أوهام مؤامرة النظام على «يسري فودة»!
الأربعاء، 12 سبتمبر 2018 06:14 م
لماذا يخشى النظام المصري الإعلامي الدولي يسري فودة؟ ولماذا يسعى دوما للانتقام منه وتشويه صورته؟ وهل صحيح أن هناك أسرارًا يعلمها فودة وتخشى أجهزة الدولة المصرية البوح بها، لذلك تسبقه بإثارة الشائعات حوله، واستئجار بعض زميلاته لتتهمنه «زورًا وبهتانًا» بالتحرش بهن، والتشكيك في ذمة المالية؟
تلك بعض الاستفهامات التي اثارها محبي وأتباع ودراويش وبعض المخدوعين في «قديس الإعلام» يسري فودة، متهمين أجهزة الدولة المصرية بتدبير مؤامرة كونية للتخلص منه، وتصفيته معنويًا، إلى غير ذلك من الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة، خاصة وأن فودة- «بشحمه ولحمه»- كان يريد أن يكون جزءًا من هذا النظام، وأن يكون ترسًا في آلته، تمامًا كما كان يريد «حازم عبد العظيم» وغيره من المشتاقين.. لكن لا أحد يختار النظام الذي يعمل معه.. الأنظمة- كل الأنظمة- تختار رجالها.
أتفهم أن الأغبياء من الممكن أن يتآمروا على الأذكياء، والضعفاء على الأقوياء، والفاشلين على الناجحين، والكسالى على المجتهدين النشطين، وعديمي الموهبة وأنصافها على الموهوبين، ومَنْ هم أدنى على مَنْ هم أعلى.. لكن بأي منطق تريد أن تقنعني أن أجهزة الدولة تتآمر على شخص فقد الكثير من بريقه وتأثيره، وانكشف زيفه، وانضربت مصداقيته في مقتل، وانصرف عنه الكثير من متابعيه ودراويشه؟
هل يسري فودة هو الشخص القوي المؤثر الذي يصدح بالحق ويخشاه النظام؟ لا. هل لدى يسري المقدرة على حشد الجماهير وتحريك الشارع المصري ضد النظام؟ بالطبع لا.. هل استطاع فودة التشكيك في كل إنجازات الرئيس السيسي، خاصة المتعلقة بالصحة والطرق والحماية الاجتماعية وسد النهضة..؟ قطعًا لا.. إذًا، كيف تريدني أن أصدق أن أجهزة الدولة تركت كل قضاياها المصيرية، وتفرغت للتآمر على الصحفي والإعلامي يسري فوده؟
في الوقائع التي اتهم فيها يسري بالتحرش والفساد المالي، أكاد أجزم أن النظام المصري بريء من صنعها وتلفيقها لفودة، لأنه لو كان يريد الانتقام منه لكان باستطاعته أن يفعل عندما كان يسري في قمة أوجه، وهو يهاجم مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة بكل ضراوة وشراسة، بعيدًا عن المهنية التي يتشدق بها فودة، وكانت سببًا مباشرًا في انفضاض كثير من متابعيه من حوله، بعد أن فقد المصداقية والشفافية التي كان يحاول تصديرها إلى جمهوره ومتابعيه!
تعالوا نربط الأحداث ببعضها.. يوم الجمعة، الثالث من أغسطس الماضي، أعلن فودة- عبر صفحته الشخصية بموقع فيسبوك- توقفه عن تقديم برنامجه «السلطة الخامسة» على قناة دويتشه فيله DW الألمانية، بعد عامين كاملين من تقديمه «وسط تحديات كبرى من كل نوع»، مرجعًا سبب توقفه إلى أن «الإرهاق بلغ مني مدى يدعوني إلى أن أستأذنكم في استراحة؛ أعيد فيها ترتيب الذهن والنفس والبدن».. ومن جانبها، نشرت دويتشه فيله، تغريدة أعربت فيها عن احترامها لقرار يسري بالتوقف، وأعلنت عن عودة البرنامج بعد استراحة قصيرة!
إلى هنا والأمور طيبة.. لكن وسائل إعلامية عدة تناولت- خلال اليومين الماضيين- تقارير عن «شهادات لفتيات تحرش بهن يسري فودة»، مؤكدة أن بعض الفتيات اللائي عملن مع فودة ببرنامجه، أو تعرفن عليهن بطرق مختلفة «تحرش بهن تلميحًا، وهمسًا، ولمسًا»، وأن «دويتشه فيله» أنهت علاقتها به بعد هذه الفضيحة، واكتشافها فساد فودة المالي، وتربحه غير المشروع من مؤسسة «أريج» للتحقيقات الاستقصائية!
نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي تلقفوا الشهادات التي تتهم يسري فودة بالفساد المالي، لكن الحفاوة بها لم يكن بنفس الاحتفاء بشهادات «التحرش الجنسي»، التي انقسم الناس حيالها ما بين معارضين بقوة، ومتهمين النظام المصري بتدبيرها لتشويه إلههم فودة، ومؤيد بقوة؛ انتقامًا من يسري وكرهًا فيه.. والحرب بين الطرفين لم تهدأ بعد، فكل طرف يريد أن يثبت أنه الأصدق.
في وقائع تحرش «المناضل الثوري» يسري فودة بعدد من زميلاته، رأينا وسمعنا العجب العجاب؛ كلمات جوفاء؛ تبريرات واهية؛ دفاعات مستميتة من بنات ونساء عن شخص المفترض أنه «ذكر» وتحرش بواحدة من بنات جنسهن.. وكأن يسري «نبي» أو «ملاك» أو «نصف إله»، وليس بشرًا، وهو مجرد «إنسان دعيف»، كما قال عبد الملك زرزور!
لست أسعى هنا إلى إدانة يسري فودة، أو أسعى لإثبات براءته، لكني أستنكر سياسة الكيل بمكيالين، وحالة الشيزوفرينيا التي بدا عليها كثير منا، الذين تعاملوا مع موقف مشابه، تعرض له أحد الزملاء، بميكافيلية شديدة، وبحقدٍ طافح، وحاولوا بشتى الطرق إثبات واقعة تحرش مشبوهة به، ونصبوا من أنفسهم قضاة وأدانوا الزميل قبل سماع أقواله، ونالوا من عرضه وسمعة أهله.. بينما وقف نفس هذا الفريق موقف الحكماء، أو مدعي الحكمة من «تحرش يسري فودة» وبعضهم اتهم «المتحرشات» بأنهن «مزقوقات» من الأمن، ويسعين للشهرة على حساب النيل من سمعة يسري.. والذين لم يتهموا البنات في شرفهن، قال لسان حالهم: «الله أعلم بالحقيقة»، ودعونا ننتظر نتائج التحقيقات.. «يا واد يا مؤمن»!
يبدو أن أخلاقنا تغيرت، إلى الأسوأ طبعا.. يبدو أننا- بالفعل- فقدنا بوصلة الحكم على الأشياء بمعايير ثابتة، وقوانين لا تقبل التقسيم بين شريف ووضيع، ورئيس ومرؤوس، وموهوب وعديم الموهبة، ومشهور وشخص عائش أسفل رصيف الحياة.
يقولون: «المساواة في التحرش عدل»، لكننا- للأسف- لا نعترف بالعدل إلا إذا انحاز إلى صفوفنا، وأتي إلينا بحقوقنا، أو انعم علينا ببعض الامتيازات.. رائع هو العدل عندما يقتص من معارضينا، ويضرب على يد خصومنا.. وشائن هو إن اقترب منا، أو من أحد من الذين يخصوننا.. إنما أهلك الذين قبلكم، إنهم كانوا إذا «تحرش» فيهم مَنْ يدعي «النضال والثورية» دافعوا عنه، وإذا «تحرش» فيهم «الدولجي» أقاموا عليه الحد!
باختصار.. نحن نجيد صناعة آلهة العجوة، ونتفنن أيضًا في اكلها حينما نرغب، أو حين نشعر بالجوع، أو حين تستيقظ ضمائرنا من سباتها العميق!