علي خليل.. أيقونة الأخلاق الرياضية
الثلاثاء، 06 نوفمبر 2018 11:08 ص
بشكل عفوي وتلقائي جدًّا فوجئت بهذا الاسم يقفز إلى ذهني ويدقّ بقوة على جدار الذاكرة، فما يحدث أمام عيني في مباراة مساء الجمعة الماضية شيء لا يُصدّقه عقل.. في عصر الاحتراف، وأمام سطوة المال وحُمّى المنافسة فوق العشب الأخضر، باتت لعبة كرة القدم ساحة للغشّ والخداع والتمثيل والعنف، وتحوّلت المُدرّجات إلى مقاعد للسبّ والقذف بالشتائم وتجريح المنافسين، بعدما كانت في الماضى وسيلة للمشاهدة والمتعة، وميادين للفوز بشرف وأخلاق الفرسان.
نعود إلى هذا اللاعب الذي يتذكّره الجيل القديم من أمثالي، كلما وقعت جريمة كروية مُخلّة بالشرف داخل الملعب، وأظنّه سيبقى أيقونة خالدة في الملاعب المصرية، وربما العربية، ورمزًا للأخلاق الكروية الحميدة، والنُّبل والشرف، حتى لو كان على حساب خسارة فريقه بطولة لا يحصل عليها كثيرًا، وليست مباراة فقط!
لا يتذكر كثيرون من لاعبي الكرة في مصر هذا الراقي في أخلاقه، والرائع في سلوكه، علي خليل، نجم مصر ونادي الزمالك في السبعينيات، وربما لا تأتي سيرته إلا مع كل حادثة لا أخلاقية في الملاعب.
الفارق شاسع والمقارنة ظالمة بين علي خليل وأي لاعب آخر، سواء من جيله أو من الأجيال التي جاءت بعده، في الأخلاق والتربية والعلاقات الإنسانية والسلوك القويم، رغم أن "علوة" - كما كان يناديه المرحوم الكابتن لطيف على سبيل التدليل - وأبناء جيله، لم يحصدوا الملايين من وراء كرة القدم، وقدّموا الكثير من البطولات للمنتخب وللنادي.
وحتى يتعرّف جيل آخر زمن على "علي خليل"، فإنه من مواليد محافظة بني سويف في العام 1952، وانتقل إلى عشقه وحبه الوحيد، نادي الزمالك، في نهاية الستينيات. وجد ابن الـ17 عاما نفسه في القاهرة بلا مسكن، فلم يكن زمن "البغددة" والاحتراف المُزيّف قد بدأ أوانه وعصره، ولم يكن النادي يُوفّر شُققًا فندقية أو مفروشة فخمة في هذا الوقت، فلم يجد علي خليل سكنًا سوى أسفل مُدرّجات النادي، وهو يلعب لفريق الأشبال تحت 20 عامًا، وأصبح نجم النجوم ولاعبًا في المنتخب قبل أن يجد له النادي سكنًا مُلائمًا للعيش، وظل وهو نجم يسكن في غرفة تحت المدرجات لمدة 4 سنوات.
أسباب كثيرة جعلتني أعشق الزمالك وأُشجّعه في سنوات مبكرة جدا، لكن أهم هذه الأسباب هو علي خليل نفسه، بأدائه في الملعب ومجهوده وحرفنته وطريقة تهديفه، والأهم أخلاقه الرفيعة داخل الملعب كما تابعتها، وخارجه كما قرأت وسمعت عنها فيما بعد.
في رأيي أن جماهير النادي العريق لم تعشق لاعبًا زملكاويًّا مثلما عشقت وأحبّت علي خليل، هدّافها الذهبي.. وللمفارقة أيضا لم تقسُ على لاعبٍ مثلما قست عليه، ومع ذلك ظلّ اللاعب الخلوق مُتمسّكًا بالتزامه الأخلاقي، وطيبته وصوفيته، فلم يتعرّض لاعب إلى ظلم من أقرانه وزملائه ومن جماهيره مثلما تعرّض علي خليل.. ومع ذلك أكرمه الله بكأس، وبجائزة تمنّاها كثيرًا وظلّت مرتبطة باسمه حتى الآن، بل لم يعد لها وجود في اتحاد كرة القدم منذ السبعينيات حتى الآن، وهي "كأس الأخلاق الرياضية".
هل يريد الجيل الجديد معرفة سبب هذه الكأس وماذا فعل علي خليل حتى يُقرّر اتحاد الكرة منحه الجائزة؟!
نعود بالذاكرة إلى الواقعة الشهيرة التي ما زال الجميع يتذكرونها، إلى موسم 78/ 79 حينما أقيمت مباراة مهمة للغاية بين الإسماعيلي والزمالك على استاد الإسماعيلية، وحال فوز الزمالك أو تعادله يفوز ببطولة الدوري، وأي نتيجة أخرى تذهب بالبطولة لغريمه الأهلي.. في المباراة الشهيرة تقدّم الإسماعيلي بهدف علي أبو جريشة في الشوط الأول، وفي الشوط الثاني يُهاجم الزمالك بكل ضراوة، وفي الدقيقة 22 يُسدّد علي خليل الكرة في اتجاه مرمى الإسماعيلي لتدخل المرمى من خارج الشباك، ويحتسب الحكم أحمد بلال الكرة هدف التعادل للزمالك.
ولكن لاعبي الإسماعيلي اعترضوا على الهدف، وكادت تحدث أزمة، وطالب علي أبو جريشة الكابتن بلال حكم المباراة بالتوجّه إلى علي خليل وسؤاله عن الهدف فالجميع لديهم ثقة كبيرة في أخلاقه وشجاعته.. لم ينتظر "علي" حتى يأتي إليه الحكم، فذهب إليه بكل تواضع، وسط دهشة وذهول الجماهير في الملعب وحول شاشات التليفزيون وأجهزة الراديو، وقال له: «الكرة مش جول يا كابتن، دي من برّه».. وألغى الحكم الهدف دون أي اعتراض من لاعبي وجماهير الزمالك، وانتهى اللقاء بفوز الإسماعيلي، وانتهى الموسم، وكان هداف الدوري علي خليل، الذى فاز بلقب اللاعب الأمين، وبكأس الأخلاق، وسجّل اسمه في تاريخ الأمانة والمنافسة الشريفة.
هذا درس في الأخلاق الرياضية، وفي النُّبل والفروسية والشجاعة الرياضية.. وهو ما بقي وسجّله التاريخ.. المسألة ليست الحصول على بطولة، حتى لو كان على حساب إهدار القيم والأخلاق الرياضية، رغم الطنطنة والتغنّي الأجوف بالمبادئ.
طوال 15 سنة لم يحصل علي خليل من الزمالك إلا على 12 ألف جنيه، ولم تُقَم له احتفالية اعتزال حتى الآن، ولم يتذكّر النادي دعوته حتى في المئوية.. يا سادة نحتاج إلى 1000 علي خليل في الملاعب، وتحية لهذا اللاعب الفذّ الذي عاد من غربته الطويلة في هدوء إلى وطنه دون أن يشعر به أحد، وندعو إلى تكريم يليق به وبتاريخه، وبأخلاقه، وهذا هو المهم.