل ومُتَلقٍّ للمعلومة والخبر، أن يكون منصَّةَ إعلامٍ وجهةَ إنتاج محتوى في الوقت نفسه. لا يبدو أن هذه الصيغة قابلة للضبط أو الترشيد أو المصادرة، بقدر صعوبة حصار التدفُّقات المعلوماتية وقنوات الاتصال المتنامية.
خريطة جديدة لمنصات التكنولوجيا
كيفن سيستروم مؤسس تطبيق انستجرام
كان جون كوم، المدير التنفيذي السابق لـ"واتساب" منزعجًا في الفترة الأخيرة قبل استقالته من ضغوط مارك زوكربيرج، وشيريل ساندبريج، مديرة التشغيل في "فيس بوك"، الساعية لتحويله إلى منصة ربحية عبر تغيير Business Model التطبيق، سواء بوضع إعلانات داخلية أو خلق شكل مبتكر، حسبما نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية. إضافة إلى سعي "مارك" لاستخدام معلومات مستخدمي واتساب في توجيه الإعلانات عبر "فيس بوك". أما شريكه بريان أكتون فقد شارك في حملة Deletefacebook خلال مارس الماضي، على خلفية فضيحة تسريب الموقع بيانات 87 مليون مستخدم لشركة جوجل أنالتيكا.
جون كوم المؤسس المشارك لتطبيق واتساب
الدراسات والمسوح الحديثة تشير إلى تعقد موقف شبكات التواصل العملاقة. فبحسب مسح أجراه مركز "بيو" للأبحاث Pew Research Center تراجعت أعداد مستخدمي "فيس بوك" بشكل ملحوظ في السنوات الثلاثة الأخيرة. مقابل تقدم يوتيوب وانستجرام وسناب شات، ونقلت صحيفة "جارديان" الريطانية عن نتائج الدراسة أن 51% من الأمريكيين بين 13 و17 عاما يستخدمون "فيس بوك" مقابل 71% في 2015. بينما سجل انستجرام 72% مقابل 52% من قبل، وسناب شات 69% مقابل 41%، وتويتر 85% مقابل أقل من 11% في 2015.
استفتاء البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي بريكست
في تقرير حديث توقعت شركة eMarketer لأبحاث السوق أن يتجه مزيد من المراهقين لـ"سناب شات" على حساب فيس بوك. بنمو 350 ألف مستخدم في بريطانيا بالعام 2018، بينما يتراجع مستخدمو "فيس بوك" بين 18 و24 سنة للعام الثاني على التوالي بخسارة 500 ألف مستخدم في العامين. وأشارت الشركة إلى نمو مستخدمي انستجرام المراهقين في المملكة بنسبة 9.6%. مبرّرة الأمر بأنه نزوح للمواقع والتطبيقات التي تملك عوامل جذب أكبر للمراحل العمرية المبكرة. ما يُعني أن مسار التراجع سيظل في اتجاه طردي، وأنه في الغالب سيطال حتى "سناب شات" وانستجرام التي تمثّل البديل الجذاب لـ"فيس بوك" حاليا، مع تراجع جاذبيتها، أو انطلاق تطبيقات أخرى أكثر جاذبية منها.
التحولات المتشابكة التي تفصح عنها المسوح والدراسات البحثية، تشير إلى اتجاهٍ متنامٍ لدى المستخدمين الجُدد للنزوح من المنصات التقليدية، سواء فيس بوك أو تويتر، باتجاه مواقع وتطبيقات أكثر جاذبية حاليًا. ومع تراجع جاذبية هذه المنصات، أو مواجهتها منافسين أكثر جاذبية، فإن النزوح قد يتكرر ثانية، وبوتيرة أسرع. وفي العُمق من هذه التحولات فإن اتجاهات المستخدمين قد تُمثّل حافزا للمطوّرين وشركات التقنية لابتكار تطبيقات ووسائل اتصال أكثر جاذبية، استغلالا للنهم المتزايد لدى الأجيال الجديدة، واستثمارا للفرص الاقتصادية والتنافسية في هذا القطاع. وباختصار يمكن القول إننا بصدد إعادة صياغة لخريطة شركات التكنولوجيا وتطبيقاتها، وأن خريطة جديدة للتواصل الاجتماعي تتشكل ببطء في خلفية المشهد.
استفتاء البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي بريكست
اقتصاديات مهتزة.. خروقات متزايدة
تحول المستخدمين من "فيس بوك" إلى شبكات وتطبيقات أخرى يحمل إشارات مزعجة لمارك زوكربيرج وفريقه بالطبع، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى تغيرات كبيرة في اقتصاديات قطاع التكنولوجيا. الأمر يُعني تراجع عوائد "فيس بوك" وتقلّص قدرة الشركة على تطوير أعمالها وتعزيز خدماتها الفنية واللوجستية ونشاط رقابة المحتوى، وبمعنى آخر قد يتسبب هذا الأمر في تزايد الخروقات والممارسات المنفلتة. بجانب هذا فإن التحول باتجاه "يوتيوب" نموذجا يُعني الاقتراب بدرجة أكبر من تسيّد محتوى الفيديو على حساب التواصل بالكلمة والصورة، وهذا الأمر سيقود بالضرورة لتغيّر خريطة الإعلان والمحتويات الدعائية باتجاه الصورة المتحركة، بالشكل الذي يُعزز عوائد شركات الإنتاج البصري ويُعزز مكانة المجموعات الاقتصادية الكبرى على حساب الشركات الصغيرة ومحدودة الموارد.
في الربع الأخير من العام الماضي حقق "فيس بوك" عوائد إعلانية قيمتها 13 مليار دولار، في وقت تراجعت فيه ساعات بقاء المستخدمين عبر الموقع بواقع 50 مليون ساعة. ومع استمرار التراجع بهذا المعدّل فإن المنصة الأوسع انتشارا تسير باتجاه فقد حصة كبيرة من مزاياها النسبية والتنافسية لصالح منافسين آخرين، بما يستتبعه هذا من إزاحة حصة كبيرة من العوائد المالية لحسابات المنافسين، ومع تنامي موارد التطبيقات الصغيرة واللاعبين الجدد ستبدأ موجة تطوير في هذه المنصات، وربما تقع أعين مستثمرين ولاعبين آخرين على هذه الملايين الحائرة والمتبدلة بين الشركات. في النهاية ستتطور قدرات وإمكانات منصات صغيرة، وستتراجع مراكز وحصص منصّات عملاقة، وبين التحوّلين سيجد اللاعبون السياسيون وناشطو الحسابات الوهمية ومروجو الأخبار المزيفة مُتنّفسًا لابتكار ثغرات جديدة ومساحات وجود أوسع، وستتقلّص قدرات وإمكانات الحصار والسيطرة على هذا الانفلات.
شركة آبل
في الوقت الذي سيتراجع فيه فيس بوك وأصدقاؤه من المنصات الكبرى اقتصاديا وماليا، سيتراجع الاهتمام داخل هذه الشبكات بكبح جماح المحتوى المنفلت. بينما لن تستطيع التطبيقات الصغيرة التي سترث ملايين المستخدمين بشكل مفاجئ وضع أُطر عمل منضبطة دفعة واحدة. في الفترات الأولى ستُعاني اختلالات بنيوية وفنية تُساعد على تنامي مساحة الاختراق وتوسّع المحتوى المشبوه، ومع امتلاكها القدرة الفنية والمالية قد يكون من الصعب العودة للوراء بشكل كامل، كما هو الحال الآن في فيس بوك وتويتر، حتى ولو بحذف ملايين الحسابات.
باختصار يُمكن القول إن كل اهتزاز اقتصادي يصيب بناء من الأبنية في سوق التكنولوجيا، سينعكس بالضرورة في صورة مزيد من الانفلات والتنامي للمحتوى المُزيّف والمتجاوز للأطر الاجتماعية والقانونية. وسيتبعه بالضرورة نموّ لبديل جديد من التطبيقات الصغيرة القائمة، أو اللاعبين الجدد الساعين لاقتناص الحصص المتساقطة من الأجساد العملاقة، وسيعجز هؤلاء اللاعبون المتضخّمون بشكل مفاجئ عن كبح جماح الانفلات، ليسقطوا في الدورة المغلقة التي سقط فيها سابقوهم. لا يمكن بأية حال من الأحوال توقّع أن يمتلك العالم فضاء تكنولوجيًّا مُهذّبًا ومنضبطًا بصورة كاملة، ستظل هناك ثغرات في الجدار الخلفي، وستظل محاولات سدّ هذه الثغرات قائمة، بينما ستتكفل أطماع اللاعبين أنفسهم بإعادة ترتيب الملعب وخريطة المنافسة بين وقت وآخر.