يوسف أيوب يكتب: شهادة امتياز ونضوج لمؤسسات الدولة

السبت، 25 أبريل 2020 02:00 م
يوسف أيوب يكتب: شهادة امتياز ونضوج لمؤسسات الدولة
حركة العمل مستمرة بضوابط احترازية

 
قبل شهرين، كان أكثر المتفائلين يتوقعون أن يلحقنا شهر رمضان وقد فقدنا آلاف الموتى جراء جائحة كورونا، فضلا عن عشرات الآلاف من المصابين ممن لن تستطع المستشفيات استيعابهم، ولمَ لا وقد رأينا حينها- عبر شاشات التليفزيون- طوابير من المرضى بالفيروس فى إيطاليا وإسبانيا، مصطفين أمام المستشفيات دون أن يجدوا من ينقذهم، لأن الغرف قد امتلأت عن آخرها، ولم يعد هناك متسع لاستقبال مريض آخر؟
 
1-1328268
 
لمَ لا وقد رأينا رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون يعلنها صراحة للبريطانيين: «استعدوا لوداع أحبائكم»؟ فالرجل الذى يدير واحدة من الدول الكبرى فى العالم وصل به التشاؤم مدى لم يتوقعه أحد، وعلى نهجه سار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى تراجع سريعا عن تماسك أعصابه، وبدأ فى الشعور بأن الأمور تخرج عن السيطرة، فقرر أن يخرج بشكل يومى ليصارح الأمريكيين بحقيقة ما يحدث فى بلده، التى تحولت فجأة إلى صدارة الدول الأعلى إصابة بالفيروس، وتعطل كل شىء فى الولايات الامريكية.
38327887_710179_highres
 
كان تفكيرنا حينها ونحن نتابع الأخبار السوداوية التى تأتينا عبر شاشات الفضائيات، أنه إذا كان هذا حال الدول الكبرى، فما بالنا ونحن دولة لا نزال نسير وفق خطة أو برنامج إصلاح اقتصادى نحاول من خلاله تعويض الكثير من الخسائر التى تعرضت لها الدولة طيلة السنوات الماضية؟ كما أن المنظومة الصحية لم تصل بعد إلى الشكل المأمول، الذى يمكن من خلالها استيعاب الأرقام المتوقعة حينها من المصابين بكورونا، ولا يمكن مقارنة مستشفياتنا بنظيراتها الأمريكية أو الأوروبية التى رفعت الراية البيضاء، معلنة أن حجم الإصابات فاق كل التوقعات.
 
قبل شهرين كان الوضع فى مخيلتنا جميعا أقرب للسوداوى، فالرهان على الوعى خاسرا فى رأى كثيرين، كما أن الإمكانيات قد لا تسمح بالمواجهة أو التعامل الحاسم مع هذا الفيروس الذى أربك الدول الكبرى، لكن وسط هذه الحالة من التشاؤم كانت هناك بارقة أمل تمسك بها الكثيرون، ممن وثقوا منذ اللحظة الأولى فى إدارة الدولة للأزمة، خاصة أن هناك بعض التجارب والمواقف السابقة التى جعلت الطمأنينة تسرى فى عروقنا، وأن الدولة ليست فى وضعية تسمح لها بأن تجرب، بل هى قادرة على أن تقود وتدير وفق منظومة علمية ومدروسة جيدا.
 
بارقة الأمل بدأت تتسع يوما وراء الآخر، إلى أن وصلنا إلى حالة من الثقة لدى غالبية إن لم يكن كل المصريين، بما فيهم من يضعون أنفسهم فى خانة «المعارضة»، ممن وجود أنفسهم مضطرين ليقولوا ولو لمرة واحدة كلمة حق تجاه أداء متزن ويصل إلى درجة الاحترافية، بكل ما تحويه الكلمة من معان، فبجانب إجراءات وقرارات تصاعدية تتفق وطبيعة كل مرحلة، كانت اللغة السائدة لدى كل المسئولين وعلى رأسهم الرئيس عبدالفتاح السيىسى نفسه، التحذير دون التوتير، لأن التوتر ستكون عواقبه وخيمة، ولنا فيما حدث فى دول كبرى عظة، فحينما شعروا بالقلق والتوتر تسابقوا على المحال التجارية لشراء احتياجاتهم، فكادت أن تحدث كارثة، وهو ما لم يحدث فى مصر بفضل الله تعالى.
 
كانت اللهجة واللغة المستخدمة فى الخطاب الرسمى المصرى أقرب للواقعية، وتتعامل مع الفيروس والأزمة بمنطق الأرقام والوقائع، وليس التمنى أو الرغبة فى تصديق ما ليس بحقيقى، لذلك كان هناك قبول شعبى لما ما يخرج من بيانات رسمية أو تصريحات للمسئولين، لأن المصريين لمسوا فى هذه التصريحات والأقوال والأفعال الصدق، وبجانب الصدق، الرغبة الحقيقية فى العمل على الأرض لتجنيب مصر أزمة ستكون لها آثار سلبية غاية فى السوء.
 
حينما نقارن الوضع اليوم، على ما كنا نتوقعه قبل شهرين، سنجد أن هناك فارقا شاسعا بين التوقع والحقيقة، وللمرة الأولى ينتصر الواقع على كل التوقعات، فأعداد المصابين لا تزال فى حدود «الضعيفة» إذا ما قارناها بدول أخرى قريبة لنا فى حجم السكان أو الإمكانيات أيضا، بل إنها «ضعيفة جدا» إذا ما قورنت بدول أخرى أكثر تقدما، والأكثر من ذلك أن حجم المتعافين من المرض تعدت نسبتهم الـ35 % حتى الآن، وهى نسبة فى تزايد مستمر، بما يشير إلى أن أمرا ما حدث فى مصر جعل التوقعات كلها تخيب، وينتصر الواقع ربما للمرة الأولى.. فكيف حدث ذلك؟
 
الذى حدث- باختصار شديد- أن الدولة المصرية تعاملت مع الفيروس منذ اللحظة الأولى بمنطق المجابهة السابقة، ووضع تصورات مستقبلية لما سيكون عليه الوضع، والتعامل بهدوء دون تشنج أو تسرع، وأيضا عدم استغلال الأزمة لتحقيق مصالح أو أغراض سياسية أو انتخابية كما يحدث فى دول أخرى، بل إن التعبير الشهير الذى يتناقله المصريون هو المعبر الرئيسى عن كيف تفكر الدولة، وهو التعبير الذى قاله الرئيس السيسى فى 22 مارس الماضى بإن «أقل تداعى نتمناه أن نخرج من هذه الأزمة باقل ضرر.. الضرر هنا مش اقتصادى.. شعبنا غالى علينا.. أهلنا غاليين علينا».
 
من هذا المنظور تحركت الدولة بكافة مؤسساتها تتعامل مع الفيروس وفق منظور إنسانى بحت، وليس اقتصاديا أو سياسيا، وهو ما أوصلنا إلى النتائج التى نحن عليها الآن.
 
تحركت الدولة وفق خطة علمية مدروسة، لا تنتظر أن تُفاجَأ بما هو ليس فى حسبانها، بل وضعت كل التصورات فى الحسبان، السيئ منها قبل الجيد.
 
منذ أن قرر الرئيس إعادة المصريين من مدينة ووهان الصينية ووضعهم فى الحجر الصحى بمدينة النجيلة فى مرسى مطروح، وكانت هناك نظرة مستقبلية للأحداث، ووضع خطة للتعامل مع كل مرحلة، وهو ما كان له تأثير إيجابى فى محاصرة الفيروس، وترافق ذلك مع قرار الرئيس بتعيين مستشار خاص لشئون الصحة، وهو الدكتور محمد عوض تاج الدين، وهو القرار الذى كشف عن عنصر المنطقية فى الإدارة المصرية.
 
thumbs_b_c_3dc1b52edb646a00862e50113e49995f
 
ولا ننسى هنا الجانب التطمينى من خلال رسائل الرئيس السيسى الذى اختار الظهور فى توقيتات معينة، حتى تصل رسالته بالشكل المطلوب، سواء من خلال الظهور التليفزيونى أو عبر الحسابات الخاصة بالرئيس على وسائل التواصل الاجتماعى، فكلها أدت الغرض المطلوب منها، خاصة أن ظهور الرئيس كما قلت كان مدروسا بعناية شديدة، وفى الوقت ذاته لغة الخطاب كانت منتقاة، لتحذير المصريين من الخطر، مع التأكيد لهم أن الدولة فى ظهر المواطنين، ولا داعى للقلق طالما التزمنا جميعا بالإجراءات الاحترازية والقرارات التى يتم الإعلان عنها تباعا، لأنها تستهدف- فى المقام الأول- صحة وحياة المصريين.
 
وعلى نهج الرئيس سار رئيس الوزراء وكل المسئولين، وكان رهان الجميع على تجاوب المواطنين مع هذه الرسائل، أو بمعنى أدق، «الرهان على وعى الشعب»، ورغم محاولات التشكيك، وهذه الاستهداف الذى تعرضنا- ولا نزال- من خلال الشائعات التى زادت وتيرتها، كان الوعى المصرى ناضجا، وأقرب مثال على ذلك، ما حدث يومى الأحد والإثنين الماضيين، حينما التزم المصريون بقرارات الحكومة بمنع وإلغاء أية تجمعات، خاصة يوم الاحتفال بعيد شم النسيم المرتبط فى ثقافتنا بطقوس معينة، ولأنهم أكثر وعيا، تغاضى المصريون عن الطقوس ليبقوا أحياء، وهو ما نتوقع جميعا حدوثه خلال شهر رمضان الكريم أيضا.
 
بالعودة مرة أخرى إلى الإدارة الحكيمة للأزمة من جانب مؤسسات الدولة المصرية، سنجد أنه فى كل يوم كانت تصدر قرارات تثير استغراب البعض، لكن بعد أسبوع أو أكثر نرى أن هذا القرار الذى اتخذ كان فى محله، ومنها على سبيل المثال تجهيز مستشفيات للحجر الصحى فى كل محافظة، والعمل على تجهيز المستشفيات الجامعية، فضلا عن إعداد المدن الجامعية لتكون مهيأة لاستقبال أى أعداد طارئة، وهو ما حدث أيضا فى أجهزة التنفس الأصطناعى، وغيرها من القرارات التى تم تطبيقها على الأرض سريعا، حتى لا نفاجأ بما لا نتوقعه.
 
وكان المثير للاستغراب أنه قبل أن تظهر مشكلة كنا نرى الحلول على الأرض، فعلى سبيل المثال قبل أن تظهر مشكلة أو أزمة فى مواد التعقيم والنظافة الشخصية، سارعت القوات المسلحة ومصانع أخرى لتجهيز كافة الكميات التى تحتاجها السوق المصرية، وهو ما قضى على أى أزمة أو مشكلة فى هذا الاتجاه، كما حدث أيضا فى السلع الغذائية الأساسية التى تم توفيرها، حتى لا يشعر المواطن بأى خلل فى السوق، وبالتوازى مع ذلك أطلقت الجهات الرقابية حملاتها على الأسواق للتعامل بحزم وقوة مع المخالفين.
 
FB_IMG_1586169322807
 
كل ذلك يشير إلى نقطة مهمة، وهى أن الدولة لم تتعامل مع الأزمة بمنطق «اليوم»، أو بأسلوب النظر تحت الأقدام، بل كانت هناك خطة، تراعى كل التوقعات المستقبلية المتشائمة منها قبل المتفائلة، حتى لا تفاجأ الحكومة بما ليس فى مقدورها، حتى قرار حظر التجوال فى أوقات معينة، لم يأت من فراغ، أو تقليدا لدول أخرى لجأت لهذا الإجراء الاحترازى، بل جاء وفق معطيات جعلت صاحب القرار يقدم على اتخاذ قراراه، تماما كما حدث فى قرار منع الصلاة فى المساجد والكنائس، لمنع أى تجمعات، حينما رأت الدولة أن الوعى لدى المواطنين لم يكن حينها بالقدر الكافى الذى يمكن الدولة من محاصرة الفيروس.
 
وسبق هذا القرار قرار آخر جاء فى وقته، وهو تعليق الدراسة فى المدارس وتلتها الجامعات، وهنا لا بد أن أشير إلى نقطة فى غاية الأهمية، والمرتبطة بقضية التعليم والدراسة، فبعيدا عن الفزع الذى أصاب كل المصريين من فيروس كورونا، كان القلق يساور كل الأسر المصرية على أبنائهم، ومستقبلهم التعليمى، خاصة حينما حملت لهم الأخبار أنباء متضاربة من دول مختلفة بشأن التعامل مع المنظومة التعليمية، وكانت هناك خشية أن يكون الارتباك فى مصر هو سيد الموقف، وهو ما سيكون له مردود غاية فى الصعوبة على كل الأسر، لكن لأن الخطة كانت جاهزة وواضحة، لم ترتبك الدولة، وتم القضاء على القلق الذى يساور الأسر المصرية من خلال منظومة غاية فى الدقة، من خلال القرارات السريعة الخاصة بسنوات النقل وحتى الشهادات النهائية، وساعد على ذلك أن الدكتور طارق شوقى، وزير التربية والتعليم كان منذ البداية واضحا وصريحا بأن الحكومة لديها خطة للتعامل مع أى طارئ، وساعد أيضا على إزالة أسباب القلق أن الدكتور طارق شوقى كان حريصا على التواصل المستمر مع الطلاب والأسر، سواء من خلال الظهور المتكرر عبر وسائل الإعلام المختلفة، أو عبر السوشيال ميديا، ما أدى إلى نجاح خطة العبور بالعملية التعليمية من أزمة كورونا.
 
وحينما استلهمت وزارة التعليم العالى، خطة وزارة التربية والتعليم نجحت أيضا فى إزالة القلق واللبس لدى طلاب الجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة، وإن كان يؤخذ على وزير التعليم العالى والبحث العلمى، الدكتور خالد عبد الغفار، أنه لم يتعامل مع الأزمة بالفاعلية ذاتها التى تعامل بها الدكتور طارق شوقى، سواء من خلال التواصل المباشر مع الطلاب والأسر، أو حتى من خلال استنباط أفكار جديدة، بل ظل معتمدا على ما ستنتهى إليه وزارة التربية والتعليم ليقوم بتطبيقه فى التعليم العالى، وكأنها رافد لها.
 
الشاهد فى كل ذلك، أن هناك حالة من النضوج باتت واضحة بشدة على كافة مؤسسات الدولة، ظهرت بقوة من خلال استقبال الأزمة منذ البداية والتعامل معها ومع آثارها ومعطياتها، فلم يكن هناك ارتباك أو اضطراب فى التعامل، بل ثقة بالقدرة على المواجهة والحل.
 
واستوقفنى هنا مشهدان، الأول هو القضاء على شبكة إرهابية فى منطقة الأميرية شرق القاهرة قبل أسبوعين، كانت تخطط لتنفيذ أعمال إرهابية بالتزامن مع احتفال أخوتنا المسيحيين بعيد القيامة المجيد، فضلا عن التعامل الفورى مع الخارجين عن القانون، ومن حاولوا استغلال حظر التجوال فى البناء على الأراضى الزراعية، أو التعدى على أراضى الدولة، فيد الدولة كانت قوية، بل غاية فى القوة فى المشهدين، وهو ما أعطى رسالة للجميع بأن مصر دولة مؤسسات، وإنها أبدا لم ترتبك من جراء فيروس، بل يقظة لكل خروج عن القانون، وفى مواجهة من يريد التلاعب.
 
CM9S8
 

image
 
باختصار شديد، يمكن اعتبار أزمة كورونا فى مصر، توثيقا جديدا للدولة المصرية وتعاملها المدروس مع الأزمات، وتأكيدا على أنها وصلت على مرحلة كبيرة من النضج، تعتمد المؤسسية كإطار للعمل، وهو ما حقق لها النجاح الذى كان سببا فى عدم انهيار الوضع الاقتصادى كما توقع الكثيرون قبل ذلك، بل يمكن القول- ووفق معطيات مختلفة- إن طريقة إدارة الدولة لأزمة كورونا ستكون محل دراسات دولية متعددة، بعد انتهاء الأزمة، لأنه لم يكن متصورا أن دولة مثل مصر فى ظل التحديات التى تواجهها ستكون أكثر صمودا من دول أخرى تفوق مصر فى إمكاناتها الاقتصادية والصحية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق