ضغوط برلمانية على تيريزا ماي.. قطار «بريكست» يواصل رحلته نحو دهس القارة العجوز
الإثنين، 02 يوليو 2018 05:00 م
قبل ستة أيام تقريبا اعتمدت الملكة إليزابيث الثانية قانون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، المعروف باسم "بريكست"، بعد شهور من موافقة البريطانيين على الخروج في الاستفتاء الذي جرى منتصف 2016.
منذ إجراء الاستفتاء قبل سنتين من الآن، وتحديدا في الثالث والعشرين من يونيو 2016، وحالة الجدل مشتعلة بشأن الخروج البريطاني المرتقب وآثاره الاقتصادية على لندن والقارة العجوز، ويتخطى الجدل حدود المملكة المتحدة ليشغل دول الاتحاد وعواصمه الكبرى.
على الصعيد البريطاني المحلي فإن الأمر يشهد تذبذبا في المواقف، بين ملاحظات من حزب العمال على فكرة الخروج وإجراءاتها، وتحذيرات متواصلة من الآثار، وضغوط من حزب المحافظين ودفع في اتجاه إنجاز عملية الخروج وفق الإطار الزمني المقرر، وهو ما دفع برلمانيون عن الحزب لمطالبة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، بالتحلي بقدر من الشجاعة في استكمال خطوات "بريكست"، والوقوف بثبات وقوة أمام مسؤولي الاتحاد الأوروبي في المفاوضات الجارية، وما يخص طلبات مفاوضي بروكسل من لندن.
موقف الاتحاد الأوروبي الذي أقر في وقت سابق حق بريطانيا في الخروج، وفق ميثاق الاتحاد، ووضع برنامجا زمنيا لتنفيذ هذه الخطوة وفق النصوص الضابطة للعضوية وزوالها في إطار الاتحاد، تنتهي في مارس المقبل بإتمام الخروج البريطاني من الاتحاد، يبدو أنه يشهد تشددا مفاجئا فيما يخص المفاوضات وخطوات مغادرة بريطانيا للمؤسسة الأوروبية.
كان دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، قد وجه خلال الأيام الماضية ما قال إنها "دعوة أخيرة لإيضاح موقف المملكة المتحدة من مسألة خروجها من الاتحاد" وهو ما تبعته مواقف حادة من حزب المحافظين، ليوجه 30 عضوا من الحزب خطابا مباشرا لرئيسة الوزراء، طالبين اتخاذ خطوات أكثر شجاعة في التعامل مع مجلس الاتحاد ومفاوضات "بريكست".
خطاب نواب "المحافظين" تضمن انتقادات مباشرة لمجلس الاتحاد الأوروبي وممثليه في مفاوضات "بريكست"، والمحاولات المتواصلة للضغط على لندن وإبقائها بالقرب من بروكسل، وتمديد فترة العامين المخصصة للجدول الزمني للخروج من المنطقة الأوروبية، بحسب مواثيق الاتحاد وتاريخ إخطار بريطانيا لمسؤوليه بنتائج استفتائها ورغبة مواطنيها في مغادرة منطقة اليورو، ورأى النواب في خطابهم أن الارتباط الذي يحاول الاتحاد فرضه على لندن سيحدّ من ممارسة سيادتها كبلد مستقل، وسيخصم من مصالحها لقاء ضمان قدر أكبر من المصالح لبروكسل ومؤسسات الاتحاد.
المؤكد أن الأداء الاقتصادي للاتحاد سيتأثر بخروج بريطانيا، وعلى سبيل المثال فإن مؤشرا مثل نسبة البطالة في منطقة اليورو، الذي تراجع من 8.5% في أبريل إلى 8.4% في مايو الماضي، بحسب المكتب الأوروبي للإحصاءات "يوروستات" مسجلا أدنى نسبة منذ ديسمبر 2008 بعدد 13.8 مليون عاطل، ربما لا يستطيع الحفاظ على مكاسبه مع الخروج، وتقليص ميزانية الاتحاد ومساهمات بريطانيا الكبيرة في اقتصاده، وفي دعم العملة الأوروبية الموحدة.
مفاوضات الانفصال بدأت في وقت سابق من العام 2017، ودخلت مرحلتها الثانية في ديسمبر الماضي، وحتى الآن لا يبدو أنها قطعت أشواطا بعيدة، رغم التوصل لاتفاق مبدئي في وقت سابق محوره تحمل بريطانيا فاتورة الخروج من الاتحاد، البالغة 40 مليار يورو تقريبا، قبل أن تعود بروكسل لوضع مزيد من العراقيل والتشدد في تفاصيل المفاوضات، للإبقاء على لندن بجوارها قدر الإمكان.
ما يراه متابعو مسار المفاوضات أن الاتحاد يحاول تكبيد بريطانيا مزيدا من الخسائر، ليس فقط كتأديب للمملكة التي ضربت باب الاتحاد بقدمها، ولكن لتخويف باقي دول الاتحاد من هذا المسار، وردعها عن التفكير في مغادرة المنطقة الأوروبية، مع الكُلفة الباهظة التي ستكون في انتظارها، والتي لن تتحملها كثير من الدول الأعضاء في ظل اقتصاديات مريضة وتعاني اهتزازات كبرى.
المخاوف المتصاعدة بشأن الخطوة البريطانية الفارقة في مسيرة الاتحاد، لم تتوقف عند عاصمة الاتحاد في بروكسل، أو مؤسسات المنطقة الأوروبية المشتركة، وإنما تعدتها إلى المراكز الاقتصادية والشركات الكبرى، التي قد تشهد مرحلة صعبة مع الانفصال الكبير المرتقب، وربما كانت هذه المخاوف سبب تحذير شركة "إيرباص"، عملاق صناعة الطائرات الأوروبي، قبل عشرة أيام من الآن، من اتجاهها لدراسة سحب استثماراتها المباشرة من السوق البريطانية، في ضوء احتمالات مغادرتها الاتحاد الأوروبي دون اتفاق انتقالي مُناسب ومُقنع لبروكسل.
خطوة "إيرباص" تضمنت بيانا بتقييم مخاطر الخروج البريطاني من الاتحاد، قالت فيه إن الخروج من الاتحاد الجمركي والسوق الأوروبية المشتركة دون اتفاق سيُلحق الضرر بإنتاج الشركة، بسبب احتمال توقف تدفقات قطع الغيار بما يؤثر على صلاحية الطائرات، وهو ما يُهدد بشكل مباشر حوالي 14 ألف موظف يعملون لدى الشركة في 25 موقعا بريطانيًّا، بجانب 100 ألف آخرين يستفيدون من أعمالها وسلاسل توريداتها، وهو الأمر الذي يُعني خسائر فادحة في حجم الأعمال وأعداد الوظائف، وتراجعات اقتصادية بعشرات مليارات الدولارات، وشددت "إيرباص" على أن مواصلة لندن رحلتها خارج الاتحاد دون توافق ستدفعها لإعادة النظر في فكرة وجودها بالسوق البريطانية.
التعقيدات المحيطة بالأمر تتصاعد مع خطوة بريطانية مفاجئة، اتخذتها الوكالة الوطنية البريطانية لمكافحة الجريمة قبل ساعات، بفتح تحقيق موسع في مزاعم تتصل برجل الأعمال البريطاني الشهير أرون بانكس، وهو المتبرع الأكبر لحملة الخروج البريطاني من المنطقة الأوروبية "بريكست"، وصلاته المثيرة للشبهة مع روسيا.
ملفات التحقيق في الموضوع تشير إلى رسائل بريد إلكتروني تتضمن تفاصيل عديدة عن اجتماعات موسعة جمعت رجل الأعمال البريطاني، وهو شريك مؤسس في حملة "غادر الاتحاد الأوروبي" الداعمة بقوة لـ"بريكست" منذ ما قبل إجراء الاستفتاء، بالسفير الروسي في لندن، جرت كلها في أوقات سابقة، وبعضها سابق على تنظيم الاستفتاء والخروج بنتيجة داعمة لمغادرة الاتحاد.
أزمة "بانكس" ترتبط في جانب منها بالخلاف البريطاني الروسي عقب محاولة تسميم العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال وابنته "جوليا" في بريطانيا، ودخول مرحلة من التوتر والتصعيد الدبلوماسي بين البلدين، ولكن إثبات وجود علاقة بين أرون بانكس والجانب الروسي ربما يثير شبهات واسعة بشأن "بريكست" نفسها، بشكل قد يدفع الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الخروج باعتباره عملا عدائيا مدعوما من موسكو، والضغط على الحكومة البريطانية في ضوء المواقف الحاسمة التي اتخذها الاتحاد لدعم لندن في صراعها من الكرملين عقب محاولة استهداف الجاسوس الروسي.
ما يُعمّق حالة الخوف التي تسيطر على مجلس الاتحاد الأوروبي، وعلى الأجواء في بروكسل ولندن، أن الوصول لتفاهمات مُرضية بشكل كامل للجانبين يبدو أمرا صعبا، وفي الغالب ستخرج بريطانيا من الاتحاد في التاسع والعشرين من مارس المقبل كما هو مُقرّر سلفًا، ولكن ستأتي هذه الخطوة بعد اضطرارها للإذعان لبعض شروط الاتحاد القاسية، بشكل قد يجعل حكومة تيريزا ماي عُرضة لمزيد من الهجوم والتوترات الداخلية، أو تخلّيها عن أجندة الاتحاد وقفظها على شروطه ومطالب مفاوضيه، بشكل قد يخلق أزمة مستقبلية بين البلد الكبير والجيران في المنطقة الأوروبية، وفي كل الأحوال فإن الخسائر السياسية والاقتصادية التي يثيرها قطار "بريسكت" غبارها في رحلاته من محطة لمحطة، لا يبدو أنها ستترك أوروبا كما كانت.. هذا إن لم تدهس القارة العجوز وتبتر كثيرا من أطرافها.