ضربات متتالية تتلقاها سوق التواصل التقنية عبر الإنترنت يوما بعد يوم، مع تتابع المشكلات والأزمات والفضائح التي تحاصر المنصات الشهيرة وواسعة الانتشار، في وقت لا يتوازى فيه الاهتمام بسدّ الثغرات مع ما تحققه هذه الشركات من مكاسب.
في وقت سابق قرر موقع تويتر حذف عشرات الآلاف من الحسابات الوهمية، بدعوى ضبط الأوضاع وتنقية خريطة المستخدمين بشكل يقلل تدفقات الأخبار الكاذبة والمختلقة. "فيس بوك" أعلن شيئا شبيها بحديثه عن اتخاذ خطوات جادة لمراقبة المحتوى ومراجعة ما يتضمنه من مشكلات تتعارض مع الأطر القانونية والإنسانية، وعلى الدرب نفسه سارت شركات أخرى، لكن ما زالت الأمور حتى الآن في الحيّز السيئ.
ثغرات حقيقية وتحركات دعائية
الوضع الذي تشهده الشركات الكبرى وشبكات التواصل واسعة الانتشار يشير إلى أزمة حقيقية، ففي الوقت الذي يتنامى فيه معدل التهديد عبر هذه الشبكات بفعل قرصنة البيانات وبيعها وترويج المحتوى العدائي والمتضمن أخبارا كاذبة وأنشطة غير قانونية ومواد جنسية واستغلالا للأطفال والأقليات، لا يبدو أن الشركات الكبرى تعمل بجدية لتقليص حيز التجاوزات.
في مطلع العام الجاري، أعلن "فيس بوك" عن اتخاذ خطوات جادّة باتجاه حصار المحتوى المُضلِّل، بدأها بتقليص نسبة ظهور المحتوى الإخباري في صفحة آخر التحديثات إلى 4%، مقابل 5% سابقا، ثم أعلن لاحقا عن الاستعداد لإطلاق آلية للتحقق من المحتوى والصور والفيديوهات، الأمر الذي شكّك فيه رجل الأعمال روجر مكنامي في تصريحات لقناة "سي. بي. إن. بي. سي" قائلا إن "فيس بوك" تتصرَّف بشكل سيّئ وإنه يشعر بالرعب، لتتهاوى أسهم عملاق التواصل الاجتماعي 1.6% وتخسر الشركة 1.2 مليار دولار، وفي مارس أعلن مؤسس الموقع ومديره التنفيذي مارك زوكربيرج أن شركته بدأت عملية "تقصّي حقائق" فيما يخص محتوى الفيديو والصور، سعيًا إلى حصار الأخبار المُلفّقة والحدّ منها، وهو ما قالت عنه تيسا ليونز، إحدى مسؤولات الصف الأول في "فيس بوك"، إنه بدأ فعليًّا الأربعاء 28 مارس 2018 في فرنسا، بمساعدة وكالة الأنباء الفرنسية، تمهيدًا لتوسيع الشراكة مع دول ووكالات أخرى، وامتدّ الأمر لاحقًا ليشمل خدمة Snopes، وصحيفة واشنطن بوست، وتقنية PolitiFact، ثمّ أعلن الموقع في يونيو الماضي طرح برنامجه للتحقُّق من الأخبار في 14 دولة، واستخدام آلية للتعلّم الآلي بغرض تحديد الصفحات الأجنبية التي قد تُروِّج أخبارًا وهميّة في بلدان أخرى، لكنَّ مسؤوليه لم يُحدِّدوا معايير تقييم الأخبار، أو الضوابط التي ستعمل من خلالها هذه الآليات لتحديد ما إذا كان المحتوى حقيقيًّا أم مُضلِّلاً.
خطوة "فيس بوك" المتهم بتسريب بيانات 50 مليون مستخدم لشركة كامبريدج أنالتكيا، وتسهيل عمليات حشد وتوجيه للرأي العام الأمريكي، تقول تقارير وتحقيقات قضائية إن جهات روسية وقفت خلفها للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لم تكن الخطوة الوحيدة في هذا الإطار، فبالتزامن أعلنت "جوجل"، عملاق محركات البحث، تخصيص 300 مليون دولار في إطار خطة تمتدّ ثلاث سنوات، لمكافحة الأخبار الكاذبة والحدّ من انتشارها، مشيرة إلى أنها ستعمل على تطوير برمجياتها (الخوارزميات) للتعرف على الأخبار المثيرة للجدل، وستعمل مع مجموعة First Draft لإطلاق "Disinfo Lab" لمكافحة الأخبار المزيفة أثناء الانتخابات والأحداث العاجلة، والتعاون مع معهد بوينتر، ومع جامعة ستانفورد، ورابطة الإعلام، لإطلاق برنامج MediaWise لتحسين معرفة القراء بالوسائط الرقمية وتقييم الأخبار، وأعلنت لاحقًا أيضًا عن أداة اسمها Outline، بمثابة أداة مفتوحة المصدر من ذراعها التكنولوجية Jigsaw لمساعدة منصّات إنتاج المحتوى الإخباري على تدشين شبكات VPN لمحرّريها، وضمان وصولهم للإنترنت بشكل أكثر أمانًا وكفاءة.
على صعيد الحكومات، قالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إن الأخبار المزيّفة تشكل خطرا على الإعلام والمجتمع، مشيرة إلى تأسيس وحدة تابعة للحكومة للسيطرة على الأخبار الكاذبة وردع من يروّجونها أو يسعون لاستغلالها. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن اعتزامه إصدار قانون لمكافحة الأخبار الكاذبة قبل نهاية العام الجاري، يتضمن آليات للرقابة والمتابعة، وحزمة عقوبات شاملة، وتعزيز قدرات المجلس الأعلى البصري السمعي الفرنسي، ومؤسسة البثّ العامة، في مواجهة وسائل الإعلام الموجهة من دول أجنبية. وفي ماليزيا أقر البرلمان قانونا لمواجهة الأخبار الكاذبة، يتضمن السجن ستّ سنوات لمن يختلقون هذه الأخبار أو يروّجونها، بجانب غرامات تصل إلى 500 ألف رنجيت (123 ألف دولار).
فضائح جديدة في سوق التواصل
الإجراءات المعلنة من "فيس بوك" وغيره من شركات التقنية عقب وقائع قرصنة وتمرير محتوى مشكوك فيه، لم تمنع استمرار الممارسات التي كانت سببا في تضخم الفقاعة وبروزها على السطح. ما زال المستخدمون غير آمنين عبر كثير من هذه الشبكات، وما زالت تدفقات المعلومات مُحاطة بالمخاطر والثغرات وعناصر الاستغلال.
آخر التطورات في هذا الأمر ما كشفه موقع BuzzFeed الأمريكي بشأن هوس موظفي "فيس بوك" بالبحث عن طرق جديدة لجذب طلاب المدارس الثانوية لتجربة أحد المنتجات الجديدة عبر خدعة نفسية. ونقل الموقع مذكرة داخلية كتبها مجموعة من الرؤساء التنفيذيين العاملين في تطبيق tbh الذي اشتراه "فيس بوك" وأغلقه مؤخرا، مشيرا إلى أن قيادات التطبيق قدمت دروسا لموظفي "فيس بوك" حول استهداف المراهقين.
في تطبيق "واتساب" المملوك لشركة "فيس بوك" أيضا، بدا أن ثغرة جديدة تهدد المستخدمين وسرية رسائلهم، بحسب ما كشفه باحثو شركة "تشيك بوينت" المختصة في الأمن الإلكتروني عن الثغرة القائمة في التطبيق ومنصة "واتساب" عبر شبكة المعلومات "الويب"، التي تتيح للقراصنة ومخترقي شبكات البيانات باعتراض رسائل المستخدمين في الدردشة الجماعية، بحسب ما نقل موقع "إندبندنت" البريطاني.
شركة أبل التي تسيطر على حصة ضخمة في سوق الهواتف المحمولة والتطبيقات الإلكترونية لم تكن بعيدة عن مسار التجاوزات المتنامي بقطاع التكنولوجيا، ففي الفترة الأخيرة أُثيرت أنباء عن تنصّت الشركة على محادثات المستخدمين عبر هواتفها وتطبيق "فيس تايم" الشهير التابع لها. المعلومة أشارت إلى وصول الشركة لميكروفونات الهواتف للاستماع للكلمات، وهو ما نفته "أبل" في بيان وجهته للكونجرس الأمريكي نافية الاستماع لمكالمات المستخدمين دون موافقتهم.
الصورة فيما يخص عملاق التقنية ومحركات البحث "جوجل" لم تختلف كثيرا، إذ كشفت الشركة مؤخرا عن احتواء 145 تطبيقا متاحة عبر متجرها على ملفات ضارة بسلامة المستخدمين، ومصصمة بغرض مهاجمة أجهزتهم والحصول على بياناتهم الشخصية. وقال موقع "ديلي ميل" البريطاني إن التطبيقات المشار إليها لا تؤثر على الهواتف العاملة بنظام أندرويد فقك، وإنما تهاجم أجهزة الحاسب الآلي حال توصيلها بالهاتف، وتسرق البيانات بتتبع تحركات المستخدم ورصد أرقام الحسابات البنكية وبطاقات الائتمان وكلمات المرور لها.
أرباح خيالية وحماية صفرية
في العقد الماضي حقق متجر أبل أرباحا تتجاوز 100 مليار دولار، وتجاوزت القيمة السوقية للشركة عتبة التريليون دولار مؤخرا. فيس بوك تتجاوز أرباحها السنوية 40 مليار دولار (بحسب نتائج الربع الماضي من العام) وتقترب قيمتها السوقية من 600 مليار دولار. أما جوجل فتسجل قيمتها السوقية ما يقترب من 800 مليار دولار وفق أرقام ومؤشرات التداول في البورصة خلال مايو الماضي.
الأرباح السنوية لعمالقة التكنولوجيا ومنصّات التواصل وبرمجيات الاتصال في العالم، المقدرة بعشرات المليارات من الدولارات، لا يرافقها اهتمام بمنظومة الأمان وخصوصية العملاء وطبيعة المحتوى المتدفق عبر أغلب هذه المنصات. يبدو الأمر رهانا على اللعبة الاقتصادية وحدها دون أية مسؤولية اجتماعية، حتى لو أعلنت هذه الشركات عن خطط وبرامج ومخصصات لمواجهة الاختراق المتزايد لخطوط اتصالها وحسابات مستخدميها، تظل النتيجة العملية مغايرة للمعلن.
الأمر لا يتوقف عند فكرة الأمان فقط، وإنما تمادت كثير من التطبيقات والخدمات في العمل بمنطق تجاري عارٍ من كل الحسابات، حتى فكرة الواقع الافتراضي المؤنسن وتجربة التصفح والتواصل الإلكتروني الذكية والتفاعلية مع المستخدمين توارت في زحام السباق على اجتذاب مزيد من العملاء والدولارات. تبدو هذه النقطة أكثر وضوحا في صيغة الاعتذار التي أطلقها "فيس بوك" اليوم بعدما زيّن منشورات الناجين من زلزال إندونيسيا المدمر بالرسوم والبالونات والأجواء الاحتفالية، في وقت تعاني فيه جزيرة لومبوك الإندونيسية من زلزال بقوة 6.9 درجة على مقياس ريختر، أودى بحياة أكثر من 130 شخصا.
لم يعتذر "فيس بوك" عن سلوكه إلا بعدما أثار الأمر موجة استياء واحتجاج واسعة، حسبما نقل موقع "إندبندنت" البريطاني، مستعرضا ردود فعل أصدقاء وأقارب الناجين والضحايا الذين فوجئوا بإظهار منصّة التواصل الاجتماعي الشهيرة رسوما وبالونات تتضمن كلمة (salemat - تهانينا) ليعترف الموقع مضطرا تحت ضغط موجة الاستياء من تسبب مشكلة طارئة في خوارزميته المنظمة للموقع في الأمر.
العقوبات وحدها لا تكفي
في أوقات سابقة فرضت دول عدّة غرامات ضخمة على شركات تقنية كبرى بسبب ممارسات اقتصادية أو عملية غير منضبطة. تعرضت جوجل لهذا الأمر متحمّلة غرامة ضخمة في أوروبا، وخاض "فيس بوك" صراعا طويلا أمام الكونجرس والقضاء الأمريكيين، حاول خلاله الهروب من مسؤوليته عن المحتوى السيئ وتعريض أمان المستخدمين للخطر، بادعاء أنه منصّة تقنية لا علاقة لها بالمحتوى تارة، وأنه منصّة نشر لا علاقة لها بالأمان التقني تارة أخرى.
كانت فضيحة تسريب "فيس بوك" لبيانات ما يقرب من 87 مليون مستخدم لشركة "كامبريدج أنالتيكا" الضربة الأكبر للشركة العملاقة، رغم تكرار الأمر واعتراف الإدارة التنفيذية به وهروبها للأمام بادعاء التورط في تطبيقات وبرمجيات خبيثة. الضربة قادت أسهم الشركة للتراجع وخسارة ما يتجاوز 30 مليار دولار، لكنها عادت إلى التعافي، والمؤكد أنها ستشهد مزيدا من التعافي مع النمو المتزايد في سوق الاتصال وأعداد المستخدمين. هذا النمو يُعني أن الشركات الكبرى سيكون بمقدورها تحمّل تبعات هذه الفضائح بشكل أكبر، وتكبّد مزيد من الغرامات دون اهتزاز مراكزها السوقية، أو اضطرارها لإنفاق مبالغ طائلة على إجراء تحسينات أساسية وضمان أمن مستخدميها، خاصة إذا كانت كُلفة التحسين أكبر من الغرامات وتبعات ردود الفعل المتوقعة.
رغم الصورة السلبية التي تبدو مسيطرة على اتجاهات الشركات الكبرى في القطاع، لا يمكن تجاهل أن واحدا من الاحتمالات القائمة يشير إلى عدم قدرتها على سدّ الثغرات الحالية، أو تلافي الثغرات المستقبلية، في ظل نشاط متنامٍ ومتطور للقراصنة ولصوص البيانات. لكن حتى هذا الاحتمال لا يتوفر له قدر من الجدية المُعلنة بما يكفي لالتماس حُسن النية أو اهتمام كبار العاملين في القطاع ومحتكريه بالانشغال بالأمر والعمل على إيجاد حلول عملية له.
مُعدلات النمو التي تشهدها سوق الاتصال، وتنامي أعداد المستخدمين المتسارع بشكل يومي، والاقتصاديات الضخمة التي تُمثّلها سوق التجارة والمعاملات المالية الإلكترونية وما يحيط بها من عمولات وقرصنة، كلها تؤكد أن معدلات الانفلات في الفترات المقبلة ستكون أكبر مما هي عليه حاليا، وفي ظل القصور التشريعي وبطء جهات الرقابة في البلاد التي تنطلق منها هذه الشركات أو تنشط فيها، فإن الأمور مُرشّحة للتطور في مسارات مزعجة بدرجات أكبر من الرهان. لكن الأكثر إزعاجا أن هذه السلبيات المتعاظمة والأخطاء المتكررة والاعتذارات التي لا تتوقف، ربما تشير إلى أن المارد الضخم قد أفلت من القمقم، وأننا بتنا جميعا في مواجهة شرسة لا نعرف الوجهة التي ستحملنا إليها.