من دائرة الإباحة إلى التجريم.. هل تمثل لفظة «متهم» مساسًا بقرينة البراءة؟
الثلاثاء، 30 أبريل 2019 07:00 م
فى الحقيقة بمجرد أن يتصل علم البسطاء في مجتمعنا بقيام أجهزت الضبط والعدالة ببعض أنشطة الاستدلال حول أحد المواطنين أو بعضهم، ممن تحوم حولهم شبهات ممارسات مؤثمة قانونا، يطلقوا عليهم لفظ «متهم» بصورة عشوائية، وبدون أي وعي لديهم، نتيجة لغياب الثقافة القانونية، بأن كلمة «متهم» هي اسم لصفة تلحق بالشخص الذي تقوم ضده دلالة كافية على ارتكابه عمل اجرامي، وهو وصف يلحق بالشخص إمام المحكمة فقط.
لماذا كلمة «متهم» وصف يلحق بالشخص إمام المحكمة فقط؟ وذلك لأن الجهات المختصة بوصولها إلى حد الكفاية، في تقديرها، لأدلة إثبات ارتكاب الشخص لجريمة ما، تقوم باتهامه أمام المحاكمة المختصة، ومعنى ذلك أن لفظ «المتهم» يجب أن يكون لاحق على أعمال التحقيق والفحص لا في مرحلة سابقة عليها ولا حتى خلالها، بمعنى آخر وهو أن يكون الاتهام بمثابة النتيجة والمحصلة لنهاية أعمال الفحص والتحقيق في حالة كفاية أدلة اثبات الجريمة في تقدير جهات التحقيق، إذ لا يكون دور جهات التحقيق هو البحث عن أدلة الإتهام وإلا كان ذلك خروجا عن الحياد الذي ينبغي أن يكون عليه المحقق.
إلا أن «صوت الأمة» فى التقرير التالى حاولت إلقاء الضوء على لفظة أو وصف كلمة «متهم» على الشخص من الناحية القانونية وهو لا يزال بين أعضاء النيابة العامة أو الأجهزة المعنية ومدى تأثير تلك اللفظة على مضمون قرينة البراءة لديه، وما يجب اتخاذه من إجراءات قانونية لتفادى مثل تلك الإشكالية – بحسب الخبير القانونى والمحامى كريم عبد الناصر.
لا شك أن إطلاق لفظ المتهم على الشخص بغض النظر عن مركزه الواقعي أمام أجهزت الضبط والعدالة فيه مساسا بمضمون قرينة البراءة، ذلك أن الدولة، ومن خلال أجهزتها المعنية بمكافحة الجريمة وملاحقة مرتكبيها، تسعى في النهاية إلى اقرار سلطتها المنفردة في الزجر والعقاب في مواجهة جميع المخاطبين بقانونها، وتبدأ أولى مراحل هذه المكافحة بتلقي جهات الضبط البلاغات والشكاوى بوقوع جرائم لتقوم الأخيرة بدورها ببعض أعمال الاستدلال حول الأشخاص الذين تحوم حولهم الشبهات وما أن تتوصل هذه الاستدلالات الي أدلة «لا تصل الى حد الكفاية» في اثبات ارتكاب المشتبه فيهم لهذه الجرائم – وفقا لـ«عبد الناصر».
تبدأ المرحلة الثانية بإحالة الأوراق إلى جهات الفحص والتحقيق، والتي بدورها أن توصلت من خلال أعمال التحقيقات على تنوعها إلى حد الكفاية في اثبات الجريمة، تبدأ المرحلة الثالثة باتهام الشخص ارتكاب الجريمة محل التحقيق أمام المحكمة المختصة لمحاكمة، ولأن مقتضيات مكافحة الجريمة وملاحقة مرتكبيها فيها له علاقة واضحة بالحريات والحقوق العامة للمواطنين، ولذلك فقد عمد المشرع إلي تنظيم هذه الحق الاستئثاري للدولة بشكل يحقق أعلى قدر لفاعلية المكافحة من جهة، ويحفظ الحقوق والحريات العامة للمواطنين من جهة أخرى، ولذلك يطلق الفقه على قانون الإجراءات الجنائية أنه من القوانين المنظمة للحرية، ويضبط المشرع هذه المعادلة من خلال النص في التشريع الدستوري أو العادي على ضمانات لكفالة الحقوق والحريات اثناء ممارسة اجهزت العدالة لنشاطاتها في مواجهة المواطنين – الكلام لـ«عبد الناصر».
ومن بين تلك الضمانات «قرينة البراءة La prèsompion d'innocence»، والتي تعتبر من المبادئ التي تقوم عليها الشرعية الإجرائية ومن ثم فإنها ضمانا اساسيا للحرية الشخصية، وهي مبدءا إسلاميا قبل أن يكون مبدءا دوليا، وقد حرصت الدساتير المصرية المتعاقبة على أن تتضمنه نصوصها تأكيدا على أن احترام الحقوق والحريات من أهم القيم التي يقوم عليها المجتمع المصري وأنها اعتبار اساسي في اي اجراء قسري تقوم به السلطات العامة.
ويجد هذا المبدأ «قرينة البراءة» اساسه في أن مبدأ شريعة الجرائم العقوبات يؤكدا أن الأصل في سلوك الأفراد الإباحة والاستثناء هو المنع والتجريم، واستتباعا لذلك، يري الفقهاء الدستوريين انه ينبغي النظر إلى الإنسان بوصفه بريئا، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، ولا تنتفي هذه البراءة إلا عندما يخرج الانسان من دائرة الإباحة إلي دائرة التجريم، وهو ما لا يتقرر إلا بمقتضى حكم قضائي، فالإعتماد على الحكم وحده لدحض قرينة البراءة ينبئ على أن القضاء هو الحارس الطبيعي للحرية.
ويترتب على مبدأ «اصل البراءة» نتيجة هامة هي أن المتهم معفى من اثبات براءته ويعلق الفقه على هذه النتيجة بأنه: «اذا لم تفترض البراءة في المتهم، فإن مهمة هذا الأخير سوف تكون أكثر صعوبة لأنه يلتزم بتقديم دليل مستحيل وفقا للقواعد المنطقية، فالمتهم سوف يكون ملزما بإثبات وقائع سلبية، وهو دليل يستحيل تقديمه ويترتب على ذلك أن يصبح المتهم غير قادر على اثبات مما يؤدي الى التسليم بمسئوليته حتى ولو لم يقدم ممثل الإتهام دليلا عليه».
وقرينة البراءة بهذه المثابة ضمان هام لكفالة الحرية الشخصية ويؤثر على مضمونها سالف الإشارة، فعشوائية استخدام هذه اللفظة تضير الأشخاص اجتماعيا و نفسيا بل وأسريا خاصة في ظل نسبة الثقافة القانونية الضعيفة التي بلي بها مجتمعنا والذي ينظر إلي الشخص نظرة احتقار وسخط لمجرد دخوله قسم شرطة في استدعاء بخصوص استدلالات تجمعها رجال الضبط، بل يصل الأمر إلى اعتزال جزء من المجتمع له ونبذها التعامل معه خوفا على مكانتها في الهيئة الاجتماعية، وهذا لمجرد دخوله قسم الشرطة فقط فما بالنا بالشخص الذي يجرى معه تحقيقا أو تقرر السلطات تقييد حريته لضرورة اعمال التحقيق – الكلام لـ«عبد الناصر».
فمن غير الصحيح اذن أن نطلق لفظ متهم على شخص لم تتم مواجهته أمام القضاء بالأدلة التي توصلت إليها سلطات التحقيق على ارتكابه الأفعال المجرمة قانونا ليتولى القضاء الفصل في الدعوى الجنائية والموازنة بين ادلة الاثبات وادلة النفي، فالشخص الذي يجمع مأمورا الضبط القضائي استدلالات حوله ليست متهما وانما مشتبها فيه، والشخص الذي تتولى السلطات المختصة التحقيق معه الصحيح أنه ليس متهما وانما «محلا للفحص أو التحقيق».
وقد فطن المشرع الفرنسي إلى خطورة للمصطلحات والألفاظ انفة البيان عند اطلاق استخدامها في غير موضعها الصحيح وتأثيرها في مضمون اصل البراءة، ففي عام ٢٠٠٠ أصدر القانون رقم ٥١٦ لسنة ٢٠٠٠ تحت اسم «renforçant la protection de la presumption»، تدعيم حماية قرينة البراءة وحقوق المجني عليهم بموجبه استبدل المشرع الفرنسي، كما سلف الذكر، أي مصطلح من شأنه أن يؤثر على قرينة البراءة فأدخل على قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي مصطلحات مثل «الاحالة للفحص أو التحقيق La mise en examen» بدلا من «الإتهام Inculpation»، كما استبدل المشرع الفرنسى بمصطلح «غرفة التحقيق Chamber d'intruction» مصطلح «غرفة الإتهام Chamber d'accusation».
وجدير بالذكر في هذا المقام إلى أن المشرع الفرنسي كان يميز في المصطلحات التي تطلق على الأشخاص اللذين يجرى معهم تحقيق قضائي فيستخدم مصطلح «Inculpé» والأشخاص الذين ترفع عليهم الدعوى العمومية في جنحة أو مخالفة «Prevenu» أما اللذين يحالون إلى محكمة الجنايات فيطلق عليهم مصطلح «Accusé».
ومن نافلة القول إن القانون سالف الذكر جاء بتعديلات جد مهمة في تدعيم قرينة البراءة وحماية الحرية الشخصية من ضمنها تدعيم دور الرقابة القضائية خلال مرحلة الاستدلالات وتأكيد دور النيابة العامة في الرقابة عليها، وتأقيت مدة تنفيذ الاستدلالات، واخضاع الاستدلالات لرقابة قاضي الحريات والحبس في فرنسا، وقد جاء ايضا بتعديلات واضافات تكفل ضمانات اعلى بخصوص تفتيش مكتب المحامي في احوال التلبس، والزام الضبطية القضائية بإثبات بيانات تتعلق بسير الاستدلالات من حيث مدة سماع الأقوال وأوقات الراحة وتناول الطعام.
وفي النهاية – وفقا لـ«عبد الناصر» - يبقى أن انوه إلى أن احترام الحقوق والحريات ليس منوطا فقط بالجهات الضبط واجهزت العدالة، ولكن علينا أيضا ان نلتزم بإحترام حقوقنا وحرياتنا فيما بيننا وأن لا نساهم بصورة سلبية في هدر قرينة البراءة وتداول معلومات أو إطلاق مصطلحات أو الفاظ اي كان نوعها أو طريقة تداولها من شأنها المساس بهذا القرينة ليكون التزامنا بهذا بمثابة تعبيرنا على رقي اخلاقنا، واننا أمة لها قيم ومبادئ، كما ونهيب بالمشرع المصري بضرورة إعادة النظر في قانون الإجراءات الجنائية ليس فقط في مسألة استبدال المصطلحات رغم اهميتها كما قدمنا، وانما ضرورة العمل على رفع كفاءة اجهزت العدالة وتبسيط الإجراءات الجنائية بما يحقق السرعة والفاعلية، واستخدام تقنية المعلومات استجابة للتطور الهائل في العدالة الجنائية.