رسالة من فرنسا.. المستشار سامح عبد الله يطوف بنا بين أرجاء محكمة النقض الفرنسية (صور)
الأربعاء، 15 أغسطس 2018 06:00 م
يقول توفيق الحكيم فى وصف باريس: «إن باريس ليست الماضى فقط ولا الحاضر فقط، إنها الماضى والحاضر معا، إنها الماضى الجميل الذى يبقى والحاضر المتغير ليلائم التقدم».
أحياء قديمة برمتها كما عرفتها من قديم وتماثيل كانت شامخة وظلت شامخة، بل وبعض دور المسارح والسينما لم تزل باقية فى أماكنها تحمل أسماءها المعروفة من مائة عام أو مئات الأعوام..إن التقدم فى بلاد الحضارة ليس معناه الهدم والإزالة فى كل الأحوال بل أيضاً معناه الترميم والإضافة.
ثم يقول أيضاً: «وباريس عندى هى السير».
ومن هذه العبارة الأخيرة يسير بنا المستشار سامح عبدالله- الرئيس بمحكمة الإستئناف بأرجاء باريس، حيث يقول: «الحقيقة أننى كنت أفعل نفس الشىء حتى قبل أن أقرأها لتوفيق الحكيم فباريس عندى هى السير ولا شىء غيره إلا فى نطاق بسيط، منذ أن وطأت قدامى هذه العاصمة، وأنا أسبح بين أرجائها قاطعاً شوارعها باحثاً عن رحيق الماضى فى أزقتها القديمة وطالباً لحدثاتها وبريقها بين مدنيتها الحديثة».
اقرأ أيضا: فن المرافعة.. علاقة القاضي بالمحامي والاحترام الواجب بينهما
إنها الماضى والحاضر كما وصف الحكيم-بحسب «عبدالله» لـ«صوت الأمة»-: «بالفعل كان لى تجربة لن تغيب عن ذاكرتى ومخيلتى داخل صرح التاريخ العظيم، وأقصد به متحف اللوفر Musée du Louvre إنه أحد المكونات التى تحفظ أسرار الحضارة وفى زيارتى هذه حددت صرحاً كبيراً آخر ووضعته على قائمة وجهاتى ألا وهو صرح العدل Palais de Justice».
والحقيقة فأنا لست من هؤلاء الذين يجيدون السير مستهدين بخارطة رغم سهولة الأمر إلا أننى فى الحقيقة لم أتقنه، ولعلنى كنت أضمر فى نفسى رغبة عدم الإتقان هذه، فأنا أكرر دوما عبارة توفيق الحكيم " وباريس عندى هى السير»-وفقا لـ«عبدالله»-.
بالسير وحده تُدرك ما لا تدركه بالخرائط..
إن الخرائط ترشدك إلى الميادين والقلاع والشوارع الشهيرة والنُصب التذكارية لكنها لن ترشدك إلى الأزقة..شوارع الكتب القديمة أماكن الموسيقى الشعبية..لن ترشدك إلى مقاهى باريس المتناثرة على جانبى الطريق بين المقهى والمقهى وكما يقول الحكيم مقهى أخرى.
إن الخرائط لن ترشدك إلى البيوت القديمة والمحلات القديمة التى دُون عليها تاريخ تأسيسيها وكم تبلغ هى متعتى عندما أقرا هذه العبارة على محل "قديم أسس منذ ١٧٧٣" Fondée depuis 1773
يا لا روعة العبارة البسيطة..
إن الذاكرة هى عنوان حضارة الشعوب وكل شعب يتقدم بمقدار قوة ذاكرته.
إنهم يحفظون تاريخ تأسيس حتى المحلات الصغيرة لتكون شاهداً ومبرراً للبقاء والإستمرار!
نعود إلى قصر العدالة!..
كنت قد انتهيت لتوى من زيارة norte dame de Paris الشهيرة «كنيسة نوتوردام» وقد أخذتنى قداماى إلى محطة المترو Métropolitaine لقراءة الخارطة المثبتة هناك فى محاولة لإدراك مقصدى وإذا بى أرى سهماً يثير إلى Palise de justice وسرعان ما اتجهت ناحية السهم وكانت المفاجأة الكبرى التى أعفتنى من أن أدقق فى خارطة لم أعتد أن تقودنى وكأنها هدية من السماء أو هكذا ظننت.
اتجهت صوب المكان مسرعاً وإذا به صرح هائل دُون على لافتة كبير عند بوابته المهيبة عبارات كانت تتصدرها هاتين العبارتين Cour d'appel
la Cour de cassation.
اى محاكم الاستئناف .
ومحكمة النقض.
مبنى عظيم تتوجه الهيبة والوقار.
يتحتم عليك لكى تبلغ الباب الرئيسى له أن تجتاز حاجز أمنى لم يأخذ من الوقت سوى دقيقتين أو ثلاث.
على سبيل المداعبة قلت لضابط الأمن «أنا قاضى مصرى» فابتسم وقال أهلا وسهلاً تفضل.
اقرأ أيضا: للمبتدئين.. كيفية تعامل المحامي مع الموكل والشرطة والنيابة والقضاة
وضعت حقيبة يد بسيطة داخل الجهاز الإلكترونى واجتزت بوابة الأمن فى يسر وأصبحت الأن فى مواجهة المبنى العريق بكل هيبته وبكل جذوره الممتدة فى تاريخ العدالة بأكملها باعتبار أننى الأن أمام أعرق مدارس القضاء فى العالم وأعنى المدرسة اللاتينية التى يمثلها القضاء الفرنسى والقضاء المصرى وتقوم محكمة النقض فى النظامين على توحيد مبادئهما القانونية.
محصت المبنى جيداً قبل أن أأخذ فى صعود درجات السُلم العديدة التى تقودنى للداخل فذهلت لثلاث عبارات محفورة بقمة المبنى هى كالتالى:
LIBERTE..الحرية
EGALITE..المساواة
ERATERNITE..الإخاء
وقلت لفورى ..ما هذه العظمة!..
إن مبنى للعدالة تتصدره تلك الكلمات التى تحمل أسمى مبادئ الإنسانية لجدير بمسماه كصرح للعدل.
ما أعظم أن يكون ولوجك لصرح عدل عبر تلك المعانى: الحرية..المساواة..الإخاء!..
إنها كافية أن تلقى على قلبك الإطمئنان والسكينة والقبول والرضاء وهل القضاء غير تلك المعانى!..
صعدت درجات السُلم وكأن من صمم هذا المبنى أراد أن يهيئ نفوسنا لإستقبال الصالة العملاقة التى تستقبل كل من يبلغ هذه الدرجات.
على يسار باب الدخول مباشرة مكتب زجاجى على شكل شبة دائرة كُتب عليه ACCUEIL
أى استقبال أو ترحيب مثلما الحال فى بهو محكمة النقض المصرية.
اقرأ أيضا: لماذا يكسر القاضي سن قلمه عند النطق بحكم الإعدام؟
وها هو البهو المهيب!..
بمنتصفه نصب تذكارى عبارة عن سيدة غالباً ترمز للأمة الفرنسية وتحتظن رجل يرمز للقضاء( الواقف والجالس) يرتدى روب المحاماة ووشاح القاضى وقد دون فوق هذا النصب هذه العبارة
MAGISTRATS DU RESSRT DE LA COURE D APPLE
وهو ما يمكن ترجمتها «قضاة بارزون بمحكمة الإستئناف».
ثم حُفر تحت هذه العبارة أسماء العديد من القضاة.
على الجانب الأيمن من ذلك النصب وجدت تلك العبارة:
AVOCATS A LA COURE DE PARIS.
وهو ما يمكن ترجمته بعبارة محامون محكمة إستئناف باريس
ثم نقش تحتها أسماء محامين فرنسيين بارزين.
لُوحظ لى أن ما يرمز للقاضى والمحامى الذى تحتضنه فرنسا وهو ينحنى لها يضع خوذة المقاتل فوق رأسه.
والحقيقة ظلت مدة من الوقت حتى أستطيع أن أصل إلى المعنى!..
ما معنى أن يتجسد روب المحاماة ووشاح القاضى وخوذة المقاتل فى شخص واحد ؟!
لكن المعنى بعد ذلك اتضح عندما أبصرت أقصى الجانب الأيمن لهذا النصب فوقعت عينى على هذا التاريخ الذى يمثل جزءاً هاماً للغاية للقارة الأوربية بصفة عامة ومن دخل الحربيين العالميتين بصفة خاصة مثل فرنسا.
فوجدت أعلى أسماء المحاميين والقضاة
هاذين التاريخين: الأول هو 1914--1918
والثانى هو 1939--1945
ثم نُقشت هذه العبارة الخالدة:
LA JUSTICE ARME CEUX QUI VONT MOURIR POUR ELLE.
وهو ما يمكن ترجمته : «جيش العدالة الذين قُضوا من أجلها».
وهنا أخذتنى الدهشة بل تملكتنى فى الحقيقة فلم أن أتوقع أن بأرجاء محكمة يوجد مثل هذا التقدير لمن قدم حياته فى حربين ضروسين.
لقد شاهدت كثيراً بميادين هذه القارة ما يخلد ذكرى الذين حاربوا والذين قُضوا من أجل أن تحيا أوطانهم.
وفى ميدان الكونكورد وسط باريس لوحة مجسمة عظيمة تقول هؤلاء الجنود ماتوا من أجل أن نحيا.
لكن هذه هى المرة الأولى التى أرى تخليداً لذكرى هؤلاء داخل بهو واحدة من أعظم المحاكم على وجه الأرض .
بالطبع أن تخليد ذكرى هؤلاء يأخذ هنا طابع فريد استثنائي فهم رجال قانون..قضاة ومحاميبن يرتدون روب المحاماة ووشاح القاضى وخوذة المحارب تحتضنهم الأمة الفرنسية وهم جاثمين كناية عن تقديم أرواحهم فداءً لكى يحيا الوطن.
أى تقدير هذا للقاض والمحام على السواء.
أى مزيج هذا بين الروب والوشاح وخوذة المحارب.
لقد كان المشهد عظيماً يجسد تاريخ ونضال رجال من المحامين والقضاة رحلوا فقط بأجسادهم لكن أسمائهم بقيت محفورة ببهو محكمة اتخذت من الحرية والمساواة و الإخاء عنواناً ورمزاً لها ويا له من تقدير!..
تأملت أسماء المحامين الذى قضوا فى الحرب وكأننى أعرفهم.
تأملت أسماء القضاة الذين قضوا فى الحرب وكأننى أحدهم.
فى الحقيقة لقد تعطرت نفسى بهم!..
لقد تعلمت من هذا المشهد الكثير والكثير ولقد قفز إلى ذهنى مقولة شارل ديجول الخالدة عندما عاد إلى فرنسا بعد الحرب وسأل عن القضاء فأخبروه أنه بخير فقال إذن فرنسا بخير.
بعد ذلك وجدت تلك العبارة ORDER DES AVOCATS وقد تصدرت بهو فسيح ينتهى بغرفة عريقة فعلمت أنها غرفة المحامين لكن الذى لفت نظرى هو العبارة نفسها فلم تكن تدل على أنها مجرد غرفة بل أن ترجمتها حسبما رأيت تعنى جدول أعمال المحامين وشتان ما بين عبارة Salle des avocats
أو Chambre Des AVOCATS
أى صالة المحامين أو غرفة المحامين وبين Order Des AVOCATS أى جدول أعمال أو نظام المحامين.
إنها عبارة تحمل جوهراً يليق بعمل المحام الذى يعد عنصراً جوهرياً فى منظومة العدالة.
اقرأ أيضا: لماذا تصور العدالة ﺑاﻣﺮﺃﺓ ﻣﻌﺼﻮﺑﺔ ﺍﻟﻌﻴﻨﻴﻦ ﺗﺤﻤﻞ سيفا ﺑﻴﺪ ﻭميزانا ﺑﺎﻟﻴﺪ ﺍﻷﺧﺮﻯ؟
ولأننى أتجول بين أروقة محكمة النقض ومحكمة استئناف باريس فكان لزاماً أن أجد تلك اللافتة التى تشير إلى TRIBUNAL CIVIL أى المحكمة المدنية بكل ما تحمله من قيم كان لها أبلغ الأثر فى صناعة تحضر ورقى هذا الشعب بما أرسته من مبادئ تشكلت منها ثقافة المواطن المدنية.
رائحة العدالة كانت تفوح من الأرجاء والطرقات الطويلة ذات الضوء الخافت بعض الشىء كانت تنثر الهيبة بالأجواء.
لم الحظ ثمة لا فته أو إعلان ورقى فوق الجدران كما فعلنا نحن عندنا بمنى عريق مثل دار القضاء العالى الذى يشبه إلى حد كبير التصميم الهندسى لمحكمة النقض الفرنسية وكأن اليد التى صممت المبنيين واحدة مع ملاحظة أن مساحة صرح العدالة هنا أكبر ربما الضعف أو يزيد قليلاً.
لم ألحظ بالطبع ثمة شئ ملقى أرضاً حتى ولو كان فى حجم قصاصة ورق ولم اشتم أيضاً بطبيعة الحال أى أثر لرائحة دخان السجائر.
رأيت عدد من المحاميات برداء أنيق وقور يحملن حقيبة أوراق ربما بداخل كل منها "روب" المحاماة الخاص بهن.
بضعة ساعات ببن أرجاء محكمة تاقت نفسى لزيارتها كثيراً منذ أن كنت طالباً بكلية الحقوق وحتى أصبحت قاضياً أحدث نفسى بأحكامها وكذا بأحكام قرينتها محكمة النقض المصرية ولما لا وقد قالت هذه المحكمة يوماً ومازالت تقول : " ان هذه المحكمة تكفل حقوق الإنسان وحقوق أسرته وكل ما يحمى كرامته.."
Ce tribunal garantit les droits de l'homme et les droits de sa famille et de tout ce qui protège sa dignité.
لم تخطئ قدماى الطريق عندما أخذتنى إلى هنا وكيف لا يكون طريقاً إلى العدل هو عين الصواب.
هكذا باريس دائماً تلقيق إلى الجمال دوماً ربما كانت فى الأصل إغريقية الصنع فهذه مبانيها تتحدث الإغريقية أو رومانية الهوى فهذه قوانينها مهد اللاتينية لكنها فى النهاية تبقى كما هى..
تبقى باريس وكفى!..