«صراع الحضارات».. نبؤة «هنتنجتون» التى ارتدت إلى الغرب
الأربعاء، 20 مارس 2019 04:00 م
فى بداية التسعينات من القرن الماضى،كتب الأمريكى الشهير والعالم السياسى البارز صموئيل هنتنجتون فى مجلة "فورين أفيرز" سلسلة مقالات تحت عنوان "صراع الحضارات".
وفق مراقبون لم تكن مقالات "صراع الحضارات" مجرد عنوان تتزين به المجلة الأمريكية الشهيرة،حيث نقل "هنتنجتون" بعد ذلك هذه المقالت إلى نظرية متكاملة الأركان فى كتابه الشهير الذى حمل نفس العنوان فى نفس الفترة، ولكنها تجاوزت بعد ذلك السطور والكلمات لتصبح بمثابة شعار لحقبة زمنية ليست بالقصيرة، تحول فيه الصراع بين المبادئ الأيديولوجية والقومية، المتمثلة فى طرفى الحرب الباردة، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، إلى صراع ثقافى بين الحضارة الإسلامية ونظيرتها الغربية، والذى بات مهيمنا على الساحة الدولية فى العقدين الأخيرين، واللذين شهدا نظام دوليا أحادى القيادة، تتزعمه الولايات المتحدة، لتصبح هى القائد الفعلى للمعركة الغربية، مع الشرق الإسلامى.
ويرى المراقبون أن المعطيات الدولية، التى شهدت تغييرا جذريا فى أعقاب الحرب الباردة، ساهمت بصورة كبيرة فى تأجيج الصراع المستحدث آنذاك، خاصة مع اندثار المبادئ الشيوعية التى تبناها الاتحاد السوفيتى، وكذلك هيمنة التيار الليبرالى على السلطة فى دول المعسكر الغربى، طيلة السنوات الماضية، وبالتالى لم يكن هناك عوائق كبيرة أمام واشنطن وحلفائها لفرض مبادئها على شعوب العالم التى ترفض الدوران فى فلكها، عبر استخدام المنظمات الدولية التى باتت تهيمن عليها بالكامل لتضفى عليها صبغة شرعية تارة، أو باستخدام القوة العسكرية لفرض كلمتها على الأرض تارة أخرى، وهو ما بدا واضحا فى الحروب التى خاضتها أمريكا وحلفائها لتغيير الأنظمة المناوئة لها، خاصة فى بداية الألفية، بعد أحداث 11 سبتمبر، سواء فى العراق أو أفغانستان تحت شعار الحرب على الإرهاب، بينما لم تجد تلك التحركات مقاومة دولية تذكر.
ويمثل السلوك الغربى العدوانى تجاه الدول الإسلامية، والذى تمثل فى استخدام القوة العسكرية، لإسقاط الأنظمة الحاكمة، بحجة الإرهاب، وما تزامن مع ذلك من حملات إعلامية أمريكية أوروبية تخدم أجندتهم الدولية، السبب الرئيسى وراء تنامى ظاهرة الإسلاموفوبيا، فى المجتمعات الغربية، وهو ما أدى إلى زيادة الحوادث الفردية والمحدودة فى السنوات الأخيرة من قبل بعض المتطرفين تجاه المواطنين المسلمين فى العديد من الدول، وهو الأمر الذى لاقى انتقادا من قبل الأنظمة الليبرالية الحاكمة، لكنه لم يتعدى مجرد بيانات الإدانة والشجب، دون اتخاذ إجراءات قوية من شأنها احتواء تلك الظاهرة، ربما حتى لا يتعارض الخطاب الدولى الذى يتبناه الساسة، مع خطابهم الداخلى، وحملاتهم الإعلامية المسعورة.
ولكن كانت السيطرة المطلقة لليبراليين على الأنظمة الداخلية فى دول الغرب بمثابة الضمانة الأخيرة لحماية، كافة الأقليات داخل المجتمعات الغربية، وعلى رأسهم المسلمين، من بطش المتطرفين، إلا أنها لم تحرك ساكنا تجاه العديد من المشكلات التى تواجههم، وعلى رأسها تنامى مشاعر الكراهية تجاههم، بالإضافة إلى تهميشهم، مما ساهم فى انضمام عدد من المتطرفين إلى الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابى، وقيامهم بعمليات إرهابية فى بلدانهم، مما ساهم فى تنامى حالة العداء تجاه المسلمين داخل تلك المجتمعات.
إلا أن المتغيرات الجديدة التى تشهدها الساحة الدولية، فى السنوات الأخيرة، ربما فرضت طابعا، وربما أبعادا جديدة على الصراع الذى أرسته نظرية هنتنجتون، خاصة مع بزوغ نجم التيارات اليمينية فى العديد من دول أوروبا الغربية، بالتزامن مع صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لتتحول دفة القيادة الدولية بعيدا عن المتشدقين بشعارات الليبرالية والديمقراطية، إلى قوى أخرى، تسعى هى الأخرى إلى الوصول للسلطة فى دولها عبر فرض رؤيتها بالقوة من خلال خطابات متشددة تجاه المخالفين لهم، ليس فقط خارج الحدود، ولكن أيضا فى الداخل، وهو ما يظهر بجلاء فى الخط المتشدد التى يتبناه اليمينيون تجاه ليس فقط المسلمين وإنما امتد إلى قطاعات أخرى داخل المجتمع من بينهم اليهود، والمواطنين من ذوى الأصول الأجنبية.
يبدو أن أبعادا جديدة باتت تشكل الصراع العالمى الجديد، ليمتزج فيه البعد القومى مع البعدين الحضارى والثقافى، خاصة مع عودة النزعة القومية للظهور من جديد فى صدارة المشهد الدولى، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الاندثار منذ نهاية الحرب الباردة، إلا أن الصراع بات يتخذ فى هذه الآونة صبغة "أهلية"، على عكس حقبة الحرب الباردة، والتى اتسمت بطبيعتها الدولية، فى ظل رغبة التيارات اليمينية فى فرض رؤيتها فى الداخل، باستخدام القوة، وهو ما يظهر بوضوح فى الحوادث الأخيرة، وأبرزها الهجوم الإرهابى الذى استهدف مسجدين بنيوزلندا، وكذلك الهجوم على أحد المساجد فى لندن، بالإضافة إلى تنامى ما يسمى بـ"معاداة السامية" فى العديد من دول أوروبا الغربية فى الآونة الأخيرة.
وهنا يمكننا القول بأن التيارات اليمينية فى الغرب اتجهت مؤخرا نحو استيراد نظرية "هنتجتون"، ولكن بعد تحديثها، لإعادة تشكيل الأنظمة الحاكمة فى الداخل، بعد أن استخدمها الليبراليون لسنوات طويلة فى نفس الغرض تجاه أنظمة الحكم الأخرى، تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، وهو ما تزامن مع حملات إعلامية حاولت إلصاق تهمة الإرهاب بالدين الإسلامى، بينما كان الهدف الرئيسى من تلك الحملات هو توجيه بوصلة الدول المناوئة لهم للدوران فى فلك المعسكر الغربى المنتصر فى الحرب الباردة، بقيادة الولايات المتحدة.
وتعد الحوادث الأخيرة امتدادا لخطوات شهدتها العديد من دول الغرب، سواء فى أوروبا أو الولايات المتحدة، تمثلت فى خطابات متشددة، تجاه المهاجرين من قبل القوى اليمينية الصاعدة لصدارة المشهد السياسى، بالإضافة إلى المظاهرات التى اتسمت بالعنف، خاصة من قبل حركة "السترات الصفراء"، والتى قامت باستخدام العنف فى شوارع فرنسا، لتحقيق مطالبها، والتى لم تقتصر على تراجع الحكومة عن خطواتها الإصلاحية، وإنما امتدت إلى المطالبة بتنحى الرئيس إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبى، وهى المطالب التى تكشف الغطاء السياسى وراء الدعوات التى تبنتها الحركة، والتى دارت فى البداية حول حماية حقوق المواطنين.