محفظة ضخمة وفائدة ضاغطة.. هل تدعم البنوك التنمية أم تمتص السيولة من السوق؟
الأربعاء، 25 يوليو 2018 02:49 محازم حسين
ضمن حزمة الأرقام والمؤشرات التي يمكن استقراؤها لقياس حالة اقتصاد ما، ومستوى أدائه، والطفرات أو التراجعات التي يشهدها، يأتي معدل الادخار كأحد العوامل المهمة التي تشير إلى قوة المنظومة الاقتصادية، والقدرة على توفير ملاءة مالية مساندة لعمليات التنمية، والأهم الإشارة إلى حجم السيولة وتدفقات الأموال في السوق المحلية ومستويات المعيشة لقطاعات واسعة من السكان.
أهمية هذا المؤشر يمكن استكشافها بالنظر إلى أن الطفرة الاقتصادية التي حققتها الصين (الاقتصاد الثاني عالميا حاليا والسادس قبل أقل من 20 سنة) تأسّست منذ خطواتها الأولى على حزمة من الأمور: منظومة اقتصادية واضحة تشريعيا وتنفيذيا، سوق صناعية تنافسية وقابلة للتنامي المُستدام، برنامج رعاية اجتماعية جزئي ومتوازن في تحميل الأعباء، والأهم أجور جيدة ومعدلات تضخم تحت السيطرة (عبر التحكم في سعر العملة بآلية سعر الصرف المُدار) ما يضمن مستوى معيشة جيدة بكُلفة أقل، وبالتبعية معدلات ادخار جيدة ومتنامية.
انطلقت الصين في سبعينيات القرن الماضي، بعد مرحلة معاناة مع الثورة الثقافية التي امتدت عشر سنوات، لتحقق معدل نموّ قياسي بنسبة 13%، وحافظت عليه أو على مستويات قريبة منه لأكثر من عقدين، مستندة إلى معدلات ادخار تراوحت بين 30 و40% في أغلب هذه السنوات، ما عزّز من أحجام المحافظ المصرفية وقدرتها على توفير ملاءة مالية لقطاع الإقراض والتمويل الصناعي، بشكل دفع عجلة التنمية في اتجاه طردي متصاعد.
المحافظ البنكية وفرص النمو
يمكن القول إن أي تنامٍ في المحافظ المصرفية يُعني فرصًا أكبر للنموّ، شريطة توفّر آليات سهلة ومُيسّرة للإقراض، والحفاظ على سعر فائدة غير تنافسي بالنسبة للعوائد الصناعية والاستثمارية، بشكل يُدير الفوائص المالية المتراكمة في محافظ البنوك داخل المنظومة الاقتصادية، ويدفع في اتجاه تعزيز معدلات النموّ.
الوجه الآخر من الصورة قد يُشير إلى أن معدلات النمو في حجم المحافظ البنكية تعكس أزمة هيكلية في السوق، ترتبط بمعدل التخضم وتناميه، ما يدفع الجهات المسؤولة لتحريك سعر الفائدة صعودا، لتوفير ملاذ استثماري مُغرٍ للفوائض المالية المتاحة، وامتصاص السيولة من السوق بالدرجة التي تُعيد لها الانضباط وتقود التضخم في اتجاه تنازلي.
بين الصورتين تحتاج إدارة القدرات المالية لعناصر السوق إلى قدر من التوازن، يسمح بالإبقاء على معدلات الفائدة في معدلات تنافسية، وفي الوقت نفسه ضمان التكافؤ بين المتاح النقدي والمعروض السلعي، بما لا يخلق موجات تضخمية، ولا يهدد مستقبلا بتطور الأمور إلى ركود تضخمي، تتنامى فيه الأسعار مع تراجع حجم السوق والدخول في موجات انكماشية.
ثروة أم شمول مالي؟
لا يمكن الجزم بشكل قاطع في مسألة معدل الادخار في مصر، وهل القفزات الواسعة في إجمالي الودائع البنكية تُشير إلى ادخار مرتفع، أم إلى تآكل نسبي في حصة السوق غير الرسمية، مقابل تقدم جيد للسوق الرسمية، لكنه تقدم لا يحمل إشارات إيجابية أو فرصًا تنموية في ذاته.
تشير تقديرات اقتصادية عديدة إلى أن السوق غير الرسمية في مصر تقترب من 40% من إجمالي حجم الاقتصاد، ما يُعني أن جانبا كبيرا من رؤوس الأموال والعوائد خارج منظومة الضبط والرقابة، وهذه النقطة تحديدا كان السبب المباشر في إطلاق البنك المركزي ووزارة المالية مبادرة الشمول المالي، وتبنيها من البنوك العاملة في مصر.
يرى متابعون وخبراء اقتصاد أن مبادرة الشمول المالي حققت نجاحا ملموسا في الشهور الماضية منذ إطلاقها، ويقرؤون القفزات المتلاحقة في حجم المحافظ المصرفية في هذا الإطار، وآخرها نموّ ودائع الأفراد والمؤسسات الحكومية 442 مليار دولار في الشهور التسعة الأخيرة، مسجّلة 3 تريليونات و484 مليار جنيه بنهاية مارس مقابل 3 تريليونات و42 مليار جنيه بنهاية يونيو 2017، بحسب ما أورده تقرير حديث للبنك المركزي.
يمكن النظر لهذه القفزة الكبيرة (تبلغ نسبتها 14.52% من إجمالي الودائع قبل تسعة شهور) باعتبارها مؤشرا على انضباط الأداء المالي للسوق، وتنامي معدل الادخار مدعوما بعوائد الاستثمارات والمهن الحرّة التي لم تتأثر ببرنامج الإصلاح الاقتصادي وترشيد الدعم، لكن في الوقت نفسه لا يمكن نفي أن يكون الأمر ترجمة لدمج لجهود دمج حصص من الاقتصاد غير الرسمي، وبعيدا عن السبب المباشر فإن هذا النمو الكبير في الودائع قد يُشكل نظيريا فرصة كبيرة لدفع الاستثمار وخطط التنمية للأمام، شريطة ألا تعترض طريقه عوائق مالية تُقلّص أثره الإيجابي.
دواء "الفائدة" المر
في وقت سابق اضطر البنك المركزي المصري للهروب من الآثار التضخمية لتحرير سعر الصرف، عبر رفع أسعار الفائدة، حتى يضمن توجيه الفوائض المالية للمحافظ البنكية وتقليص مخاطر تضخم المعروض النقدي. نجح البنك في هذه المهمة، لكنه شكّل ضغطا نسبيا على محافظ الودائع وحبس نسبة كبيرة منها عن التداول، بسبب كُلفة الاقتراض المرتفعة وتجاوزها لمعدلات الربح ودوران رأس المال التي توفرها أغلب المشروعات الاستثمارية والصناعية.
ورغم تخفيض البنك المركزي لسعر الفائدة ثلاث مرات متتالية، وتثبيتها خلال الشهور الأخيرة، فإنها ما زالت مرتفعة بدرجة كبيرة (المستوى الحالي 17.25%) وهو ما يرفع فاتورة الاقتراض، ويدفع كثيرين من المستثمرين للتراجع عن الدخول في أنشطة جديدة، أو تطوير أنشطتهم القائمة، في ضوء الكُلفة الباهظة التي يمكن أن يتكبّدوها بسبب مستويات الفائدة الحالية.
يمكن النظر للأزمة التي توجهها البنوك في ضوء مقارنة محافظها الائتمانية بمحافظ الودائع، ففي وقت سجلت فيه الأخيرة 3 تريليونات و484 مليار جنيه بنهاية مارس 2018، سجل إجمالي القروض تريلونا و530 مليار جنيه في الفترة نفسها، بواقع 45% للقروض من إجمالي الودائع.
رغم أن توازن الملاءة المالية للقطاع المصرفي تقتضي أن تتجاوز الودائع إجمالي المحفظة الائتمانية، بشكل يوفر لها سيولة مالية وقدرة جيدة على التدخل العاجل والتعامل مع تطورات السوق وأسعار الصرف، فإن بقاء التوازن عند مستوى 45%، مع تكلفة خدمة باهظة للودائع بسبب معدلات الفائدة المرتفعة، فإن البنوك تواجه ضغطا يحدّ من قدرتها على تحقيق مزيد من النمو، والسوق تواجه ضغطا بسبب عدم قدرة القطاع المصرفي على منح مزايا ائتمانية محفزة على الاقتراض.
لا شكّ في أن التعامل مع الآثار الضاغطة لقرار تحرير سعر الصرف، وما نتج عنه من تضخم للمعروض النقدي، كان يقتضي رفع سعر الفائدة لامتصاص فوائض السيولة المالية وتجنب موجات التضخم الحادة، أو دوامة الركود التضخمي المحتملة، لكن الأثر الجانبي لهذا الدواء المر أن البنوك أصبحت وسيلة لجني الأرباح السهلة بالنسبة للمودعين، في وقت تعجز فيه هي نفسها عن إدارة هذه المحافظ الضخمة لتحقيق أرباح مكافئة للأعباء المالية، أو تقديم مزايا وتسهيلات للقطاع الاستثماري بشكل يدعم النمو ويُغذي السوق بوظائف وإنفاق وادخار أعلى، بشكل يعود على البنوك نفسها بفوائد لاحقة في المديين المتوسط والطويل.
قليل من التضخم لا يضر
الوصول إلى توازن كامل لحالة السوق، بين معدلات فائدة حافزة للنمو، ومستويات تضخم غير ضاغطة على التدفقات المالية ومعدلات الادخار ومستويات المعيشة، ليس أمرا سهلا، لكنه ليس مستحيلا.
يحتاج الجهاز المصرفي لدفعة إيجابية لتنشيط رواكده المالية ومساعدته على ضخ نسبة من محفظة ودائعه في سوق الائتمان، بشكل يُغذّي القطاع الاستثماري ويُعظّم عوائد المصارف، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يتخلى عن يده العليا المهيمنة على السوق، في إطار المراقبة المتواصلة لمعدلات التضخم وأثر الفوائض النقدية أو مخاطر الاتجاهات الانكماشية.. والأمر ربما يحتاج قدرا من المغامرة.
في الفترة الأخيرة نجحت الجهات المسؤولة في إدارة معدل التضخم بشكل إيجابي، والوصول به لمستويات مطمئنة، رغم قرارات البنك المركزي بتخفيض الفائدة 3% عن مستوياتها وقت قرار تحرير سعر الصرف، وهذا الأمر قد يحمل إشارة إيجابية بأن النزول بأسعار الفائدة لمستويات أدنى من الحالي لن بالضرورة سببا مباشرا في دفع معدلات التضخم للأمام.
يُضاف لهذا البُعد أن ما أنجزه برنامج الإصلاح الاقتصادي أعاد تسعير كثير من السلع والخدمات، بشكل قلّص من فاتورة الدعم وما تتحمّله الدولة من أعباء، وامتص قدرا من المعروض النقدي، وحتى يتواصل هذا التوازن ولا يدخل السوق في دوامة الركود، فإنه يحتاج لتعظيم مؤشرات الاستثمار والتنمية ومعدلات خلق وظائف جديدة، لتزويد السوق بسلع ومستهلكين جُدد، وهو ما يقتضي التخلّي عن الحساسية والتحفظ الحاليين في إدارة المنظومة المالية.
قد لا يكون مُضرا بالمرة أن يظل معدل التضخم في مستواه الحالي، أو يقفز نقطتين مئويتين للأعلى، مقابل أن يكون لدينا سعر فائدة جيد لتحفيز المستثمرين على تطوير أنشطتهم وتوسيعها، وهذه الأنشطة نفسها ستتكفل بامتصاص فوائض السيولة.