الحقيقة الغائبة عن "فرج فودة"!
الإثنين، 08 يونيو 2020 01:41 م
فى ذكرى وفاته الثامنة والعشرين.. ماذا لو لم يتم اغتيال "فرج فودة"، وعاش ما عاش حتى قضى نحبه بصورة طبيعية؟
سوف أُعفيك من مشقَّة الإجابة، وأؤكد لك باختصار غير مُخلٍّ أنه لم يكن ليحدث شئ، أى شئ، ولانقضتْ سيرته مثل غيره ممن حذوا حذوه، وساروا على دربه، وداروا فى أفلاكه.
لا تتمثل خطيئة "فرج فودة" فيما أنتجه وطرحه من أفكار جدلية، يتماسُّ كثيرٌ منها مع الثوابت الإسلامية فقط، ولكن خطيئته الكبرى تتجسد فيمن تنازعوا على تراثه الفكري من بعده، ونسبوا أنفسهم الأمَّارة بالسوء إليه، واتخذوه إمامًا وحائط مبكى فى ذكرى ميلاده وذكرى وفاته، رغم أنه لو عاد حيًا لأنكرهم جميعًا، وتنصَّلَ منهم ومن تدليسهم، فهم لا يشبهونه، وهو لا يشبهُهم!
خلال السنوات الماضية.. ادَّعى بعض صغار العلمانيين ومن يحسبون ذواتهم على تيار التنوير أن "فرج فودة" كبيرهم الذى تعلموا على أفكاره وكتاباته، ووظفوها لممارسة عدوانهم البيِّن والصارخ ضد الإسلام، بل إن كثيرًا منهم ينظرون إليه، كما ينظر الإخوان إلى "حسن البنا" و"سيد قطب"!
لم يكن "فرج فودة"، الذي قتله متطرفان قبل 28 عامًا، طعَّانًا أو لعَّانًا أو فاحشًا أو بذيئًا، ولكنه كان صاحبَ مشروع فكرى كبير، وإنْ اختلفنا معه، ووجهة نظره مُقدَّرة، وإن لم تجدْ صدىً عند الأكثرية بسبب تطرفها فى بعض المواضع والمواقف. أمَّا أشياعُه من بقايا العلمانيين وأدعياء الثقافة، فلا بضاعة لهم إلا الطعن واللعن والفحش والبذاءة والمجاهرة بالسوء، والنقل عمن سبقوهم. هم يعتبرون الاختلاف في حد ذاته تميزًا وتفردًا، حتى وإن تجسَّد في السير عكس الاتجاه، أو اقتراف فعل فاضح في الطريق العام!
نعم.. سبق "فرج فودة" عصرَه في إعلان الحرب على الإسلاميين والتحذير من شرورهم، والكشف عن أطماعهم وخبايا نفوسهم المسكونة بالمكر والقبح ، والتأكيد على أنَّ إثمهم أكبر من نفعهم، فقد أثبتَ الماضى والحاضر ذلك، وكانتْ مواقفه واضحة وصريحة وشجاعة، ولم يطأطئ رأسه أمام جبروتهم، ما كلفه الموت رميًا بالرصاص ولم يكن أتمَّ عامه الخمسين، وكان في عنفوان عطائه ونشاطه. ولكن.. ماذا لو لم يتم قتل "فودة"، وتُرك مثل غيره من أصحاب وجهات النظر المعارضة والآراء المختلفة؟ الإجابة باختصار: لا شيء، وكان سوف يعيش إلى ما قدر اللهُ له، ثم يغدو نسيًا منسيًا، فهل يذكر أحدٌ "سيد القمنى" مثلًا، رغم أنه لا يزال على قيد الحياة، وهل يتذكر أحدٌ "سعيد العشماوي" منذ رحيله؟ وهل يعبأ أحد بأمر "نوال السعداوى" و"فاطمة ناعوت" و"خالد منتصر"؟
إنَّ عملية تصفية "فرج فودة" صنعتْ منه بطلًا وشهيدًا، دون النظر إلى مُجمل مشروعه الفكرى ونقده، وتبيان ما إذا كان مشروعًا فكريًا متكاملًا، أم منقوصاَ مشوشًا، اكتسب أهميته في زمنه من فكرة الاختلاف مع السائد، والتمرد على السلطة الدينية فقط التي لم تكن قد فقدت وقارها الافتراضي بعدُ.
إنَّ المحاولات الرصينة التي أخضعتْ مؤلفات "فرج فودة" للنقد والتحليل، وجميعُها كانت من جانب كتاب ومثقفين موضوعيين ومحايدين غير مؤدلجين، لم تُنصفها، وأجمعتْ على أن كثيرًا منها لم يكن ناضجًا بشكل كافٍ، وبعضُها، مثل: "حوار حول العلمانية"، ابتعد عن الأسس المعيارية والفلسفية التي عادة ما يستند عليها منظرو العلمانية في أطروحاتهم، وسيطر عليها ما يمكن وصفه بـ "غياب المنهجية الفكرية السليمة"، وكذلك كتابه الصغير "الحقيقة الغائبة"، لم يكن هدفه فى الأساس سوى الغمز واللمز والتجريح فى الإسلام، وليس نقد الحكم الإسلامى وما اقترفه الحكام المسلمون.
وإجمالًا.. ورغم كل شيء، فإنه يمكن التسليمُ بأنَّ "فودة" ينتمي إلى الجيل الثاني من "التنويريين المصريين"، حيث سبقه جيل: "الطهطاوي" و"طه حسين" و"قاسم أمين" و"علي عبد الرازق" وآخرين، وكلا الفريقين آمن "بدرجاتٍ متفاوتة" بأنَّ الدين مُكوِّن أساسي في الشخصية المصرية، وأنَّ التنوير يجب أن يقوم على معالجة العلاقة بين الإسلام والحداثة.
أما مشروعُ "فودة" الشخصي فإنه كان يقوم على أربعة أعمدة أساسية، هي: نقد الإسلام السياسي المعاصر، ونقد الإسلام السياسي التاريخي، وحتمية الاجتهاد وإعمال العقل، والدفاع عن أسس الدولة المدنية الحديثة..
إن الحقيقة الغائبة فى إشكالية "فرج فودة" و التي لا تقبلُ جدلًا، هي أنه لو تنته حياته بصورة دموية ودرامية ومأساوية، لطوته يدُ النسيان، وانتهتْ سيرته، مثل أسلافه وأقرانه، الأحياءُ منهم والأمواتُ، ولما تحولتْ ذكرى وفاته كل عام إلى مناسبة للتلسين والردح وفُحش الكلام من غلمان العلمانية وغربان التنوير ممن يدَّعون المظلومية والبطولة الوهمية..