ويسألونك عن الفساد والفاسدين!
الأحد، 14 يوليو 2019 11:08 ص
منذ سنوات ليست بالبعيدة، كان الفساد أكثر حياءً، وأقل قبحًا.. وكان الفاسدون أكثر ترفقًا بنا، وأكثر مراعاة لأحوالنا المادية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية- إن جاز التعبير.. لكنهم- الآن- صاروا أقل حياءً، وأكثر قبحًا، وأشد توحشًا، ولم يراعوا فينا إلًا ولا ذمة.
قبل عِقدٍ وبضعِ سنوات، كنا نسمع عن فساد «حُنَيِّن».. فمثلًا الموظف الفاسد، الذي يرفع شعار «أبجني تجدني»، كان يطمع في سيجارة مارلبورو، أو علبة كليوباترا بوكس، إن كانت «المصلحة» في متناول يده.. وكان المسؤول الفاسد يطمع في جنيهات قليلة لينجز لك خدمة مفروضة عليه أن يؤديها لك بالمجان. وقطعًا يتضاعف المبلغ كلما كانت الخدمة «شمال»، أي غير قانونية.. وكل شيء بثمنه!
لكن حتى مع مضاعفة المبالغ المقدمة من صاحب الخدمة للموظف تحت بند (الرشوة/ الإكرامية/الحلاوة/ الشاي/ كل سنة وأنت طيب..)، إلا أنها لم تكن تتخطى حاجز الآلاف.. فإذا ما تجاوزت الأصفار الستة، فإن رائحتها تصبح أكثر من رائحة الحمار النافق.. وأضحى صاحب المصلحة «الشمال» ومَن ساعده للحصول عليها، صيدًا سهلًا لرجال الجهات الرقاببة، الذين لن يجدوا صعوبة في جمع دلائل الإدانة.
الآن، اختفت- تقريبًا- الأصفار الثلاثة، والأربعة والخمسة، وصارت «دقة قديمة»، لا يُقْدم عليها إلا المبتدئون في هذا المستنقع.. أما الكبار فإن فسادهم تجاوز الأصفار الستة، والسبعة، والثمانية، ووصل إلى التسعة بنجاح تام.. ورأينا فساد بالمليارات! نعم بالمليارات، ما يجعلنا نتندر، أو نترحم على زمن «الفساد الوسطي الجميل»!
خذ عندك.. النائب البرلماني «الغلبان»، صلاح عيسى، متهم في قضية معروفة إعلاميًا بـ«رشوة المقابر»، لإنهاء تراخيص «جبانات»، مقابل حصوله على رشوة «مليوني جنيه»!
هشام عبد الباسط محافظ المنوفية الأسبق، صدر حكم بحبسه 10 سنوات، لحصوله على كسب غير مشروع بقيمة 58 مليون و795 ألفًا و942 جنيهًا، فضلًا عن قائمة ممتلكات أخرى متمثلة في شاليهات، وفيلات، وشقق سكنية، و17 سيارة ملاكي!
الرقابة الادارية ضبطت السكرتير العام والسكرتير العام المساعد ومدير إدارة الشؤون القانونية السابقين بمحافظة مطروح؛ لاتهامهم بتسهيل الاستيلاء على المال العام والتزوير بما يقارب مبلغ 500 مليون جنيه!
أما هذه القضية فقد توقفت أمامها طويلًا، غير مصدق الرقم الذي احتوته، وهو (962 مليون دولار)، أي أكثر من (15 مليار جنيه مصري).. نعم الرقم صحيح، ومثلما قرأته، أكثر من 15 مليار جنيه، وتضم «محمد .م»، نائب رئيس مجلس إدارة وعضو منتدب لإحدى شركات البترول، و«محمد. ف»، مدير مالي سابق بالشركة، و«عبد الحميد .خ»، صاحب إحدى الشركات؛ لاتهامهم باختلاس المبالغ المذكورة على مدار 7 سنوات، وتهريبها إلى قطر ودول أخرى.
فهل تتخيل ما وصلنا إليه؟ الفساد لم يقف محلك سر. لم يتقدم إلى الخلف، بل حقق طفرات هائلة.. والفاسدون طوّروا أنفسهم وأدواتهم، ووسعوا ذمتهم، فلم يعودوا يكتفون بنهب واختلاس الملايين، طالما كانت المليارات في متناول أيديهم، ويظنون أنهم بعيدون عن عين الرقيب والحسيب!
في ثقافتنا الشعبية نقول: «المال السايب يعلم السرقة».. وفي السنوات الأخيرة انتشرت مبررات للفساد والنهب والسرقة: «قالوا للحرامي إيه إللي خلاك تسرق، قال ما كلهم بيسرقوا».. و«إذا كان رب العمل للمال ناهبًا، فشيمة أهل المصلحة كلهم الغرف»!
ظني-والناس لا يُحاسَبون على ظنونهم- أن كل فاسد قد يكون وراءه مسؤول كبير يحميه، أو يتستر على فساده. وإلا بِمَ نفسر بقاء كثير من الفاسدين في مناصبهم سنوات كثيرة، دون أن يقترب منهم أحد. بل ربما يحصلون على ترقية أعلى، كما حدث لمحافظ المنوفية المحبوس حاليا، هشام عبد الباسط؟ إذ كيف وصل الرجل من موظف بسيط في محافظة المنيا إلى منصب محافظ بسرعة الصاروخ؟ وأين كانت الأجهزة الرقابية حتى وصلت ثروته من الكسب غير المشروع إلى أكثر من 100 مليون جنيه؟
أين كانت الرقابة حين استولى أباطرة الأراضي على آلاف وملايين الأمتار بأثمان بخسة، وأحيانًا دون مقابل؟ وأين هي من مافيا استيراد القمح والحبوب؟ وأين كانت من تورط ثلاثة في فساد بأكثر من 500 مليون جنيه، واستيلاء ثلاثة آخرين على أكثر من «15 مليار جنيه» على مدار 7 سنوات؟ وكيف هُرِّبت قطع أثرية نادرة إلى الخارج، وبِيع بعضها في مزاد علني؟ أليست هذه وقائع تثير تساؤلات ليست بريئة؟
لقد استشرى سرطان الفساد، وتغلغل في جميع الهيئات والمصالح الحكومية والخاصة، إلا ما رحم ربي؛ نتيجة تراكمات عاشها المجتمع سنوات طويلة، وعانى فيها من أوضاع اقتصادية صعبة، وضعف فيها الوازع الديني، وغابت دولة القانون، واختفت الرقابة، واختلت المعايير، وإبعاد الكفاءات، وانتشار «الفهلوة» والوساطة والمحسوبية..
قد يكون استئصال شأفة الفساد من جذوره مستحيلًا، لكن أضعف الإيمان أن نحاول الوصول به إلى أدنى حد ممكن. فإن كنا جادين في ذلك فعلينا باتباع مجموعة من الخطوات، منها:-
أولًا: سن تشريعات وقوانين صارمة، وتطبيقها بمنتهى الشدة على الفاسدين والذين يسهلون لهم الفساد. فمن لا يردعه القرآن يردعه سيف السلطان.
ثانيًا: التوعية والتحذير من هذه الظاهرة وتأثيرها السيئ على المجتمع.
ثالثًا: تشجيع الناس على التبليغ عن حالات الفساد، كلٌ في مجاله ومكانه، مع توفير الحماية التامة للمبلغ، ومنحه مكافأة، ولو حتى رمزية، لتشجيعه، وتحفيز الآخرين على أن يحذو حذوه.
رابعًا: تحسين الأحوال المادية والمعيشية للموظفين، لتتناسب مع التوحش في أسعار السلع والخدمات.. وبعدها توضع عقوبات رادعة ومعلنة تناسب كل حالة فساد؛ لمنع تكرارها، أو الحد منها، ويكون الفاسد عبرة لغيرة.
خامسًا: إجراء إصلاح إداري عاجل في كل مؤسسة، مع التقييم المستمر للعاملين فيها، وإعطاء فرصة لقيادات مؤهلة، ونشيطة، ومؤمنة بالتطوير والتغير لضمان نجاحها في مهمتها.
سادسًا: وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، حسب كفاءته وإبداعه، لا حسب علاقاته وواسطته. والإسراع في تفعيل برنامج الحكومة الإلكترونية؛ ليتمكن المواطن من متابعة معاملاته إليكترونيًا دون التعامل المباشر مع الموظفين.
سابعًا: إحكام الرقابة، وتفعيلها على جميع العاملين، من أكبر منصب إلى أصغر درجة وظيفية، دون تهاون أو تراخٍ.
والله من وراء القصد.