عمائم على فوهات البنادق.. أمريكا تهدد وأوروبا ترتعش وإيران تمضي إلى المجهول
الثلاثاء، 10 يوليو 2018 07:00 م
لا أحد تقريبا يمكنه توقع إلى أين تتجه بوصلة الولايات المتحدة الأمريكية، بالتأكيد يظل الأمور محكوما برؤيتها لمصالحها، لكن المشكلة أن هذه المصلحة نفسها دائمة التبدل بشكل قد يستعصي على الفهم.
في إدارة باراك أوباما رأت واشنطن مصلحتها في التقارب مع طهران، فوقعت الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، لتأتي إدارة دونالد ترامب وترى المصلحة في اتجاه آخر، فتقرر الخروج من الاتفاق.
بحجم المساحة الشاسعة بين الخيارين السابقين، تسير كثير من ملفات الولايات المتحدة الأمريكية، ففي سوريا مثلا بدأت رحلتها بدعم الميليشيات الإسلامية والتيارات القريبة من تنظيم داعش والمتحالفة معه، قبل أن تتخلى عنها، أو تنقلب عليها، وصولا إلى اقترابها من إخلاء مواقعها ومغادرة الأراضي السورية.
في اليمن دعمت واشنطن الرئيس علي عبد الله صالح سنوات طويلة، ثم وقفت ضده، ثم دعمته خلفه عبد ربه منصور هادي، ثم ابتعدت عن الملف مدّعية الحياد، في صيغة يمكن اعتبارها دعما ضمنيا غير مباشر للميليشيات الحوثية، التي يخوض الحليف المقرب "التحالف العربي" صراعا عنيفا معها على امتداد محاور اليمن.
إذا كانت ميليشيات الحوثيين التي لا تواجه موقفا واضحا وحاسما من البيت الأبيض، تمثل الذراع الإيرانية المباشرة في الملف اليمني، فيمكن القول إن الولايات المتحدة لا ترى مشكلة في تمدد الدولة الفارسية في المنطقة، واشتباكها مع ملفاتها الساخنة، لكن التناقض يطل برأسه وتتصاعد حدّته، مع النظر لموقفها من إيران في الملف السوري.
في تصريحات أخيرة، طالب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، العناصر الإيرانية الحاضرة على ملعب الصراع في سوريا، بمغاجرة الأراضي السورية بشكل عاجل، مشددا عل ى أنه لا ضرورة لوجودهم.
"سكاي نيوز" نقلت عن الوزير الأمريكي قوله، إن النظام الإيراني يتورط في "ممارسات خبيثة ستكلفه ثمنًا باهظا، فما يجري جنوبي سوريا وضع صعب للغاية" داعيا كل الأطراف للعمل على التوصل لحلول سياسية تحترم الصيغة التعددية المتنوعة للمجتمع السوري.
رغم تأكيد "بومبيو" اهتمام واشنطن بالعمل على تهيئة ظروف موضوعية داعمة لعملية التوصل لحلول سياسية، فإن مطالبته بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، في الوقت الذي يتجاهل فيه الوجود التركي، وتصعيده في الهجوم على روسيا، رغم أن احتمالات استقامة المعادلة في غياب موسكو تبدو احتمالات صفرية تماما.
وزير الخارجية الأمريكي اتهم روسيا في تصريحاته الساخنة بخرق الاتفاق الخاص بمناطق خفض التصعيد جنوبي سوريا، بينما على الجانب المقابل قالت روسيا إن تحركاتها كانت في ضوء مسؤوليات إنسانية، أو حسبما أعلن مركز المصالحة الروسي بين الأطراف المتنازعة، أن الجنود الروس "أرسلوا مساعدات إنسانية لسكان بلدة المطية أقصى جنوبي سوريا، المنضمة مؤخرا لعملية المصالحة في إقليم درعا".
الجانب الروسي كشف أيضا عن أزمة إنسانية تعانيها بعض أرجاء منطقة خفض التصعيد جنوبي سوريا، في ضوء "رفض المسلحين وصول المساعدات الإنسانية للمناطق الخاضعة لسيطرتهم منذ أعوام" بحسب ما نقلته وكالة "تاس" الروسية، وهو الأمر الذي لم يُشر إليه وزير الخارجية الأمريكي بأي صورة من الصور.
التصريحات الأمريكية الحادة تجاه الوجود الإيراني في سوريا، يبدو أنها نتاج حالة التنازع القائمة موسكو وواشنطن، وما يدعم هذا التصور أن الحدة الأمريكية تجاه طهران على الصعيد السوري، يقابلها صمت تام تجاه الوجود الإيراني في اليمن، ربما في ضوء تعقد شبكة التحالفات الإيرانية الحوثية، ودخول قطر وتركيا على خط الصراع، ما يُعني حضورا مباشرا للأجندة الأمريكية على لائحة الشيعة اليمنيين.
قد تبدو الصورة إلى هذا الحد منطقية، فالمصالح الأمريكية ترفض توسع النفوذ الإيراني في سوريا، لكنها لا تصطدم اصطداما عميقا بهذا الوجود في اليمن، وربما يمكن خلق حالة من التوازن الحرج بين الموقفين، لا يمنح طهران مزيدا من المكاسب في دمشق، ولا يكبد واشنطن كثيرا من الخسائر في صنعاء، لكن يزداد الأمر تعقيدا ويختل ميزان التوازن الحرج بالنظر إلى التصعيد الأمريكي تجاه طهران على صعيد آخر.
كان "ترامب" قد أكد عقب قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي في مايو الماضي، اعتزام البيت الأبيض فرض حزمة عقوبات اقتصادية وعسكرية على النظام الإيراني، وخلال الأسابيع الماضية تواترت التصريحات والحروب الدعائية المتبادلة، حتى أعلن الرئيس الأمريكي فرض قيود على صادرات النفط الإيراني اعتبارا من نوفمبر المقبل.
القرار الأمريكي جاء في خضم حالة من الاشتعال تشهدها أسواق النفط، وقتها كانت "أوبك" تواصل تنفيذ قرارها السابق بتقليص الإنتاج اليومي 1.8 مليون برميل، ويتنازع الأعضاء والحلفاء من الخارج بين وجهتي نظر متقابلتين، إحداهما تبنتها السعودية وروسيا بزيادة الإنتاج، والثانية تبنتها دول كبرى داخل المنظمة بالإبقاء على خفض الإنتاج.
لاحقا تراجعت "أوبك" جزئيا عن قرار تقليص الإنتاج، بزيادة الضخ مليون برميل يوميا، بينما ضغط الولايات المتحدة لضمان مزيد من الضخ، في الوقت الذي أعلنت فيه عقوباتها المرتقبة ضد طهران، التي قد تطيح بما بين مليونين وثلاثة ملايين برميل يوميا، بينما هددت إيران باتخاذ خطوات جادة وعنيفة حال تقدم أي من شركاء أوبك بتعويض تدفقات النفط الإيراني، أولها الانسحاب من المنظمة.
في تصريحاتها الدفاعية قللت إيران من تأثيرات العقوبات الأمريكية المرتقبة تجاهها، وهو ما رآه متابعون للملف تعبيرا عن حجم الخبرة الإيرانية في التحايل على العقوبات وضمان استمرار تدفقات النفط للأسواق العالمية رغم دوائر الحظر الأمريكية، لكن الأيام التالية شهدت تراجعا إيرانيا، أو تصريحات مغايرة، بتأكيد مسؤولين إيرانيين أن العقوبات ستكون قاسية.
ما قاله الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام حول محدودية تأثير العقوبات الأمريكية، نسفه نائبه إسحق جهانكيري، الذي قال بشكل صريح إنه "من الخطأ اعتقاد أن العقوبات الأمريكية الجديدة على طهران لن تؤثر على اقتصادها، خاصة بعدما بدأت واشنطن حربا تجارية مع الصين وحلفائها الأوروبيين"، مشيرا في الوقت ذاته إلى أنه بلاده "ستبيع أكبر قدر ممكن من النفط رغم الجهود الأمريكية لوقف الصادرات".
بجانب البُعد الاقتصادي ما زال ملف الاتفاق النووي حاضرا على الطاولة، فانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية لم يقض على الاتفاق تماما، كل ما في الأمر أنه خسر طرفا من ستة أطراف، وعقب مغادرة واشنطن ما زالت هناك خمسة دول كبرى تحتفظ بالاتفاق مع إيران، بينما تضغط الولايات المتحدة بقوة لإجبار هذه الدول على إطلاق رصاصة قاتلة على الاتفاق.
وسط هذه الاستقطابات بات الحفاظ على الاتفاق النووي مرهونا بالإبقاء على أكبر مساحة ممكنة من التواصل الإيجابي الفعال بين إيران والقوى الكبرى، وليس انجراف إيران باتجاه توريط أوروبا في صراع مباشر مع الولايات المتحدة، أو الانطلاق من فرضية أن بإمكانها النفخ في نار القارة العجوز والرهان على أن تحترق يد واشنطن.
هذا الرهان الذي يبدو ساذجا انحازت إليه الدولة الإيرانية بشكل رسمي، وجاء على لسان رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية الإيرانية، كمال خرازي، في لقاء جمعه بوزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر، قال فيه إن "التزام ايران بالاتفاق النووي مرهون باستراتيجية أوروبا بشأن مواجهة العقوبات الامريكية، فإيران لن تبقى ضمن الاتفاق النووي إذا لم يحقق مصالحها".
بالتأكيد لا يمكن اعتبار خطاب القائد العسكري الإيراني رسالة مباشرة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وربما لا تحب طهران أن توجه مثل هذه الرسالة للخارج بشكل مباشر، وحضور الأمر على لسان ضابط متوسط الرتبة في احتفال صغير بمدينة صغيرة، يعني أن هذا الحديث رسالة داخلية بالأساس، ربما لترهيب المعارضين أو تثبيت المؤيدين، لكن المؤكد أن هذه الرسالة ستُحدث أثرا خارجيا في كل الأحوال، حتى لو كانت موجهة للداخل.
ربما يكون تعليق حلف شمال الأطلنطي "ناتو" على النشاط العسكري الإيراني وفكرة الجاهزية تعبيرا مباشرا عن هذا الأثر، حتى لو لم يكن هناك رابط مع حديث "ساماني"، فأن يوقل ينس ستولتنبرج، الأمين العام للحلف، إن "الصواريخ الباليستية الإيرانية مصدر قلق للحلف. وطهران ما زالت تطور وتختبر صواريخ أكثر قوة يمكنها أن تصل إلى حلفاء الناتو الأوروبيين. وسيواصل الحلف تطوير قدراته الدفاعية لحماية حلفائه من التهديد المتزايد لتلك الصواريخ"، يُعني أن التمدد المتنامي في قوة إيران وتطلعاتها، لا يغيب عن أنظار القوى الكبرى، وقلق "الناتو" قد يكون إشارة مباشرة لقلق وانشغال واشنطن بالأمر.
الشهور المقبلة لن تكون هادئة لكل الأطراف، الولايات المتحدة دخلت حربا تجارية قد لا تضع أوزارها قريبا، أوروبا ستتأثر بالأمر، والملفات الإقليمية الساخنة تتجه للتصفية، سواء بسيطرة الجيش السوري على الأوضاع، أو تآكل الحضور الحوثي أمام المؤسسات اليمنية الرسمية. كل التفاصيل تشير إلى مزيد من الانحسار وخسارة إيران لأوراق اللعب.
قد لا تجتمع واشنطن وطهران على طاولة واحدة قريبا، وقتها لا حاجة لأي من الطرفين لأوراق اللعب والضغط، سيمضي كل منهما في السيناريو الذي رسمه لنفسه، وستتوقف النتائج على القدرات وإمكانات المناورة، لكن الاحتمال الأقرب للتحقق أن عمائم الملالي التي وضعها النظام الإيراني أعلى فوهات البنادق، قد لا تتمكن من الحفاظ على استقرارها طويلا فوق بنادقها، إما لتطور الحرب وتطاير الرصاص، أو لسقوط هذه البنادق تحت أقدام الميليشيات الإيرانية المغادرة لسوريا واليمن.