هل يقضم التنين ذراع ترامب؟.. خيار الصين «القاسي جدا» لقلب الطاولة على واشنطن
الأحد، 15 يوليو 2018 02:00 م
بعقلية التاجر الذي يوازن الأمور وفق حسابات العوائد والأرباح، مضى دونالد ترامب في اتخاذ إجراءات حمائية تجاه الواردات الأمريكية من الخارج، وهو يعلم في الغالب أن الأمر قد يشعل حربا.
بدأ الرئيس الأمريكي إجراءاته بفرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألومنيوم من كندا وبعض الدول الأوروبية، تبعتها رسوم على الزيتون الأسباني وعدد من السلع الغذائية والاستهلاكية، وتمثلت الخطوة الأكثر تصعيدا وخطورة في إقرار رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات سلعية صينية قيمتها 34 مليار دولار، ما دفع الصين للرد بالمثل.
معركة "عضّ الأصابع"
كان مُتوقعا أن ترد الصين على قرارات ترامب، ربما في ضوء التوازن الاقتصادي والسياسي بين البلدين، أو الأضرار الكبيرة التي تحيط بالتنين الأصفر جرّاء هذه القرارات، وكان مُتوقعا أيضا أن يستفز هذا الرد الغول الأمريكي.
الصين تحركت لفرض رسوم حمائية مماثلة، الولايات المتحدة هدّدت بحزمة أخرى تشمل واردات بقيمة 200 مليار دولار بنسبة 10%، الصين لوّحت بالتقدم بشكاوى لمنظمة التجارة العالمية، فزادت واشنطن التهديدات بالتوسع في حزمة الرسوم لتشمل إجمالي الواردات الأمريكية من الصين، البالغة 500 مليار دولار.
المؤكد أنه لن يكون بمقدور الصين مواصلة المعركة مع الولايات المتحدة بشكل متكافئ، في ضوء أن الميزان التجاري بين البلدين يميل باتجاه العملاق الآسيوي، بفارق ضخم للغاية، فالواردات الصينية من الولايات المتحدة لا تتجاوز 125 مليار دولار سنويا، وكان العجز التجاري الأمريكي أمام الصين قد سجل أكثر من 375 مليار دولار في العام الماضي، ما يُعني أن توسع واشنطن في رسومها لن يجد ردّا صينيا وفق مبدأ المعاملة بالمثل.
يبدو المشهد الآن أقرب إلى معركة "عضّ الأصابع"، الطرفان يُراهنان على طُول النَّفَس وتجميد آثار الصراع في الحيز المقبول والمُستطاع لأطول فترة ممكنة، ولا مانع من توظيف كل الأدوات المتاحة، المالية والسياسية.
حرب العملات وأسواق الصرف
قد يرى متابعون للصراع أن الولايات المتحدة تقف في موقع أكثر ثباتا، يُعززه حضورها الواسع عالميا في ضوء مركزية الدولار باعتباره عملة معيارية في كل الأسواق تقريبا، هذا الأمر صحيح نسبيا بالطبع، لكنه يظل عبئا محتملا في الوقت نفسه.
القوة التي يوفرها المركز الدولاري للولايات المتحدة، يترتب عليها عجز واشنطن عن إدارة عملتها بصورة مرنة، على عكس الوضع الصيني الذي تتحكم فيه بكين في عملتها المحلية "اليوان" بشكل كامل، ما يوفر لها قدرا من المناورة وتلافي الآثار الطارئة والضغوط الناشئة عن تقلبات الأوضاع وتبدل اتجاهات المستثمرين المفاجئة.
هكذا يمكن للصين مثلا أن تُحرك عملتها صعودا إذا شعرت أن الأزمة المتصاعدة في سوق النفط يمكن أن تؤثر على استدامة سوق الطاقة الداخلية، أو تضغط على الاقتصاد ومعدل النمو، ويمكنها التحرك بشكل عكسي إذا استشعرت انحسارا لحضورها الاقتصادي وميزاتها التنافسية في الأسواق العالمية.
الولايات المتحدة لا تستطيع إدارة الدولار بهذه المرونة، ويصعب أن تقرر دفعه في اتجاه هابط، لأن هذا الأمر سيؤثر على كثير من الأسواق العالمية، وعلى واشنطن نفسها التي ستُلقي بهذا التحرك عبئا كبيرا على أذون الخزانة، ما يُعني إجهادا أكبر، وربما قصوا كبيرا، في تدبير عجز الموازنة الذي يتجاوز تريليون دولار.
بهذا التصور يبدو أن التنين الصيني يتمتع بموقف أقوى في سوق العملات، ورغم ما قد يظنه البعض من هشاشة في هذا البُعد ضمن أبعاد ومعاملات الصراع، فالحقيقة أنه يظل واحدا من أهم أدوات إدارة الأزمة، وطاقة سحرية ناجعة لإحداث تدخلات صغيرة، لكنها فارقة، ويمكن أن تكون مُوجعة للخصم الأمريكي.
موازين القوى تتبدل في سوق الصرف
في الأيام الأخيرة سجل الدولار تراجعا أمام سلة من العملات العالمية، بعد وصوله لأعلى مستوياته في أسبوعين، إذ انخفض مؤشر الدولار الذي يقيس قيمته مقابل سلّة من ستّ عملات، منها اليورو والين الياباني، بنسبة 0.07%، وصولا إلى 94.739 متراجعا من 95.241 وهو أعلى مستوياته منذ أواخر يونيو الماضي.
المفارقة أن الدولار رغم تراجعه أمام عدد من العملات الرئيسية، فإنه سجل ارتفاعا مقابل اليوان الصيني، ليصل سعره إلى 6.725 يوان، وبهذا تقترب العملة الصينية من أدنى مستوياتها في 11 شهرا، فيما يبدو أنه أثر مباشر لإعلان بكين تسجيل فائض تجاري قياسي في تعاملاتها مع الولايات المتحدة خلال يونيو الماضي.
لا يمكن الجزم بما إذا كان هذا التراجع أمرا طبيعيا مرتبطا بالعرض والطلب، والمخاوف المحيطة بالحرب التجارية، أم جاء على خلفية تدخل مباشر من الدولة الصينية لإدارة سعر اليوان في مقابل الدولار، في إطار البحث عن حلول لتلافي آثار الرسوم الحمائية الأمريكية.
الذهب والنفط بين الدولار واليوان
ذهبت أغلب الترجيحات مع اندلاع الحرب التجارية، إلى أن أسواق النفط والذهب بصدد ارتفاع قد يكون كبيرا، على خلفية الآثار الضاغطة للرسوم الحمائية، وانعكاساتها على الاقتصادين الأكبر عالميا، إضافة للتوترات السياسية المشتعلة في أرجاء سوق النفط وعدد من كبار المُصدّرين.
النتيجة العملية جاءت مغايرة للتوقعات، النفط تراجع ربما على خلفية مناخ الشك والترقب الذي حدّ من وتيرة العقود الآجلة، إضافة إلى بوادر إقرار الولايات المتحدة الأمريكية تسهيلات في ملف العقوبات المرتقبة على إيران، واستثناء بعض الدول والشركات من قرار حظر استيراد النفط الإيراني.
في التعاملات الأخيرة تراجعت أسعار النفط بشكل ملحوظ، وسجل الذهب أدنى مستوياته خلال العام الجاري، على خلفية الآثار الهبوطية في أسواق المال، وانتعاشة الدولار المدفوعة برفع سعر الفائدة 0.25% في وقت سابق، وتنامي التوقعات بشأن اتخاذ خطوة مماثلة في وقت قريب.
أسواق النفط توقفت في وقت سابق عند مستوى 75.33 دولار للبرميل من مزيج القياس العالمي "برنت"، و71.01 دولار للبرميل من خام القياس الأمريكي "غرب تكساس الوسيط"، لتقلص السوق من مكاسبها على خلفية تقرير اقتصادي أشار إلى اتجاه الإدارة الأمريكية لاستخدام المخزون الاستراتيجي، الذي يكفي فترة تتراوح بين 3 و4 شهور، لتأمين مزيد من الإمدادات.
على صعيد الذهب بلغ التراجع في التعاملات الفورية 0.5% مسجلا 1240.66 دولار للأوقية في سوق نيويورك، وكان قد سجل قبل ذلك 1236.58 دولار في أدنى مستوياته منذ ديسمبر 2017، بينما انخفضت العقود الأمريكية 0.4% وصولا إلى مستوى تسوية 1241.2 دولار للأوقية، وبهذا الأداء تكون أسعار الذهب قد أنهت أسبوعها بانخفاض 1%، وانخفضت 9% تقريبا عن مستوياتها قبل 3 شهور.
انخفاض أسعار النفط والذهب يحمل آثارا إيجابية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ففيما يخص النفط يمكنها تعويض الفواقد الكبيرة في مخزونها الاستراتيجي بكُلفة أقل، والمضيّ باتجاه معاقبة إيران دون آثار كارثية على الأسواق، وعلى صعيد الذهب فإن التراجع يُعني استقرار موقف الدولار، المنافس التقليدي للمعدن الأصفر باعتبار الأخير مخزنا آمنا للقيمة، ويُعني أن الأسواق العالمية والمستثمرين لا يرون الصورة مزعجة حتى الآن، ويحافظون على استثماراتهم في أسواق المال والسندات الأمريكية دون حاجة لتجميد أموالهم في الذهب.
الصين من جانبها يمكنها أن تُشكل ضغطا على هاتين النقطتين، بتحريك سعر اليوان صعودا أمام الدولار، وتغذية الطلب على النفط والذهب، عبر تحويل حزمة من الفوائض الصينية والاستثمارات في السندات الأمريكية إلى قطاع الذهب، بشكل يدفع الأسعار في اتجاه صعودي، بما يحمله هذا من آثار ضاغطة على الدولار والاقتصاد الأمريكي، لكن الأمر لن يخلو في الوقت نفسه من آثار سلبية على الصين نفسها.
خيار التنين القاسي جدا
وفق الحسابات النظرية وموازين القوى بين الولايات المتحدة والصين، تبدو الأمور للوهلة الأولى في صالح التنين الآسيوي، لكن النظر العميق في الأقام والمؤشرات قد يحمل نتيجة مغايرة، ويصب في صالح الغول الأمريكي.
مؤشرات التبادل التجاري بين البلدين تشير إلى عجز أمريكي كبير، فالولايات المتحدة تستورد من الصين بما يساوي 500 مليار دولار سنويا، مقابل صادرات لا تتجاوز 125 مليارا، وقد سجّل العجز التجاري الأمريكي في العام الماضي أكثر من 375 مليار دولار، وبحسب بيانات الجمارك الصينية الصادرة مؤخرا كانت قيمة هذا العجز حوالي 29 مليار دولار في يونيو الماضي، صعودا من 24.5 تقريبا في مايو السابق.
هكذا يبدو أن الصين تحتل المكان الأعلى والأكثر تأثيرا في حلبة الصراع، الأرقام تؤكد هذا، لكن انعكاسات هذه الأرقام تشير إلى أن التمادي في التراشق بالقرارات والرسوم الحمائية يُعني ضغوطا قاسية على الصين، مقابل ضغوط متوسطة على الولايات المتحدة، وهو حجم الفارق بين فرض رسوم جمركية على 125 مليار دولار، وفرض رسوم على 500 مليار دولار.
الفوائض التجارية الصينية أمام الولايات المتحدة، تقابلها فوائض أمريكية في الخيارات، وقدرات أكبر على تسديد ضربات مؤلمة وأكثر تأثيرا على التنين الآسيوي، والبديل أن يتراجع البلدان عن تراشقهما بالرسوم الجمركية، أو يتفقان على صيغة متوازنة في ضوء مؤشرات الميزان التجاري، أو يمضيان في الحرب للمنتهى، بتوظيف كل الأدوات والآليات المتاحة.
الولايات المتحدة لن تستطيع تجفيف نهر الواردات الصينية، فالمواطن الأمريكي يفضل هذه البضائع ويتجه إليها، وكل دولار زيادة في الرسوم الجمركية يُعني مزيدا من الضغط على المستهلك النهائي، ما سينعكس في صورة حالة من التقشف وتراجع النمو الداخلي، أو تآكل معدل الادخار بما يضغط على ودائع البنوك وعلى رواج السندات وأذون الخزانة.
الصين من جانبها لا يمكن أن ترتاح لخيار التقشف أو كبح المستهلكين الأمريكيين عن شراء مزيد من السلع، وحتى تحافظ على وجودها وأفضليتها في الداخل الأمريكي، لديها خيار يبدو قاسيا، لكنه سيكون إيجابيا في المستوى النظري، وهو الهبوط بسعر اليوان مقابل الدولار، بشكل يضمن لها تقليل آثار الرسوم الأمريكية على المُصنّعين والمُصدّرين الصينيين، ودخول السوق الأمريكية بتكلفة أقل، مبقية على تنافسيتها الكبيرة وسط المنتجين الأمريكيين والواردات من الأسواق المختلفة.
الأثر السلبي في هذا الخيار أن النزول بسعر "اليوان" يُعني كُلفة إضافية للواردات الأمريكية، وضغطا على المستهلك الصيني، والأخطر أنه يُعني مزيدا من الضغوط على القطاع الصناعي الذي يُشكل عصب الاقتصاد الصيني، مع فاتورة أكبر لتوفير النفط والمواد الخام الأولية، والعملاق الآسيوي واحد من أكبر مستوردي المواد الخام في العالم.
لجوء الصين لهذا الخيار، حال اعتمدته بكين، سيكون محاولة للتحايل والالتفاف على الرسوم الحمائية الأمريكية، بشكل يُقلل فاعليتها ويُرجح موقف الصين أمام واشنطن، لكنه سيتسبب في نزيف كبير للاقتصاد الصيني وفوائضه، إضافة إلى أنه سيزيد من غضب الإدارة الأمريكية وقد يدفعها لتصعيد الحرب، ما يُعني أنه فرصة محفوفة بالمخاطر، وخيار "قاس جدا" للنجاة من الحرب بالقفز في النار.