اضرب بريطانيا حتى تخاف أوروبا.. هل تدافع بروكسل عن تماسكها الهشّ على جثة لندن؟
الإثنين، 17 سبتمبر 2018 09:00 م
لم تحسم بريطانيا آلية خروجها من الاتحاد الأوروبي. يبدو الأمر مُعقّدًا في لندن وبروكسل على السواء، وهذا التعقيد بقدر ما يُهدّد ملف الخروج الناعم، فإنه يُهدّد الحكومة والاستقرار السياسي في المملكة المتحدة.
في الوقت الذي يُفترض أن تكون وجهة القطار وكامل سرعته في اتجاه مغادرة الاتحاد الأوروبي، تقف تيريزا ماي في محطة القطارات حاملة عشرات الحقائب المُكبّلة لها والمُعوّقة لحركتها، بينما ينافسها على المقعد الوحيد الخالي في القطار عدد من الوجوه التي خاضت معها صراعًا حول تحديد وجهة السفر، وقطعت تذاكر في اتجاهات أخرى غير وجهتها.
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية
المُتداول في أروقة الحكومة البريطانية وحزب المحافظين يُشير إلى حصار كبير ضربته وجوه أكثر راديكالية وتشدّدًا حول تيريزا ماي، ومن غير المرجح أن تُفلت رئيسة الحكومة المحسوبة بالكامل على "بريكست" من هذا الحصار. التوقعات تُشير إلى أن استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي حملها لمنصبها قبل أكثر من سنتين، ربما يكون هو نفسه العاصفة التي تُطيح بها، وتُخلي مكانها لوافد جديد على مقر الحكومة في 10 دونينج ستريت.
مجلس العموم البريطاني
إطاحة محتملة وضيق مُعلن
في الأسابيع الماضية تداولت الصحافة البريطانية تقارير عن اشتعال حدّة الصراع في أروقة حزب المحافظين، واستعداد عدد من الوجوه البارزة لمنافسة تيريزا ماي على منصبها. تضمنت أبرز الترشحات والتوقعات أسماء: وزيري الخارجية وبريكست المستقيلين بوريس جونسون وديفيد ديفيز، وخليفتيهما جيريمي هانت ودومينيك راب، ووزير الداخلية الحالي ساجد جافيد، ومايكل جوف، وليز تروس، والوزيرة السابقة بريتي باتل، والنائبان توم توجندهات وجاكوب ريس موج.
"ماي" من جانبها أعلنت استياءها من التكّهنات والتقارير المتواصلة فيما يتعلق بمستقبلها السياسي واحتمالات بقائها على رأس الحكومة، وقالت في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية BBC إن تناول هذه الأمور في الوقت الحالي ليس جيدا، ومن شأنه أن يخلق توترات ويعطّل الحكومة عن مهمتها الأساسية في الظرف الراهن، والمتعلقة بمفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وزير الخارجية البريطاني السابق بوريس جونسون
ونقلت صحيفة "إندبندنت" عن رئيسة الوزراء البريطانية انتقادها لتصريحات وزير خارجيتها السابق بوريس جونسون، الذي تشير التقارير الصحفية وتوقعات المتابعين إلى أنه أبرز منافسيها على زعامة المحافظين وقيادة الحكومة. وأشارت الصحيفة في تقرير نشرته مؤخرا إلى أن "ماي" أبدت قدرا من الضيق بشأن التكهنات والأحاديث المتواصلة حول اشتعال حدّة المنافسة في أروقة المحافظين. وأكدت أنها لا تنشغل بشأن مستقبلها السياسي في الوقت الراهن، قدر تركيزها على إنجاز المفاوضات وتأمين صفقة الخروج من الاتحاد الأوروبي مع الاقتراب من محطة المغادرة.
في الوقت الذي تحاول تيريزا ماي أن تبدو فيه أكثر تماسكا على صعيد الرؤية والإدارة السياسية، وأقل قلقا بشأن مستقبلها السياسي والتوقعات المحتملة لبقائها في الحكومة. تبدو الصورة ضاغطة لرئيسة الوزراء التي حملتها رياح "بريكست" إلى المنصب، بينما لا تتوفر أي إشارة قوية حتى الآن بشأن إيمانها بفكرة الطلاق من الاتحاد الأوروبي، أو انحيازها الكامل والجذري لرؤية البريطانيين بشأن إنجاز هذا الأمر. وفي ضوء الارتباك الذي يبدو مسيطرا على رؤى "ماي" وتحركاتها، تتصاعد التوقعات السلبية إزاء قدرتها على صيانة استقرار الحكومة أو موقعها داخل حزب المحافظين، وتترعرع الترجيحات الذاهبة إلى احتمال أن يُسفر الأمر عن خروجها من المشهد.
دونينج ستريت والمقر الصيفي
حينما استقال رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون من منصبه التزاما بوعد قطعه قبل استفتاء بريكست، بمغادرة الحكومة حال اختيار أغلب البريطانيين الانفصال عن أوروبا، دخلت تيريزا ماي مقر الحكومة في 10 دونينج ستريت، وكان متوقعا أن تكون مخلصة لنتائج الاستفتاء ورغبات المصوّتين، لكنها منذ اللحظة الأولى بدت وكأنها واقفة في الجانب المقابل، حتى أنها منحت خطتها للانفصال اسم المقر الصيفي للحكومة "تشيكرز". كانت هذه النقطة بمثابة إشارة غير مقصودة من "ماي" للخلافات والانشقاقات المتنامية في جسد الحكومة.
خريطة أوروبا
طوال أكثر من سنتين لم تأخذ تيريزا ماي خطوات جادة وواضحة بشأن مفاوضات الانفصال. مرت الشهور ولم تنجز لندن وبروكسل أي توافقات جادة بشأن الخروج، بينما بدت "ماي" نفسها غير متحمّسة للأمر. هذا الانحياز تسبب في تصاعد حدّة الصراعات في أروقة الحكومة، حتى وصل إلى استقالة وزيرين ووزير دولة: وزير الخارجية بوريس جونسون، ووزير بريكست ديفيد ديفيز، ووزير الدولة بوزارة الدفاع جوتو بيب. وكان التجلّي الأوضح لهذا الانحياز حينما وقفت رئيسة الحكومة أمام ملجس العموم لعرض خطتها للانفصال، قائلة بوضوح إنه إما القبول بـ"تشيكرز" أو التضحية بالخروج من الاتحاد، وإنه دون هذه الخطة فقد لا تتمكن لندن من كسر قيود بروكسل.
مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل
خرج جونسون وديفيز وبيب من الحكومة، لكن لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد. وزير الخارجية الجديد جيريمي هانت لم يبدُ راضيا طوال الوقت عن سياسات تيريزا ماي، والأمر نفسه بالنسبة لوزير بريكست الجديد دومينيك راب. بينما لم يكتف "جونسون" نفسه بالاستقالة، إذ بدأ حملة شرسة لمعارضة سياسات "ماي" وخطتها للانفصال، عزاها البعض إلى منافسته المرتقبة على زعامة المحافظين وقيادة الحكومة، لكن بعيدا عن هذا السبب فإن مواقف وزير الخارجية المستقيل أزعجت رئيسة الحكومة بشكل حقيقي.
قالت صحيفة "جارديان" البريطانية في تقرير نشرته قبل أيام، إن "جونسون" طالب نواب البرلمان بالتركيز على خطة تيريزا ماي لمغادرة الاتحاد الأوروبي أكثر من تركيزهم على "ماي" نفسها، وذلك على خلفية لقاء جمع 50 نائبا من حزب المحافظين لدراسة الإطاحة برئيسة الحكومة مع استمرار الغضب من رؤيتها للانسحاب من مؤسسات الوحدة الأوروبية. وقال جونسون: "المسألة لا تخص زعامتي أو استبدال ماي، وإنما تخص تشيكرز" وذلك بعد أيام من قوله إن خطة رئيسة الحكومة تضع حزاما ناسفا حول بريطانيا، وتضع زر تفجيره في يد بروكسل.
لم تُخف تيريزا ماي ضيقها من وزير خارجيتها السابق، فعبرت سريعا عن ضيقها مما قاله جونسون بقولها إنه "استخدم لغة غير ملائمة تماما". وفي ضوء تصاعد التكهنات بشأن اقتراب الإطاحة بها، قالت: "أشعر بالغضب بعض الشيء، لكن هذا الجدل لا يتعلق بمستقبلي، هذا النقاش يدور حول مستقبل المملكة المتحدة. هذا ما أركز عليه، ويجب أن نركز عليه جميعا. فالمهم أن نضمن صفقة جيدة من الاتحاد الأوروبي".
تشيكرز تحاول الانتصار بالفضائح
بوريس جونسون مع زوجته مارينا ويلر
رئيس بلدية لندن يفتح النار
موجة المعارضة التي تواجهها خطة "ماي" لا تتوقف عند انتقادات وزير خارجيتها المستقيل، ولا عند وجوه إعلامية وشخصيات عامة ومواطنين عاديين، وإنما تتوسع لتشمل مسؤولين تنفيذيين وسياسيين بارزين. ففي مقال نشرته صحيفة "أوبزرفر" البريطانية بدا صديق خان، رئيس بلدية لندن، معارضة قاسيا لخطة "تشيكرز" للخروج من الاتحاد الأوروبي.
في المقال انتقد "خان" إدارة تيريزا ماي لملف الخروج والمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، ودعا لترتيب استفتاء شعبي ثانٍ بشأن الأمر. وقال رئيس بلدية لندن إن المملكة تستعد لمغادرة الاتحاد خلال ستة شهور دون إنجاز اتفاق، وهذا الأمر يضعها تحت ضغط قاسٍ، وأمام خيارين سيئين بالدرجة نفسها، وهما: إما التوصل لاتفاق لا يصون مصالح بريطانيا، أو الانسحاب بدون اتفاق. المفارقة أن "خان" القيادي بحزب العمال المعارض ليس من أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي، وكان ضد "بريكست"، لكنه برر موقفه الجديد بالانحياز للإرادة الشعبية.
عمدة لندن صديق خان
في لقاء مع BBC واصل صديق خان هجومه الشرس على سياسات تيريزا ماي وإدارتها لملف بريكست. قائلا إنه من الضروري أن تكون الكلمة الحاسمة في هذا الأمر للشعب البريطاني. بينما قادت إدارة "ماي" للملف إلى استهلاك الوقت والوقوف أمام خيارين فقط، إما إنجاز اتفاق سيئ، أو الخروج بدون اتفاق، متابعا: "الخياران يبعدان مليون ميل عن الوعود المقدمة للشعب خلال حملات بريكست. ما يحدث فضح لأكاذيب ومغالطات جرى بيعها للمواطنين. ولا أعتقد أن تيريزا ماي مفوّضة للمُقامرة باقتصاد البلاد ومُقدّرات الشعب".
زعماء أوروبا يجاهرون بالعداء
على الضفة المقابلة للطموحات البريطانية، لا تبدو أوروبا صامتة إزاء الحرب الدائرة بين النخب السياسية والإعلامية في المملكة، وداخل حزب المحافظين وحكومته. تتواصل المفاوضات بين لندن ومؤسسات الاتحاد في بروكسل، لكن تتواتر مؤشرات عدّة على رغبة الاتحاد الأوروبي في إفساد صفقة الخروج، أو المناورة حتى آخر لحظة بغرض الإبقاء على بريطانيا داخل الحظيرة الجامعة.
التوجّه الأوروبي يبدو واضحا بقوة في تصريحات ميشال بارنييه، كبير المفاوضين الأوروبيين في ملف خروج بريطانيا من الاتحاد، أو جاي فيرهوفشتات، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي. لكن إذا كان موقف المفاوضين الأوروبيين مفهوما في ضوء أنهما يُمثلان مؤسسات الوحدة ورؤية بروكسل، فإن تدخل سياسيين وقادة أوروبيين في الأمر وتصريحهم المعلن بالرغبة في إفساد خروج بريطانيا من الاتحاد، ربما يكون تطورا جديدا في المشهد.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
في قمة جمعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ونظيرها النمساوي سيباستيان كورتس بالعاصمة الألمانية برلين، أمس الأحد، اتفقت ميركل وكورتس على "بذل كل الجهود الممكنة لوقف خروج بريطانيا من الاتحاد" بحسب ما نقلته صحيفة "إكسبريس" البريطانية. والمفارقة في الأمر أن هذا الحديث يأتي قبل يومين من قمة لزعماء الاتحاد الأوروبي تستضيفها سالزبرج النمساوية، الثلاثاء، لمناقشة مسار مفاوضات الانفصال مع بريطانيا وما تحقق من تقدم بشأنها، ما يُعني أن ميركل وكورتس وغيرهما من زعماء الاتحاد سيجلسون لمناقشة انسحاب بريطانيا، بينما يُضمرون في صدورهم رغبة عارمة في إفساد المفاوضات وتعطيل الانحساب.
التوافق السهل والاتفاق المستحيل
في الأسابيع الثلاثة الأخيرة هاجم وزير بريكست في حكومة الظل العمالية، كير ستارمر، 25 ورقة فنية حول الاستعدادات العملية للخروج من الاتحاد الأوروبي دون التوصل لاتفاق بين الجانبين، وهو ما تلاه ردّ من وزير بريكست الجديد، دومينيك راب، قال فيه إن فكرة التوصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي ما زالت قائمة وفي المتناول، متابعا: "أثق في أن صفقة جيدة ما زالت في المتناول، فلدينا اتفاق حول 80% من القضايا".
على عكس تصريحات "راب"، قال وزير الخارجية الجديد جيريمي هانت قبل عدة أيام، إنه من المحتمل أن يصل قطار بريكست إلى محطة الانفصال في أواخر مارس الماضي دون اتفاق، وإنه حال إنجاز الأمر بهذه الصورة فإن الآثار السلبية والتداعيات الضاغطة ستقع على عاتق المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على حدّ السواء وبالدرجة نفسها. وشدّد وزير الخارجية عقب لقاء نظيرته النمساوية كارن كنسيل في العاصمة فيينا، على أن خطر الانفصال دون اتفاق بات واضحا وواقعيا أكثر من الاحتمالات الأخرى، وسيكون في كل الأحوال خطأ سياسيًّا واستراتيجيًّا ضخمًا.
صحيفة "إيفنينج ستاندرد" البريطانية نقلت عن جيريمي هانت قوله إن على ألمانيا وفرنسا توجيه إشارة قوية للمفوضية الأوروبية بشأن مفاوضات الانفصال، خاصة أن التداعيات السلبية ستقع على عاتق الجانبين بالتساوي حال الانفصال دون اتفاق، وأية وظيفة ستخسرها بريطانيا ستوازيها بالضرورة خسارة وظيفة في أوروبا. حديث "هانت" وما سبقه من إطلاق لندن حملة واسعة لمخاطبة قادة أوروبا سعيًا لإنقاذ بريكست، تؤكدان أن المملكة المتحدة ترى في بعض دول الاتحاد عقبة في طريق إنجاز الخروج، خاصة فرنسا وألمانيا.
ميشال بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي
مجموع المواقف والتصريحات المترددة في بريطانيا وأنحاء الاتحاد الأوروبي يرسم مشهدًا أقرب إلى السلبية. فبينما يتحدث ميشال بارنييه ومسؤولو الاتحاد الأوروبي عن التقارب، وتؤكد تيريزا ماي ودومينيك راب التوافق حول كثير من تفاصيل خطة الخروج، يبدو من غير المتوقع أن يتطور هذا التوافق الظاهري الذي لا دليل عليه إلا التصريحات، ليصبح اتفاقًا حقيقيًّا يُحقق مصالح الجانبين، بالصورة التي تُرضي بروكسل وتصون مصالح لندن، والأهم لا تكون دفعة قاسية لجدار أوروبا الموحّدة، الذي يبدو مليئًا بالشروخ والتشققات.
بين الخروج الناعم والرسائل الخشنة
تتجه رغبة الاتحاد الأوروبي في الماراثون التفاوضي إلى الإبقاء على علاقات فوق طبيعية مع بريطانيا بعد مغادرتها لمؤسسات الوحدة. في وقت سابق رفض كبير المفاوضين الأوروبيين ميشال بارنييه طلبًا من الحكومة البريطانية بوضع حدود فاصلة بين الشق التابع للمملكة من أيرلندا والشق الذي سيبقى داخل الاتحاد. وهو الأمر الذي يُضاف إلى نقاط أخرى عدّة ترفضها بروكسل، تقابلها نقاط تطمع فيها ولا تُقرّ لندن هذه الأطماع.
في الشهور الماضية طالب الاتحاد الأوروبي بالبقاء مع بريطانيا تحت مظلة اقتصادية وتجارية مشتركة، بصورة تسمح بقدر من التعاون الإيجابي المميز كصيغة وسيطة بين عضوية الاتحاد والانفصال التام عنه. الرؤية البريطانية التي تبنتها تيريزا ماي في خطة "تشيكرز" تقضي بتدشين منطقة تجارة حرة مع الاتحاد في منتجات الزراعة والصناعة، ورغم أن هذا التوجه لا يبدو في صالح بريطانيا بالكُلّية، ويرى معارضو الخطة أنه يُبقي المملكة تحت رحمة بروكسل وما تقرّه من قواعد، فإن بروكسل نفسها لا تكتفي بهذه التنازلات. في الحقيقة يمكن القول إن التنازلات تطابق تطلعات أوروبا السابقة، لكن مواصلة التعنّت تُرجّح وجهة النظر القائلة إن الاتحاد يرفض الخروج الناعم، وينحاز للرسائل الخشنة.
ما يُعني بريطانيا في الملف أن تخرج بأقل فاتورة من الخسائر الاقتصادية والسياسية. بينما يسعى الاتحاد الأوروبي لأن تخرج هذه التجربة في صورة وحش مُرعب بالصورة التي تردع الشركاء الآخرين عن التفكير في الأمر أو الحنين للمسار نفسه. يمكن القول إن لندن تُراهن على مصالحها دون رغبة في الإضرار بمصالح الاتحاد، بينما تراهن بروكسل على الإضرار بلندن الصورة التي لا تجعلها نموذجًا مثاليًّا أو قدوة لغيرها من دول القارة.
وفق التصور السابق فإن المملكة المتحدة تستهدف إنجاز خروج ناعم، لا يتضمن قطيعة كاملة مع الظهير الأوروبي والجيران الودودين في القارة، حتى وإن تضمّن قطيعة اقتصادية واستقلالا نسبيًّا في التجارة والتعاملات المالية، بينما ستستميت بروكسل ومؤسساتها في استعراض العضلات والظهور في هيئة الطرف المسيطر وصاحب اليد العُليا، ولن تفوّت الفرصة لتوجيه رسائل خشنة، ستبدو للجميع أنها ستقطت في صندوق البريد البريطاني، بينما في الحقيقة تستهدف عناوين أخرى في باريس وبرلين وروما ومدريد وغيرها من عواصم القارة العجوز.
حروب صامتة وخسائر معبأة بالضجيج
حتى الآن يبدو المشهد في لندن وبروكسل هادئًا نوعًا ما، لكن في الحقيقة تشتعل العاصمتان بعديد من الحروب المتزامنة. في لندن تخوض تيريزا ماي حربا داخل الحكومة في 10 دونينج ستريت، وحربًا داخل حزب المحافظين مع المنافسين المحتملين والراغبين في الإطاحة بها، وحربا مع البرلمان الذي تمتلك فيه أقلية ضئيلة وتواجه معارضة شرسة لخططها. والأهم أنها تخوض حربًا أخرى مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والأخيرة تخوض بجانب هذه الحرب حروبا مع مجتمعات أوروبية عديدة ترى وجودها في الاتحاد أمرًا ظالمًا لها وخاصمًا من رفاهيتها، في ضوء ما تتحمله اقتصاديات دولها لصالح مؤسسات الاتحاد ودول القارة الضعيفة.
على هامش هذه الحروب التي لن يسعى أي من أطرافها لإنهائها قريبًا، أو بفاتورة مقبولة، تبدو لائحة الخسائر المحتملة لكل الأطراف قاسية. تيريزا ماي قد تخسر منصبها، ومعارضوها داخل حزب المحافظين قد يعصفون باستقرار الحزب وأغلبيته البسيطة في البرلمان. بروكسل تبني مزيدًا من الجسور والموانع النفسية مع البريطانيين، وتدفع بتشدّدها المُبالغ فيه باتجاه القطيعة الكاملة، والتي بالضرورة ستترك آثارا اقتصادية ضاغطة على الاتحاد ومؤسساته والدول الأعضاء به. والأهم أنه قد يخسر قرابة 39 مليار جنيه استرليني (44 مليار يورو) قيمة التعويضات المقرر أن تدفعها بريطانيا حال إنجاز اتفاق الخروج بصورة مُرضية ومقبولة من الجانبين.
فيما يخص بريطانيا فإنها تواجه قائمة خسائر لا تقل فداحة، في مقدمتها تأثر الشركات والكيانات الاقتصادية بتبعات الانفصال وفي مقدمتها الرسوم الجمركية، ورفض الاتحاد للسلع والمنتجات البريطانية مع تشديد الإجراءات الأمنية على المنافذ والحدود المشتركة، إضافة إلى الضغوط المالية التي دفعت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي للإبقاء على الفائدة عند مستوى 75 نقطة أساس (0.75%) وهو الأمر الذي قد يتسبب في تراجع معدلات النمو والتوظيف، وارتفاع مؤشرات البطالة والتضخم بصورة نسبية، وصولا إلى حالة من الركود الاقتصادي الناتج عن تعليق الشركات لخططها التوسعية وإنفاقها الاستثماري تحت ضغط الترقب ومتابعة التطورات، وحصار السلع البريطانية في الفترة الأولى من الانفصال وعدم توفر منافذ بديلة لها بصورة سريعة.
من الخسائر البريطانية المُحتملة أيضًا أن يفقد الجنيه الاسترليني نسبة كبيرة من قيمته، حسبما حذرت وكالة موديز للتصنيف الائتماني مؤخرا، مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية بنسبة كبيرة، وزيادة الإنفاق الحكومي في السنوات الثلاث التالية، والضغط على الإنفاق الاستهلاكي بالصورة التي تقوّض قدرة الاقتصاد على النمو وتُعطّل عجلاته عن الدوران بالوتيرة الحالية. يُضاف لهذا احتمال التراجع عن ضريبة الدخل، واختناق قطاعات السيارات والطيران والمواد الكيماوية التي تمثل التدفقات الأكبر في الاتحاد، واهتزاز قطاع التجزئة.
الأمر لا يتوقف عند الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، فمن المتوقع أن تتعطّل حركة البريطانيين وتقل قدرتهم على الانتقال السهل، في ضوء احتمال إلغاء رخصة القيادة الأوروبية لهم، وأيضا اعتبار الاتحاد الأوروبي شركات الاتصال البريطانية شركات أجنبية بالصورة التي تقفز بفواتير الاتصالات بنسبة كبيرة، قياسا على قيمتها الحالية في ضوء معاملة كل الشركات الأوروبية بالتعريفة المحلية داخل دول القارة. من المتوقع أن يشمل الأمر إلغاء جواز السفر الأحمر والعودة إلى الجواز الأزرق القديم، وفي ضوء العجز المتوقع للحكومة البريطانية عن إصدار عشرات الملايين من جوازات السفر خلال ستة شهور فإن ملايين البريطانيين لن يكونوا قادرين على السفر حال سلبهم حق حيازة الجواز الأوروبي الأحمر.
هذه المخاطر الضخمة كانت سببًا في إصدار حكومة تيريزا ماي وثائق وأوراقا فنية لتوجيه الرأي العام لقبول خطة تشيكرز للخروج من الاتحاد، وتخويفهم من رفض بنود الخطة القاضية بالإبقاء على علاقات اقتصادية ومالية مع الاتحاد، ما يُعني الخروج دون إنجاز اتفاق، وتضرر الحياة في المملكة وتعقّد أوضاع البريطانيين خارجها. هذا الأمر جرى توظيفه على نطاق واسع في حملتين خلال أبريل وأغسطس الماضيين، تحت شعار (بريكست دون صفقة - no deal brexit papers) وهو ما هاجمه معارضو تيريزا ماي وخطتها، مشددين على أنها محاولة مستميتة لإقناع الرأي العام بقبول "تشيكرز" وتجاهل الاعتراضات المفصلية بشأنها.
اضرب بريطانيا حتى تخاف أوروبا
من غير المتوقع أن يقود التعنّت الأوروبي لإفساد انسحاب بريطانيا من الاتحاد أو تجميده. المؤكد أن مؤسسات الوحدة في بروكسل تتطلع لهذا الأمر بحماس عظيم، لكنها تعرف بالضرورة أن الضغوط السياسية والشعبية في المملكة المتحدة لن تسمح بحدوثه، وستتصاعد حتى إنجاز الخروج الكامل من الاتحاد. هذه الحقيقة الواضحة تُثير سؤالا مهما حول سرّ التعنت الأوروبي والعقبات التي يختلقها الاتحاد أو يتفنن في وضعها على طريق التفاوض.
مع اختيار البريطانيين لمغادرة الاتحاد الأوروبي بعد ربع القرن تقريبا من السير الجاد على طريق تحقيق حلم الوحدة، بدا قادة الاتحاد في حالة هلع من تنامي هذه المشاعر الانفصالية في صدور الأوروبيين وعقول قادتهم. الأسابيع الأولى عقب استفتاء بريكست البريطاني شهدت تعالي الأصوات المطالبة باستنساخ التجربة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وكان مُتوقعا أن تدخل محطات أخرى على الخط مع بدء دوران العجلات الحديدية وسير القطار إلى الأمام. هذا السيناريو المحتمل كان كابوسا بالنسبة لقادة الاتحاد، وفرصة الكابوس في التحقق تزداد حال تأمين خروج ناعم لبريطانيا، لهذا فمن مصلحة بروكسل ومؤسساتها أن تتعثر المفاوضات ويتوقف القطار في منتصف الرحلة.
هذه النقطة بدت واضحة للغاية في تصريحات كبير مفاوضي البرلمان الأوروبي، جاي فيرهوفشتات، التي نقلتها صحيفة "تليجراف" البريطانية، الأسبوع الماضي، ويقول فيها إن تعثر مفاوضات خروج بريطانيا أنقذ الاتحاد من السياسيين المنحازين لفكرة مغادرة مؤسسات الوحدة وتدمير التكتل. قائلا إن "الخروج العنيف والمتعثر لبريطانيا روّع السياسيين الشعبويين في أنحاء أوروبا. لحسن الحظ أن لدينا بريكست، فقد بعث في الرأي العام روح التعلّق بالاتحاد الأوروبي مرة أخرى".
حديث "فيرهوفشتات" يُكمل موقفًا شبيهًا لكبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ميشال بارنييه، حينما هدد بريطانيا في يونيو الماضي بالخسائر الفادحة التي ستواجهها حال إصرارها على عدم الاتفاق مع بروكسل. وتضمن التهديد حرمانها من قواعد البيانات الأمنية والشُّرَطيّة للاتحاد الأوروبي عقب إنجاز بريكست ومغادرة الاتحاد. إضافة إلى خسارة إمكانية الوصول لمذكرة التوقيف الأوروبية، وأن ممثّليها لن يكون لهم دور في إدارة بعض المؤسسات الحيوية، مثل الوكالة الأوروبية للشؤون القضائية "يوروجست" ووكالة الشرطة الأوروبية "يوروبول".
اجتماع للحكومة البريطانية
رغم تطلعات الحكومة البريطانية لإنجاز اتفاق مع الاتحاد الأوروبي بحلول أكتوبر أو نوفمبر، لا تبدو الفكرة منطقية أو قابلة للتحقق، في الغالب ستصل لندن إلى محطة الانفصال في التاسع والعشرين من مارس المقبل دون إنجاز الاتفاق. لن تدفع التعويضات الضخمة التي تعهدت بها، وقد تخسر مزايا مواطنيها في السفر وقيادة السيارات وتعريفة الاتصالات وعدة أمور أخرى. وسيخسر الاتحاد الأوروبي أيضًا على صعيد الاقتصاد، لكنه سيكسب على أصعدة أخرى.
تيريزا ماي قد تتقدم طابور الخاسرين. الخروج وفق خطتها الحاملة لاسم المقر الصيفي للحكومة "تشيكرز" لن يُنهي الهجوم الحادّ الموجه لها من خصومها في حزب المحافظين وخارجه، والخروج دون اتفاق سيكون فشلاً واضحًا لا يقبل أيّة تسمية أخرى. وفي الوقت الذي اجتمع فيه 50 نائبًا محافظًا قبل أيام لبحث الإطاحة بها وترتيبات المرحلة التالية لهذا الإجراء وطبيعة المرشحين لخلافتها، تنص لوائح حزب المحافظين على إجراء انتخابات على زعامة الحزب حال مطالبة 15% من نوابه (48 نائبا تقريبا من إجمالي نوابه الـ318) التصويت على سحب الثقة. قد يلجأ النواب الخمسون لهذا الإجراء الذي يُجبر تيريزا ماي على الدعوة لانتخابات مبكرة على زعامة الحزب، وبالتبعية على رئاسة الحكومة، وقد يقودها هذا المشهد الضاغط للمبادرة بهذا الأمر قبل مواجهته بشكل اضطراري. تقارير عدّة في الأسابيع الماضية أشارت إلى نيّتها الدعوة لانتخابات عقب إنجاز الخروج من الاتحاد في مارس، سواء نجحت في الخروج باتفاق لصالح المملكة أو أخفقت.
يبدو الاتحاد الأوروبي مرعوبًا من مخاوف تقويض الوحدة. تحرّكاته الساعية لحصار تطلعات بريطانيا في الانفصال تشير إلى خوف عميق من تكرار التجربة، أو نمو التطلعات الانفصالية في زوايا جغرافية أخرى، وداخل صدور أوروبيين آخرين. هذا الشعور سيكون وقودًا كافيًا لأن يواصل الاتحاد ضغوطه لتقويض طموحات لندن، لكنه سيظل دليلا عميقًا على الشروخ الغائرة في جسد الاتحاد، وعلى إحساس مسؤوليه بأن الروابط الجامعة للشركاء ليست متينة بما يكفي لصيانة البناء، وأن الاستقرار الذي تعيشه القارة استقرار هشّ ومصنوع، يمكن أن يتبدّد ما لم يشعر الشركاء بقسوة الخيار البديل.
ربما تعلم تيريزا ماي أكثر من غيرها أن أفق التوصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بات غائمًا، وأن أيامها في دونينج ستريت ربما باتت معدودة. لكن إصرارها على إنجاز الخروج من الاتحاد بخطة "تشيكرز" المرفوضة سياسيًّا وشعبيًّا يبدو أمرًا غريبًا، تبعات الخروج دون اتفاق خطيرة، وفي الوقت نفسه لا يقل الخروج باتفاق مشوّه خطورة عن هذا. والأخطر أن تركب "ماي" قطارًا تعلم أنه لن يتوقف في المحطة التي تقصدها، فهذا الأمر لا معنى له إلا قناعة رئيسة الحكومة البريطانية الضمنية بغاية الاتحاد الأوروبي المكتومة، وأنها تُردّد بصوت خفيض خلف بروكسل وميشال بارنييه "اضرب بريطانيا حتى تخاف أوروبا".