فيضان محلّي وطوق نجاة أوروبي مثقوب.. تيريزا ماي بين مطرقة لندن وسندان بروكسل
الإثنين، 24 سبتمبر 2018 10:00 م
بينما كانت تيريزا ماي في طريقها إلى سالزبورج النمساوية، الخميس الماضي، لحضور قمة الزعماء الأوروبيين، كانت على الأرجح تُعلّق آمالا كبيرة على أن تعود بتوصية ضمنية، تُخفّف قبضة المعارضة الداخلية في لندن.. لكن هذا لم يحدث للأسف.
المعارضة الشرسة التي تواجهها خطة رئيسة الحكومة البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبي تواصل التوسّع يومًا بعد يوم، إلى حدّ أنها أوشكت أن تكون حصارًا كاملاً وخانقًا. وسط هذا التعقيد كان من الطبيعي أن تراهن "ماي" وحكومتها على قدر من القبول والتساهل الأوروبيين، بالصورة التي تُعزّز رسائلها الواضحة طوال الأسابيع الماضية، حول أنه إما القبول بخطة "تشيكرز" وترتيباتها لمغادرة الاتحاد، أو المخاطرة بالبقاء في دائرة بروكسل، واحتمال أنه لا خروج من الوحدة الأوروبية.
مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل
الهامش الوحيد الذي كان يُتيح للحكومة البريطانية منفذًا سهلاً ومأمونًا بشكل نسبي للهروب من الحصار المتصاعد في الداخل، أن تقف أوروبا موقفًا متوازنًا من خطة "تشيكرز". بين الاعتراض الجزئي الذي يُعزّز موقف تيريزا ماي وصورتها كمفاوضة ماهرة نجحت في انتزاع مكاسب كبيرة من مفاوضي الاتحاد، والقبول الجزئي في الوقت نفسه، بما يسمح بتمرير الخطة وإطفاء شُعلة المعارضة المتشدِّدة لها في لندن. القبول الكامل كان احتمالاً خطيرًا، والرفض الحاد أكثر خطرًا، والأزمة أن زعماء القارة انحازوا للخيار الأكثر خطورة، وتركوا "ماي" وحكومتها في العراء تقريبًا.
صفعة أوروبية على وجه "ماي"
ذهبت رئيسة الحكومة البريطانية إلى سالزبورج بآمال عريضة في الخروج من المحنة الداخلية، لكنها عادت بمحنة خارجية لا تقل حدّة واحتداما عمّا تواجهه مع خصومها في حزب العمال، أو منافسيها داخل حزبها "المحافظين". كان الأمر أشبه بصفعة قاسية وخاطفة من كف بسبعة وعشرين إصبعا على وجه تيريزا ماي.
في القمة التي احتضنتها النمسا الخميس الماضي، تقدم زعماء أوروبا واحدا إثر آخر، مُسجلين ملاحظات عديدة على خطة "تشيكرز" البريطانية لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وصولا إلى رفض الخطة وما تقرّه من ترتيبات. على الجانب المقابل حاول داعمو الحكومة البريطانية تصوير الأمر باعتباره انحناءة لطيفة في طريق ممهدّة ومستقيمة، وأن الأمر قابل للعبور، وما زالت الفرصة قائمة للتوصل لاتفاق خلال الشهور الستة الباقية قبل موعد الخروج.
رغم اتساع المدى الزمني للرهان على فرص أيسر للاتفاق، لا تبدو الصورة مطمئنة بشكل كامل. طوال الأسابيع الماضية كانت الحكومة البريطانية تواجه موجات رفض داخلية متصاعدة لخطة "تشيكرز"، لكنها تراهن على الدعم المتوفر محليًّا، وعلى القبول الأوروبي للخطة. الآن أصبحت الخطة طفلا لقيطا داخل بريطانيا وخارجها، ما يُعني الاقتراب بدرجة أكبر من الاحتمال الأكثر قسوة، وهو إنجاز الطلاق دون اتفاق، بما يستتبعه من عداء وترصّد بين الطرفين، لن يكون إيجابيا بالنسبة للقارة التي فقدت عضوا بارزا، أو للعضو نفسه الذي يُغامر بمزايا اقتصادية عديدة مع أكثر من عشرين شريكا.
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية
في تقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز"، قال وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت، إنه لا يستبعد تخلّي الحكومة عن خطة "تشيكرز" التي أعدتها تيريزا ماي لمغادرة الاتحاد الأوروبي، ورفضتها القمة الأوروبية قبل أيام، بجانب ما تواجهه من معارضة واسعة في الداخل البريطاني، مشيرا إلى احتمالية الاتجاه للتفاوض على صيغة تعاون تجارية شبيهة للصيغة القائمة بين الاتحاد الأوروبي وكندا. وألمح "هانت" إلى أن الموقف الأكثر تشددا يأتي من ألمانيا وفرنسا، لكن دولا أوروبية أخرى قد تتأثر بصورة كبيرة من انفصال بريطانيا عن الاتحاد، قد تبذل جهودا لإثناء المسؤولين في برلين وباريس عن مواقفهم المتشددة، سعيًا لإنجاز اتفاق مُرضٍ لكل الأطراف قبل الانفصال في نهاية مارس المقبل.
ألغام على الطريق بين لندن وبروكسل
ما يُعطّل الاتفاق هو رغبة الطرفين في إحراز أكبر قدر ممكن من المكاسب. بطبيعة الحال لا يمكن أن يخرج خصمان في حلبة مصارعة رابحين بالدرجة نفسها، لكن يُمكن تقليل الخسائر أو وضعها قيد السيطرة. لكن هذا الأمر يحتاج قدرا من التنازل والرغبة الواضحة في التوصل لاتفاق، مهما كانت نقاط الخلاف.
أبرز المحطات التي تتقاطع فيها المواقف الأوروبية والبريطانية تخص ملف الحدود الأيرلندية والعلاقة بين الشطرين الشمالي التابع للمملكة المتحدة، والجنوبي المنضوي تحت راية الوحدة الأوروبية. وهو الملف الذي يبدو معقدا فيما يخص الحدود وتدفق السلع والمنتجات. بجانب هذه النقطة يسعى كبير المفاوضين الأوروبيين، ميشال بارنييه، لإقرار اقتراحات حول تدقيق السلع المتبادلة في موانئ بعيدة عن الحدود، أو اللجوء إلى تسجيلها بشكل تقني، سعيا لتسهيل إجراءات الموافقة من الجانب البريطاني. لكن حكومة المملكة تتمسك بمواقفها المبدئي في هذا الشأن، وترى مسألة رسم حدود واضحة في البحر الأيرلندي أمرا غير مقبول.
ميشال بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي
تشدد "بارنييه" لا يبدو العقبة الوحيدة. ففي تصريح ساخن قال دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، إن نقاطا رئيسية في الخطة البريطانية للخروج من الاتحاد وطبيعة العلاقات فيما بعد الانفصال "لن تصلح". مشددا على أن القادة الأوروبيين يتبنون رؤية واحدة وموقفا موحدا من الخطة. متابعا بلهجة أكثر حدة ووضوحا: "يجب أن يكون واضحا أن هناك قضايا لسنا مُستعدين لتقديم تنازلات بشأنها". هذا الموقف الواضح يُعني أن الأيام المقبلة قد لا تحمل انفراجة في الموقف الأوروبي المتشدد، ومع احتدام المشهد وازدياد سخونته في بريطانيا، فعلى الأرجح ستذهب لندن إلى الانفصال في مارس المقبل دون اتفاق، وستسير طوال المسافة والوقت المتبقيين على طريق مرصوف بالألغام والقضايا الشائكة والملفات العالقة.
دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي
تستهدف بريطانيا في خطط ومفاوضات الانفصال التمتع بقدر أكبر من الاستقلال عقب الخروج، بما يضمن لها حرية أكبر في إنجاز اتفاقات وشراكات اقتصادية وتجارية مع شركاء آخرين. في وقت سابق حصلت على عرضين من الولايات المتحدة والصين بتدشين منطقتي تجارة حرّتين، لكن يظل الأمر مرهونا بالانفصال التام عن الاتحاد الأوروبي بالشكل الذي يضمن للشريك المستقبلي ألا تتسرّب مزايا شراكاته الاستثنائية لآخرين لا يضعهم في حساباته. وهذا الأمر يفرض على حكومة "ماي" مغادرة الاتحاد الجمركي والسوق الأوروبية الموحدة، إضافة لوضع ضوابط واضحة لحرية تنقل الأفراد والمهاجرين، ومنظومة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
الجانب الأوروبي لا يبدو منحازا للخيارات الاقتصادية فقط. بالتأكيد تظل بروكسل مشغولة بالكُلفة الاقتصادية التي ستتكبدها بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد، سواء في خسارة المساهمة البريطانية في الموازنة والأعباء المالية، أو فقدان شريك صناعي وزراعي مهم وسوق واسعة بقدرات شرائية ضخمة، لكن أكبر ما يشغل بال أوروبا ويثير انزعاجها هو أن يُسهم أي خروج ناعم ومحدود الخسائر في تغذية النزعات الانفصالية لدى اليمين المتطرف والشعوبيين في عدد من الدول، خاصة أن دعوات مشابهة لـ"بريكست" ترددت في عواصم أوروبية عدّة خلال السنوات الماضية، وسُمعت أصدائها باللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية.
مزيج من الدبلوماسية والتهديدات الناعمة
عقب الموقف الأوروبي في سالزبورج، قال وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت في تصريح لراديو BBC إن زعماء دول الاتحاد الأوروبي "يخطئون بشدة في الحكم على الشعب البريطاني إذا توقعوا إذعان بريطانيا" حتى لو كان مقابل هذا الأمر مغادرة لندن للتكتل دون التوصل لاتفاق. وفيما يبدو ردًّا على الموقفين المتشددين لفرنسا وألمانيا قال: "قد نتحلّى بالأدب، لكن لدينا نقطة نهاية، وعليهم التعامل معنا بجدية". بينما تُشير رود الفعل المتتابعة عقب قمة سالزبورج إلى تمسك باريس وبرلين بمواقفهما المتشددة.
في الوقت الذي لم تخرج فيه الحكومة البريطانية من صدمة الموقف الأوروبي القاسي في قمة النمسا، خرج نائب وزير الخارجية الألماني، مايكل روث، مؤكّدًا الموقف المتشدد للإدارة الألمانية، رغم الدبلوماسية البادية في تصريحات المستشارة أنجيلا ميركل، ومُنتقدا في الوقت نفسه إدارة الحكومة البريطانية للملف ومحاولتها فرض رؤاها على الاتحاد. وقال روث في تغريدة عبر تويتر إن دول الاتحاد الـ27 تتكبّد مشقة كبيرة بهدف التوصل لاتفاق مقنع وحلول عملية معقولة. ووصف نائب وزير الخارجية الألماني إلقاء بريطانيا اللوم على الاتحاد الأوروبي بأنه أمر "مجحف للغاية".
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
وزيرة الشؤون الأوروبية في فرنسا، ناتالي لوازو، قلّلت من آثار الانفصال البريطاني على الاتحاد وأعضائه، قائلة إن مغادرة المملكة المتحدة للمنظومة الأوروبية "لا تُعني انهيار الاتحاد". وبحسب تصريحها لإذاعة "فرانس إنفو" فإن دول الاتحاد الـ27 تريد اتفاقا جيدا مع بريطانيا، وعلاقات وطيدة في المستقبل، لكن دون أن يجور هذا عليها أو يتعارض مع مصالحها، مشددة على اتفاق الجميع على هذه الرؤية وتمسكهم بها. وألمحت في الوقت ذاته بأن الوصول للانفصال دون خيار سيكون أمرا قاسيا، ويجب الاستعداد له، وفي الوقت نفسه العمل على تجنب "ألّا تتمكن طائرة بريطانية من الهبوط في مطار فرنسي".
ناتالي لوازو وزيرة الشؤون الأوروبية في فرنسا
تيريزا ماي قالت عقب انتهاء القمة الأوروبية غير الرسمية في سالزبورج إن مفاوضات بركست تمضي "في طريق مسدود". مستطردة بأنه من غير المقبول أن يرفض زعماء الدول الأوروبية الأعضاء بالاتحاد خطتها المعروضة خلال القمة لإنجاز اتفاق الخروج. على الجانب المقابل من هذا التصريح الذي يبدو متراوحا بين صدمة الرفض، ورغبة الثأر للكرامة، ومخاوف التصعيد الداخلي، قالت الوزيرة الفرنسية ناتالي لوازو إنه لا يمكن لبريطانيا الاحتفاظ بكل المزايا التي تمتعت بها داخل المنظومة الأوروبية بعد مغادرتها، وإن عليها توقع قدرا من القيود والالتزامات الجديدة.
زعماء أوروبا في القمة غير الرسمية بالنمسا
مكاسب محتملة وخسائر مضمونة
كان الدافع الأساسي الذي قاد 17.4 مليون بريطاني للتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي الرغبة في التخلص من العبء المالي والاقتصادي للوجود داخل المنظومة الأوروبية. فمنذ تحقق الوحدة قبل أكثر من ربع القرن كان كثيرون من البريطانيين يرون الأمر ظالما لهم، ويبدو أن هذا الشعور تزايد واكتسب أنصارا جددا في السنوات التالية، ورغم إبقاء بريطانيا على عملتها المحلية "الجنيه الاسترليني" وعدم التخلص منها لصالح اليورو، ظل ملايين المواطنين يرون أنهم يخسرون بسبب الاتحاد أكثر مما يكسبون من ورائه.
هذه النظرة الطامحة في التخلص من فاتورة قاسية تكبّدتها المملكة المتحدة لسنوات لقاء استقرار أوضاع الاتحاد الأوروبي، خاصة في فترات عانت فيها بعض دول القارة من أزمات اقتصادية قاسية، وحصلت على منح ومساعدات من مؤسسات الاتحاد، بجانب مزايا عديدة تكفّلت بها الدول القوية اقتصاديا. تظل تطلّعًا متفائلا يحمله البريطانيون في قلوبهم، ربما يتحقق عقب الانفصال أو تظل الأمور على حالها نوعا ما، لكن المؤكد أن مغادرة الاتحاد قد تحمل متاعب عديدة، وخسائر مؤكدة.
رغم قوة الاقتصاد البريطاني حال وقوفه بمفرده بعيدا عن الشركاء الأوروبيين، تظل الكتلة الأوروبية أهم الشركاء التجاريين والاستثماريين للمملكة. فبحسب المؤشرات والأرقام البريطانية الرسمية تتشارك دول أوروبا قرابة 50% من حجم الاستثمار والتجارة في المملكة. لا يمكن نفي الكُلفة الباهظة للخروج البريطاني على دول أوروبية أخرى، فبحسب تحليل نشره موقع "ستاتيسا" البريطاني فإن الخسارة ستشمل معظم دول القارة، لكن الموقع نفسه قال إن اقتصاد المملكة سيخسر حوالي 3.9% من إجمالي الناتج المحلي حل مغادرة البيت الأوروبي دون اتفاق، في حين لن تتجاوز خسارة دول الاتحاد الأخرى 1.5% من نواتجها المحلية.
توقعات الخسارة تطال سوق المال البريطانية، سواء مع اهتزاز المراكز المالية لبعض الشركات في ضوء تقلص حجم أعمالها أو الأسواق النهائية لمنتجاتها، أو مواجهتها فاتورة جمركية وضريبية لم تكن في حساباتها القديمة، أو حتى انسحاب شركات عديدة هروبا من الحصار الذي سيفرضه الخروج من الاتحاد، وتقلص قدرتها على النفاذ لأسواق القارة. وربما في ضوء هذه التوقعات تبحث بورصة لندن في الوقت الراهن عددا من الخيارات المتاحة لتلافي الآثار الضاغطة للأمر، ومنها ترخيص عملياتها في دولة أوروبية، على الأرجح ستكون أيرلندا الجنوبية المتاخمة لأراضيها، وذلك بحسب ما ذكرته صحيفة "فايننشيال تايمز".
مظاهرات بريسكت
إنجاز اتفاق بشأن الترتيبات التجارية قد يضمن للمملكة ودول الاتحاد حدًّا مقبولا من الجنبين للأعباء الجمركية المترتبة على الانفصال. أي أن يظل الأمر خاضعا للتقييم الثنائي لفاتورة "بريكست" والعمل الجاد لتقليص آثارها السلبية قدر الإمكان، لكن الانفصال دون اتفاق لن يترك بدائل عديدة للاختيار من بينها، وفي الغالب ستلجأ لندن التعامل مع الجيران الأوروبيين وفق قوانين منظمة التجارة العالمية. أي بتعريفة جمركية مخفضة لا تتجاوز 1.5% على معظم السلع، ما يُعني أنها قد تظل سوقا مفتوحة أمام المنتجات الأوروبية، وقد تتقلص مكاسبها المأمولة من الانفصال. والفادح في الأمر أن هذه الآلية تتضمن فرض تعريفة مرتفعة نسبيا على بعض السلع، في مقدمتها السيارات، وهي إحدى أبرز صادرات بريطانيا للقارة (56% من إنتاجها المحلي يذهب للأسواق الأوروبية). هكذا يمكن القول إن المملكة ستكون بصدد مزيد من الأعباء، التي تذهب بالتوقعات الوردية إلى محطة التعادل بين المكاسب والخسائر، أو تُرجح كفة الخسارة.
حكومة "ماي" بين التوسّل والتهديد
الموقف الذي اتخذه زعماء أوروبا في قمة سالزبورج كان صادما لتيريزا ماي وحكومتها. بدا هذا واضحا من حديثها التالي للقمة بصيغة أقرب إلى التوسل والاستعطاف، عندما طالبت قادة الاتحاد بتطوير موقفهم من "بريكست" ومفاوضات مغادرة بلادها للمنظومة الأوروبية.
مظاهرات بريكست
خلال مأدبة العشاء التي جمعت القادة الأوروبيين في سالزبورج، وجهت تيريزا ماي ما يشبه النداء للزعماء الأوروبيين، وقالت رئيسة الحكومة البريطانية في رسالتها إن على الاتحاد الأوروبي وزعمائه التحرك، والاستعداد للتوصل إلى حلول وسط بين الجانبين بالصورة الكافية لإنجاز اتفاق بحلول القمة الأوروبية المقبلة في أكتوبر، أو في نوفمبر على أقصى تقدير، قائلة: "متفائلة بأننا بإرادة جيدة، وبقدر من التأهب، يمكننا التوصل لاتفاقية صحيحة للطرفين".
رغبة "ماي" تأتي وسط مناخ لا تتضح فيه الرؤية الأوروبية للأمر. ففي الوقت الذي تتحدث فيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن قدر من الاحترام المتبادل بين لندن وبروكسل في مفاوضات الخروج، بقولها: "في بعض المجالات هناك فرصة جيدة للتعاون"، ويتردد الأمر نفسه من مسؤولين فرنسيين، رغم تشدّد البلدين في المفاوضات. يظهر مفاوضو الاتحاد الأوروبي بصورة دبلوماسية ودودة مع المملكة المتحدة، وفي الوقت نفسه قد تشهد الأجواء صداما واضحا بين وقت وآخر، كما حدث مؤخرا بين كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ميشال بارنييه، ونظيره البريطاني. في وقت يهاجم فيه دومينيك راب، وزير بريكست بحكومة ماي، المواقف الأوروبية من المفاوضات، ويُسفّه من الآراء الداعية لإجراء استفتاء ثانٍ أو انتخابات عامة مبكرة.
دومينيك راب وزير شؤون بريكست بالحكومة البريطانية
على الجانب المقابل تتبنّى "ماي" موقفا مغايرا في الداخل البريطاني، يغيب عنه الاستعطاف أو السعي للتهدئة، ويبدو أكثر تشدّدًا وصرامة. فبحسب تقارير صحفية فإن رئيسة الحكومة البريطانية قد تتجه للدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة. هذا ما كشفته مصادر بريطانية قالت إن مساعدين لـ"ماي" بدأوا في الفترة الأخيرة دراسة الأوضاع القائمة وضع خطط طارئة للاتجاه لانتخابات مبكرة في نوفمبر، فيما يبدو أنه ليس محاولة لإنقاذ بريكست وفق رؤية زعيمة المحافظين فقط، ولكنها محاولة لإنقاذ منصبها الحكومي وزعامتها للحزب.
صحيفة "صنداي تايمز" قالت في تقرير نشرته مؤخرا، إن عضوين بارزين من فريق تيريزا ماي السياسي يعملان في الفترة الأخيرة على التحضير لانتخابات عامة مبكرة، رغبة في الهروب من المأزق الراهن بسبب تعثر مفاوضات بريكست، وسعيا لكسب مزيد من الوقت لإعداد خطة جديدة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وكسب تأييد شعبي واسع للخطة، ولحزب المحافظين وحكومته. لكن هذا المسعى الذي يبدو عقلانيا، رغم أن يتضمن تلميحا بالتصعيد والذهاب لمدى أكثر توترا، لم يُثن خصوم "ماي" ومعارضي خطتها عن معارضتهم. بل تحرّكوا باتجاه تطويرها وهو ما شهدته بلدة بولتون شمال غربي بريطانيا، بتنظيم مظاهرة حاشدة ضد خطة "تشيكرز"، تضمنت الدعوة لما أسموه "خروج نظيف من أوروبا". وجاء ذلك ضمن فعاليات حملة "أنقذوا بريكست" التي يتزعمها ديفيد ديفيز، وزير بريكست السابق في حكومة ماي، الذي استقال خلال يوليو الماضي اعتراضا على خطة رئيسة الحكومة.
ديفيد ديفيز وزير شؤون بريطانيا السابق
هذه التطورات شجعت جيرمي كوربين، زعيم حزب العمال البريطاني، على انتهاز الفرصة لتعزيز تصريحاته السابقة بشأن الدعوة لإجراء انتخابات عامة مبكرة. وقال كوربين في حديث مع BBC: "أُفضّل عقد انتخابات عامة، وبعدها سنتفاوض بشأن مستقبل العلاقة مع أوروبا، لكن دعونا ننتظر ما سيُقرّه المؤتمر العام للحزب". الأمر نفسه ركّز عليه نائب رئيس حزب العمال، توم واتسون، بقوله إن "حكومة تيريزا ماي على شفا الانهيار وقد تشهد البلاد انتخابات عامة قريبًا" موضحا في تصريحات لشبكة "سكاي نيوز" الأمريكية أن رأي الأغلبية في المؤتمر العام بمدينة ليفربول سيحسم موقف الحزب من الملف.
بين دعم الانفصال والطمع في الحكومة
في مسارٍ آخر يبدو الصراع محتدمًا بين المُضيّ قُدمًا في إنجاز عملية طلاق مؤطّرة وتحت السيطرة الكاملة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، بموجب مقررات استفتاء بريكست في صيف العام 2016، أو الذهاب إلى استحقاق شعبي جديد يُحدّد ملامح الخروج، وما يراه البريطانيون بشأن الانفصال عن أوروبا، وترتيبات العلاقات في المرحلة التالية. حتى الآن تبدو الصورة متوازنة بين الخيارين، لكن الأصوات المنادية بترتيب استفتاء جديد آخذة في التصاعد.
استفتاء بريكست
في هذا الإطار قال جون ماكدونيل، وزير الخزانة في حكومة الظل التي شكّلها حزب العمال المتزعم للمعارضة، في تصريحات صحفية اليوم الاثنين، إن مطالب حزبه الداعية لتنظيم استفتاء جديد حول ترتيبات بريكست، تُعني ضمنيًّا الذهاب إلى انتخابات عامة مُبكّرة. تصريح ماكدونيل تعكس حجم الانعطافة الكبيرة في مواقف العمال. في وقت سابق راهن مؤيدو البقاء في الاتحاد الأوروبي على الحزب في الدفع باتجاه إجراء استفتاء ثانٍ، لكن تتجه انحيازات قادة العمال في المدى الراهن لمسار آخر.
جون ماكدونيل وزير الخزانة في حكومة الظل العمالية ببريطانيا
خلال الأيام الماضية وجهت 100 دائرة انتخابية تابعة لحزب العمال عرائض ودعوات للحشد باتجاه ترتيب استفتاء ثانٍ حول بريكست، ونظم آلاف من أعضاء الحزب والموالين له مسيرة تحت شعار "تصويت الشعب" للدفع في اتجاه تغيير المسار، وتحويل موقف زعيم الحزب والمعارضة جيرمي كوربين. هذا الموقف ربما يشير إلى توترات محتملة في المؤتمر العام لـ"العمال" الذي تستضيفه مدينة ليفربول، خاصة أنه من المتوقع طرح الاقتراح للتصويت في المؤتمر غدا الثلاثاء.
جيرمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني
ينص الاقتراح على أنه "حال عدم التمكن من إجراء انتخابات عامة مبكرة، فإن على حزب العمال دعم الخيارات المتبقية على الطاولة، بما فيها إطلاق حملة من أجل التصويت العام". وفي السياق نفسه قال الوزير جون ماكدونيل في تصريحات لشبكة "آي تي في" الإخبارية، إن "تصويت الشعب الحقيقي سيكون بمثابة انتخابات عامة" مشيرا إلى أنه مع طرح قرار الاتحاد الأوروبي بشأن المفاوضات وخطة خروج بريطانيا للاستفتاء الشعبي، فسينحصر الخيار بين قبول الصفقة أو العودة إلى المفاوضات مرة أخرى، بعيدا عن خيار البقاء داخل الاتحاد.
زعيم المعارضة من جانبه بدا ثابتًا على موقفه حتى الآن. إذ أعلن في لقاء مع تليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية BBC تفضيل "العمال" السير في اتجاه الدعوة لانتخابات عامة مبكرة، بدلا من تنظيم استفتاء شعبي ثانٍ حول بريكست. في التصوّر الأول لا يبدو هذا الخيار رغبة مباشرة في إزاحة تيريزا ماي من واجهة المشهد السياسي، إذ من غير المتوقع أن تتمكن أية حكومة تالية لها في الخروج من المتاهة الحالية. حتى الآن تبدو "ماي" الأكثر دراية بالأمر وقدرة على إنجازه، لكن تصريح "كوربين" يمثّل حصارا أكثر تشددا وموجة جديدة من الضغط على الحكومة، في ضوء تعثّر المفاوضات وخطة "تشيكرز"، ومناورة "ماي" والتفافها على المطالب السياسية والشعبية بشأن ترتيبات ما بعد المغادرة وإغلاق الباب الأوروبي.
من غير المُرجّح أن يخسر حزب المحافظين أغلبيته في البرلمان. فحتى لو ذهبت بريطانيا إلى انتخابات عامة مبكرة فالأقرب للواقع أن يحتفظ "المحافظون" بالحكومة، ربما تحتدم الصراعات الداخلية بالتزامن مع هذا لتخسر "ماي" زعامة الحزب، وبالتبعية تخسر رئاسة الحكومة. لكن حتى مع حدوث هذا الأمر فغالبا لن يحوز "العمال" الأغلبية ليدخلوا 10 دونينج ستريت بحكومة جديدة لا تلتقي بشكل كافٍ مع الموقف الشعبي المتشدّد بشأن الخروج من أوروبا. والمؤكد أن الحزب وقياداته يعون هذا الأمر جيدا.
ضباب في أروقة حزب العمال
حجم التخبّط الذي تعيشه حكومة تيريزا ماي، وينعكس على حزب المحافظين ومستويات الصراع المتشابكة والمعقدة داخله، يبدو أقرب إلى مساحة متّسعة من الضباب الذي يُغلّف المشهد البريطاني بكل تفاصيله، وصولا إلى المعارضة. فرغم تصريحات رموز بحزب "العمال" ووزراء في حكومته الظلّية، وحتى تصريحات زعيمه جيريمي كوربين، تظل الصورة مشوّشة بشكل واضح.
كان "كوربين" قد أكد سابقا، بحسب تصريحات عديدة، أنه يميل إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة في ضوء فشل خطة تيريزا ماي للخروج من أوروبا، لكنه عاد في تصريحات أخرى أمس الأحد، ليؤكد بشكل واضح استعداده لقبول رأي الأغلبية العمالية في مؤتمر الحزب بليفربول، والامتثال لهم حال إقرارهم اللجوء إلى استفتاء ثانٍ حول بريكست، رغم معارضته هذا الخيار. متابعا: "سيُجري الحزب تصويتا على تنظيم استفتاء ثانٍ قبل نهاية مؤتمره الأربعاء المقبل. وسأحترم ما تقرّه الأغلبية في المؤتمر".
بالنظر إلى أن الخيارين المطروحين - تنظيم استفتاء ثانٍ أو انتخابات عامة مبكرة - لا يقودان إلى نفس الغاية، فمن غير المنطقي أن يتساوى الأمران لدى زعيم العمال وشركائه في قيادة الحزب، وحتى لو لم يكن باستطاعته إبعاد خيار التصويت على الأمر في المؤتمر، كان بالإمكان تعزيز رؤيته السابقة بشكل أكثر وضوحا. هذه المراوحة المرتبكة تشير إلى حالة من التخبط والضبابية تشبه ما تعيشه الحكومة، إضافة إلى أنها قد تكون انحيازا لرؤية قديمة كانت تدفع في اتجاه إنجاز الخروج من الاتحاد الأوروبي بأية شروط أو كُلفة حالية، ثمّ مراجعة الأمر لاحقا، في ضوء أن أغلب الالتزامات ستكون سياسية توافقية وليست قانونية أو إجبارية. هذا الملمح يُعني أن التوتر مع القارة الأوروبية قد يبدأ بعد الخروج وليس قبله، وأن ما يحدث الآن بروفة مُصغّرة لما يُمكن أن يتطور ويتضخم مستقبلا.
آراء قواعد حزب العمال تترجم حالة التخبّط البادية في تصريحات القيادات، فبحسب استطلاع رأي نشرت نتائجه صحيفة "أوبزرفر" البريطانية، وأجراه معهد يوجوف لدراسات الرأي، فإن 86% من أعضاء الحزب يؤيدون خيار الاستفتاء الثاني، في مقابل 8% فقط يعارضونه. هذا الرقم تؤكده التظاهرة الحاشدة التي شهدتها مدينة ليفربول، التي تستضيف مؤتمر "العمال" السنوي، في إطار الضغوط على زعيم الحزب جريمي كوربين لتبنّي اقتراح التصويت الشعبي. حمل الأعضاء لافتات واضحة "لم يفت الأوان" و"نحن هنا من أجل أحفادنا" و"جريمي.. انصت إلينا" ونقلت صحف ووكالات أنباء عن بعض المتظاهرين انتقادات مباشرة لموقف "كوربين" الذي يرونه منحازا لرؤيته الشخصية على حساب رؤى الأعضاء والرأي العام داخل الحزب. الأمر نفسه يتردد كثيرا على لسان عمدة لندن المنتمي للحزب، صادق خان، والكونفيدرالية النقابية "تي يو سي".
عمدة لندن صادق خان
مقابل هذا المشهد المتشدّد من القواعد العمالية، قال جريمي كوربين في تصريحات لـBBC إن قرابة 40% من أعضاء حزبه صوّتوا لصالح بريكست في صيف 2016. هذا الأمر يُعني أن 60% صوّتوا ضد الخروج أو أخذوا موقفا معاديا لفكرة الانفصال عن أوروبا. الأرقام بتقابلها الحالي لا تكفي للتعرف على موقف "العمال" الحقيقي من الأمر. خاصة بالنظر إلى تأييد الحزب لإقامة اتحاد جمركي موازٍ لنظام الجمارك الحالي مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما أعلنه متحدث الحزب لشؤون بريكست، كير ستارمر، قبل شهور من الآن.
في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية BBC في فبراير الماضي، قال "ستارمر" إن مسألة الاتحاد الجمركي شهدت توافقا بالإجماع في أروقة الحزب، مؤكدا على أن هذا الاتحاد الجديد سيكون مماثلا للنظام الجمركي المعمول به قبل مغادرة أوروبا بالقول: "هل سيكون هذا الأمر مثل الاتحاد الجمركي الحالي؟ نعم.. هذه نيتنا" لكنه تحدث عن "معاهدة جديدة" ستحكم العلاقة بين لندن وبروكسل بعد إنجاز الانفصال. وكان قد سبق هذه التصريحات إعلان الحزب في صيف العام الماضي تأييده لفكرة بقاء بريطانيا ضمن السوق الأوروبية الموحدة، استجابة لدعوة من 80 وجها بارزا بالحزب باتخاذ تدابير تسمح بالتبادل الحر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال وحركة الأفراد بين دول أوروبا والمملكة المتحدة، لفترة انتقالية عقب الانفصال، دون تحديد مدى زمني لهذه الفترة.
لعبة قديمة وحروب أكثر سخونة
في تصريحات سبقت القمة الأوروبية في سالزبورج بعدّة أيام، قالت تيريزا ماي الاثنين الماضي لـBBC إن خطة "تشيكرز" هي الخيار الوحيد للخروج من الاتحاد الأوروبي. بما فيها الإبقاء على علاقات تجارية قوية مع الاتحاد، خاصة ما يتصل برقابة محكمة العدل التابعة للاتحاد، وملف حرية تنقل الأفراد بين الدول، وإقامة منطقة تبادل حرّة للسلع والخدمات، خاصة المنتجات الزراعية والصناعية.
حديث تيريزا ماي في هذا الشأن ليس جديدا، فمنذ إعداد خطة "تشيكرز" وهي تلوّح بهذا الأمر، سواء داخل حزب المحافظين أو خلال عرض تفاصيل الخطة أمام البرلمان. ورغم أن البريطانيين اعتادوا تكرار هذه الرسالة من رئيسة الحكومة، فإن تطرق "ماي" للأمر قبل أيام من قمة مهمة مع زعماء أوروبا، يُفترض أن تحدّد ملامح المرحلة التالية وموقف الأوروبيين وبروكسل من خيارات لندن، كان سببًا مباشرا في إثارة موجة جديدة من الغضب في أوساط داعمي الانفصال الكامل والحاد عن أوروبا. خاصة داخل حزب المحافظين الذي بات دائرة مُغلقة على صراعات عديدة ومتداخلة، بشكل يُهدد بإعادة صياغة شكل الحزب وموازين القوى داخله في الفترة المقبلة.
خلال اللقاء قالت "ماي" إنها تعتقد أن "الطريق ممهدة لإحراز اتفاق جيد مع الاتحاد الأوروبي عبر المفاوضات، تمهيدا لإحالته للبرلمان لإقراره. والبديل عن هذا غياب الاتفاق، وما ينطوي عليه هذا الخيار من آثار لا يُمكن التكهّن بها" مشيرة إلى أنها تتجنب تغذية شعور المستثمرين الصناعيين باستعدادهم لمواجهة قواعد مختلفة لأن هذا الأمر سيتسبب في انسحاب شركات عديدة من البلاد. قبل أن تعود للتشديد مرة أخرى على أن خطتها هي البديل الوحيد وأفضل استجابة لرغبات البريطانيين، بالشكل الذي يُجنّب لندن الأزمة المحتملة بإقامة حدود فعلية بين قسمي أيرلندا.
موجة الغضب الجديدة على خلفية تصريحات ماي، وصلت بوزير خارجيتها السابق بوريس جونسون، الذي استقال على خلفية الصراع حول شروط الخروج من الاتحاد الأوروبي ويستعد لمنافستها على زعامة حزب المحافظين، لوصف خطة "تشيكرز" وتصريحات رئيسة الحكومة بشأنها بأنها "فُحش دستوري". وبعيدا عن موقف "جونسون" المناصر لفكرة الخروج القاسي لدرجة القطيعة الكاملة، فإن ردّ فعله على موقف "ماي" يبدو الخيار الأكثر ازدهارا حاليا في أروقة المحافظين وآخرين من السياسيين والاقتصاديين والشخصيات العامة الداعمين لـ"بريكست" دون تنازلات أو التفاف على مبدأ الطلاق الكامل.
بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني السابق
يبدو موقف "ماي" والجانب الصلب من حكومتها أقرب لإعادة إنتاج اللعبة المستمرة طيلة الشهور الماضية. لا تقدم رئيسة الحكومة البريطانية اقتراحات أو حلولا جديدة للأزمة المتفاقمة، والحصار الآخذ في الإحكام، بينما تتطوّر المعارضة المناوئة لخطة "تشيكرز" وتفاهمات تيريزا ماي مع مؤسسات الاتحاد في بروكسل. من الصعب توقع الوصول لمحطة الاستفتاء الثاني، لكن من المحتمل جدا اللجوء لانتخابات مبكرة.
مواجهة الفيضان بجسم عَارٍ
حتى الآن تبدو الحكومة البريطانية مستقرّة نوعا ما، في الوقت الذي ترتبك فيه تصريحات تيريزا ماي وخطواتها، وتجد نفسها محصورة بين الضربات المتتالية من خصومها في حزب العمال ومنافسيها في "المحافظين"، ومن متطرفي اليمين الداعمين لخروج قاسٍ ومُكلّف من الاتحاد الأوروبي، وسندان بروكسل الذي يحرسه زعماء 27 دولة، قرّروا فجأة محاصرة "ماي" وعدم السماح لها بالفكاك من موقعها المباشر تحت الضربات.
على الأرجح لن تذهب تيريزا ماي إلى انتخابات مبكرة في الأسابيع المقبلة، حتى لو كان مساعدوها بصدد إعداد خطة عملية لإنجاز هذا الأمر. ربما تفعلها مطلع العام المقبل أو عقب إنجاز الخروج من الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه قد لا يتمكن معارضوها داخل حزب المحافظين من الإطاحة بها أو إجبارها على إجراء انتخابات قريبة على زعامة الحزب. والأقرب للتوقع أن تيريزا ماي التي جاءت محمولة على موجات "بريكست" بعدما استقال رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون، الذي كان رافضا لمغادرة الاتحاد الأوروبي، ستكون في منصبها وقت مغادرة بروكسل. لكن يظل الاحتمال الأقوى أن يكون "بريكست" سبب الإطاحة بها كما كان سبب صعودها.
السياسيون داخل حزب المحافظين الذي يحوز أغلبية برلمانية بسيطة، أو في حزب العمال الذي يشكّل المعارضة ويطمح في اقتناص الأغلبية في أقرب انتخابات عامة، يعلمون جيدا أن ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون ملفًّا حارقًا، وليس من الحكمة أن يقترب منه أي وجه جديد في الوقت الراهن، ليس فقط لأنه لا يُحتمل أن يتوصل لاتفاق جيد مع بروكسل، بما يستتبعه هذا من مغادرة الاتحاد بإرادة منفردة، ولكن لأن فاتورة هذا الخيار الذي يبدو سهلاً ولا تعترضه معوقات عملية، ستكون باهظة بالصورة التي قد تُجبر أي رئيس حكومة مقبل على الشعور بالندم، وربما الذهاب إلى انتخابات مبكرة تحت ضغط الانتقادات التي سيُنتجها الوضع الاقتصادي والتجاري للمملكة حال الخروج دون اتفاق.
في التاسع والعشرين من مارس ستُمسك بريطانيا مقصًّا ضخمًا، لقطع الحبل الرابط بين لندن وبروكسل. ما لم تحدث مفاجآت في الأسابيع المقبلة سيكون هذا المقص في يد تيريزا ماي على الأغلب. عقب هذه الخطوة قد تدعو "ماي" لانتخابات مبكرة، سواء انتخابات عامة أو داخل الحزب، وأرجح الاحتمالات أنها ستفقد موقعيها، إما لصالح زعيم العمال جريمي كوربين في الانتخابات العامة، أو لصالح وزير خارجيتها السابق بوريس جونسون أو وزير داخليتها الحالي ساجد جافيد، أو غيرهما من المنافسين المتعددين، في حالة الانتخابات الداخلية على زعامة الحزب. وبدءا من الآن حتى يصل قطار "بريكست" إلى محطة النهاية، ستظل تيريزا ماي أقرب لمن يقف عاريا في مواجهة فيضان عارم، بينما يُمسك في يديه طوق نجاة مثقوبا، وينتظر ضربة مباغتة من مطرقة ثقيلة وعمياء.
بينت أنه لا يمكن للمملكة المتحدة التي تغادر الاتحاد الأوروبي أن تحصل على كل مزايا الاتحاد الأوروبي مثلما كانت الحال عندما كانت عضوا فيه، دون الأنظمة والقيود والالتزامات المطلوبة من دولة عضو