شيخوخة في الرابعة عشرة من العمر.. "فيس بوك" يُقبّل واشنطن ويُصافح موسكو وراء ظهرها
الأربعاء، 01 أغسطس 2018 07:00 م
سنوات طويلة من الازدهاء عاشها موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، منذ تأسيسه في فبراير 2004. خلال هذه الفترة تحول الموقع من شبكة اجتماعية محدودة داخل إحدى الجامعات الأمريكية، إلى غول متوحّش يفترس سوق التواصل والإعلان والإعلام والدعاية السياسية.
خلال السنوات الأولى مرّت أمور الموقع الجديد بسلام، كان الأمر أقرب إلى تجربة اجتماعية وإنسانية جديدة، لا تُمثّل إزعاجا لأحد ولا تُشكّل أي خطر على أحد، لكن تطوّر الأمر لاحقا مع توسّع شركة "فيس بوك" وتنامي قوتها السوقية ومساحات انتشارها، لتتحوّل إلى منصّة تقنية وتجارية ضخمة، وتتجه أنظار اللاعبين الكبار في أسواق السياسة والإعلام والإعلان والاستخبارات لقائمة الفرص التي يوفرها الموقع، والمزايا التي يمكن التحصّل عليها بسهولة من خلاله.
نهاية الحضور الناعم وبداية الفضائح
يمكن القول إن "فيس بوك" الذي بدأ وليدًا صغيرا داخل جامعة هارفارد، بشراكة بين رفاق السكن مارك زوكربيرج، وكريس هيوز، وداستن موسكوفيتز، وإدوارد سافرين، وأندرو ماكولوم، لم يواجه مشكلات عاصفة في سنواته الأولى.. الجميع نظروا للموقع الناشئ في بدايته ورحلة صعوده الأولى باعتباره تجربة تقنية لا تُشكّل خطرًا، ولا تعد بمزيد من الفرص.
ربما كانت المحطة الفاصلة لتغير هذه الرؤية مع احتفال الموقع بعيد ميلاده السابع، واشتعال عدد من الثورات والاحتجاجات الشعبية في عدّة دول عربية (تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن).. في هذه الاحتجاجات التي عُرفت بـ"الربيع العربي" لعب "فيس بوك" دورا كبيرا في توفير خطوط اتصال وتنسيق ومنصّة إعلام فعالة ولحظية للمتظاهرين.
النظرة الناتجة عن دور "فيس بوك" في تظاهرات الربيع العربي كانت نقطة تحوّل في مسار الموقع، يمكن القول إن سنواته السبع الأولى كانت بمثابة الطفولة الناعمة والخالية من المسؤوليات، لكن السنوات السبع التالية لهذا المشهد المفصلي لم تكن سنوات شباب كما يُفترض في أطوار الانتقال الطبيعية. يبدو أن الموقع انتقال إلى مرحلة الشيخوخة دفعة واحدة، مع بدء انكشاف وتوالي الفضائح القاسية فيما يخص أداءه التقني وأمانته في حماية مستخدميه وضمان أمن معلوماتهم.
بيع البيانات وسياسة المراوغة
مضت محطة الربيع العربي من نقطة الاشتعال الأولى باتجاه مسار التطور الدرامي المُتقلّب، وخلال هذه الرحلة كانت آثار الشيخوخة وتجاعيدها تزداد على وجه "فيس بوك"، رغم مواصلة التنامي والازدهار المالي والتجاري. لم تتوقف الانتقادات والملاحظات على أداء الموقع منذ 2011 حتى 2016، الموعد الذي بدأ فيه مسار آخر أكثر حدّة وتهديدا للمنصّة الضخمة والغول التقني الشرس.
في 2016 بدأت أصابع الاتهام تشير لـ"فيس بوك" بشكل واضح، وتنسب له ممارسات وأمورا تخرج من دائرة توظيفه السياسي من المستخدمين، إلى تورّطه الشخصي بشكل مقصود في اللعبة السياسية والتجارية. بدأ الأمر باتهامات أمريكية لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر قبل الماضي، وضلوع الموقع في هذا الأمر عبر تسهيل وصول القراصنة الروس إلى بيانات الأمريكيين، وتمرير رسائل موجهة لأكثر من 3 ملايين ناخب. في وقت الٍ تطور الأمر مع فضيحة تسريب معلومات أكثر من 50 مليون مستخدم لشركة "كامبريدج أنالتيكا".
إدارة "فيس بوك" حاولت التنصّل من الأمر جزئيا، لم تنكر نجاح الجهات المُتّهمة بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الوصول لملايين الناخبين من خلال الشبكة، لكنها قالت إن الأمر جرى في إطار نشاط إعلاني اعتيادي ولم يتضمن أي رسائل سياسية أو دعائية مباشرة، وفيما يخص "كامبريدج" قالت إن الأمر يعود إلى ثغرات تقنية واستغلال بعض التطبيقات لها في الحصول على معلومات وتمريرها لشركاء تجاريين، وإنها تعمل بشكل جاد على إغلاق هذه الثغرات وحظر التطبيقات.
ما قاله ممثلو "فيس بوك" للإعلام لم يأت متطابقا مع ما اعتمده الموقع للدفاع عن نفسه في مشهدي إدانة متتاليين. في جلسة استماع أمام الكونجرس قال مؤسس الموقع ومديره التنفيذي مارك زوكربيرج إن الموقع منصّة نشر أقرب للمؤسسات الصحفية، ومن ثمّ فإنه غير مسؤول عن العوامل التقنية ومنها أمان المستخدمين وسرية معلوماتهم. على العكس تماما قال فريق دفاع الشركة أمام إحدى المحاكم الأمريكية، في معرض الردّ على اتهام بالمشاركة في نشر محتوى عدائي يحض على الكراهية ويدعم الاستغلال الجنسي، إن "فيس بوك" شركة تقنية توفر خدمات معلوماتية واستضافة للمستخدمين، وليس مؤسسة نشر لتكون مسؤولة عن المحتوى.. بين الموقفين والإجابتين تكمن المراوغة، وربما تكمن مشكلة "فيس بوك" الذي يقفز بين ضفتي النهر ليقطف الفاكهة المُدلاة على الأغصان في الناحيتين.
سياسية الهروب إلى الأمام
بين كثافة الاتهامات، والحصار القانوني الذي يواجهه "فيس بوك" في الداخل الأمريكي، وربما في أماكن أخرى من العالم، بدأت الشركة المالكة للموقع في التخفيف من حدّة مواقفها السابقة، فيما يبدو محاولة للهروب إلى الأمام.
في بيان صادر عنها أمس، قالت شركة "فيس بوك" إن فريقها التقني اكتشف حملة جديدة لاستغلال الموقع في التأثير السياسي وتضليل المستخدمين وزرع الشقاق بين المستخدمين وتوجيههم قبل موعد انتخابات الكونجرس المقررة في نوفمبر المقبل. مشيرة إلى تحرّكها للتعامل مع الأمر بحذف 32 حسابا وصفحة من منصّتي "فيس بوك" وانستجرام، وفق خططها الجديدة لمواجهة التلاعب السياسي ومحاربة التدخل الخارجي في الانتخابات الأمريكية.
لم تُحدّد إدارة "فيس بوك" في بيانها مصدر الحملة، ولا هوية الحسابات والصفحات التي قالت إنها حذفتها، ولا نوعية المحتوى والرسائل التي بثّتها هذه الحسابات والصفحات وحجم ما تنطوي عليه من توجيه سياسي وترويج دعائي، لكن رغم هذا تبنى أعضاء في الكونجرس رواية "فيس بوك" قائلين إنهم اطّلعوا على بيانات الأمر ويلحظون أسلوبا يشير إلى تورط روسيا. هذا ما أكده كبير الديمقراطيين في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، السيناتور مارك وارنر، بقوله: "أعتقد بدرجة عالية من الثقة أن الأمر مرتبط بالروس"، حسبما نقلت وكالة رويترز.
الوكالة نفسها نقلت عن مختبر البحوث الجنائية الرقمية التابع لمجلس الأطلسي (قالت إن الصفحات والحسابات المذكورة عُرضت عليه قبل حذفها) تأكيده أن هناك وجوه شبه في المنهج واللغة وآلية بناء المحتوى بين هذه الصفحات وحسابات وهمية سابقة تتبع وكالة أبحاث الإنترنت الروسية. ونقلت عن مسؤولين في "فيس بوك" قولهم إن أحد الحسابات المعروف تبعيّتها لوكالة أبحاث الإنترنت كان شريكا في إدارة واحد من الصفحات الوهمية لمدة 7 دقائق، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنها لا تعتبر هذا دليلا كافيا لنسبة حملة استهداف الانتخابات التشريعية الأمريكية لجهات روسية.
خبيئة "فيس بوك" الجديدة التي أعلنت عنها الشركة دون توفير أدلة كافية، ربما تصطدم مع ما قاله مديرها التنفيذي مارك زوكربيرج أمام الكونجرس، من أن الأمر لا يستدعي القلق في ظل توفير الشركة 20 ألف مراقب تقني لحراسة الموقع وحماية مستخدميه، وذلك بعدما قالت شركته في بيان إن 126 مليون مواطن أمريكي استقبلوا رسائل سياسية مدعومة من روسيا عبر "فيس بوك"، و16 مليونا آخرين تلقوا رسائل أخرى موجهة عبر انستجرام.
مساحة التفاوت الكبيرة في الرسائل الصادرة عن إدارة "فيس بوك" ربما تشي بأن الأمر خارج السيطرة بصورة ما، أو لم يخضع للضبط الكامل. الاحتمال الأخطر أن المنصّة الاجتماعية تُناور للإبقاء على معادلتها التجارية في مستويات إيجابية ومتنامية، وفي الوقت الذي تبدو فيه سياستها العملية ثابتة على حالها، تُطوّر لغة الخطاب في اتجاه أكثر رُشدًا، كحيلة للهروب إلى الأمام لا أكثر.
تصريحات لامعة وأداء باهت جدا
يُرجّح احتمال أن تكون إدارة "فيس بوك" تخوض جولة من المناورة، أن المؤشرات والأرقام المتواترة في بياناتها لا تُشير إلى إحكام السيطرة على المحتوى، بل على العكس يتواصل الانفلات والتوظيف السياسي والدعائي وترويج المحتوى المُلوّن أو المُلفّق والذي يحض على الكراهية والعنف. الأمر ليس ثابتا حتى عند معدلاته القديمة، وإنما يتنامى بشكل يومي، بينما تروّج الشركة ومسؤولوها خطابًا مُعاكسًا لهذا تماما.
أحدث رسائل المنصّة جاءت على لسان مديرها التنفيذي مارك زوكربيرج، الذي قال إن شركته بذلت جهودا واسعة ومُتّصلة لمراقبة المحتوى ووضع آليات عملية لضبطه، بغرض الحدّ من رواج المحتوى العنصري المُروِّج الكراهية والعنف والهادف للتضليل وزرع الشقاق، مؤكدا أن فريقه الفني يعمل بشكل متواصل على تعزيز أمن المستخدمين وضمان تجربة استخدام جيدة وإيجابية.
في منشروه الذي تضمّن الرسالة، يقول زوكربيرج: "من المهم أن يثق الأشخاص في الاتصالات التي يجرونها على فيس بوك، وهذا سبب أننا لا نسمح بالحسابات المزيفة، ما زلنا نُحقّق، لكن أي شخص أنشأ حسابات وهمية بذل كثيرا من الجهد لإخفاء هويته، ومع ذلك فإن بعض هذا النشاط مُشابه لما فعلته وكالة أبحاث الإنترنت الروسية قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية في 2016 وبعدها. وتتمثل إحدى أهم أولوياتى بالعام 2018 في منع إساءة استخدام فيس بوك، وأريد التأكد من أننا نبذل كل ما في وسعنا لمنع أي شخص من إساءة استخدامه".
رغم ما تحمله تصريحات زوكربيرج الأخيرة، وما سبقتها من بيانات وتصريحات لمسؤولين بارزين في "فيس بوك"، فإن قدرا من عدم التطابق يبدو واضحًا في المشهد. الشركة لا تتحرّك بشكل جاد لمواجهة المحتوى المُضلّل والمُهدد للدول والمجتمعات والكروّج للكراهية والداعم للإرهاب، أو تفعل هذا فيما يخص الجانب الأمريكي فقط وتتجاهل ملاحظات عشرات الدول، بينما تُنظّم حملة دعائية واسعة تشي بالعكس تماما، مكتفية بموازنة الأداء الباهت بتصريحات لامعة.
فيس بوك يبيع العالم لواشنطن
لغة "زوكربيرج" في المنشور بدت دعائية بدرجة ما، خاصة عندما تحدث عن العمل مع أجهزة تنفيذ القانون، وهو بطبيعة الحال يقصد المؤسسات الأمنية الأمريكية. ربما يكون في هذا الأمر تجاهل كبير لعشرات الدول الأخرى التي تتأثر بالموقع ونشاطه، لكن الأخطر أن هذا التنسيق يُعني أن بيانات عشرات الملايين من المستخدمين ليست آمنة، كل ما في الأمر أن "فيس بوك" يستبدل الجانب الأمريكي بالروسي، وبدلا من تلاعب الأخير بالناخبين الأمريكيين، يسمح للمؤسسات في واشنطن بالتلاعب بناخبي العالم.