لسنوات طويلة شهدت شبه الجزيرة الكورية توترات حادة بين الجارتين الشمالية والجنوبية، ومع تقدم كوريا الجنوبية اقتصاديا وصناعيا، والضغوط الاقتصادية التي واجهتها كوريا الشمالية جراء العقوبات، كان يبدو أن بيونج يانج تشكل خطرا حقيقيا على مركز اقتصادي مهم في جنوب شرقي آسيا، ما يستدعي دعم "سول" وتشكيل حائط صد لحمايتها.
بعيدا عن صدق الاستهداف الكوري الشمالي من عدمه، وجدية بيونج يانج في تهديداتها لجارتها الجنوبية، فإن خطرا حقيقيا بدأ يتصاعد في أوساط النخبة الحاكمة والمراكز الاقتصادية في "سول"، خاصة مع نشر كوريا الشمالية بطاريات صواريخ بعيدة المدى على الحدود المشتركة، وتنفيذها أعمالا عدائية في المياه الإقليمية المشتركة وعلى خط الحدود البرية، ما دفع الجارة الجنوبية للاستنجاد بالخارج.
لم يكن متاحا لكوريا الجنوبية أن تحصل على دعم كافٍ لتغيير قواعد الصراع إلا من الولايات المتحدة الأمريكية، التي نشطت في المنطقة قبل عقود، في سعي مباشر لإحداث حالة من التوازن مع التنين الصيني، ومواجهة تغول بكين في الساحة الجنوبية الشرقية لآسيا، وبين دعم صيني وحماية مباشرة للنظام الكوري الشمالي، وتمركز أمريكي في كوريا الجنوبية واليابان، بقيت المنطقة على صفيح ساخن، لكنه في الحدود المحتملة من السخونة.
لم تكن كوريا الجنوبية راضية عن المعادلة بشكلها القائم، خاصة مع توزع كثير من العائلات بين البلدين الجارتين، فسعت لإنجاز مبادرات سياسية واجتماعية مع النظام الكوري الشمالي للسماح بتنظيم لقاءات مباشرة لجمع شمل العائلات الكورية الموزعة بين البلدين، ورغم إنجاز عدد من اللقاءات في السنوات الأخيرة بالفعل لم يكن هذا كافيا لتذويب مساحات الجليد بين البلدين.
كما تحققت الحماية لكوريا الجنوبية من بوابة الولايات المتحدة الأمريكية، لم يتحقق التقارب الجاد والحقيقي إلا من خلالها أيضا، فعقب لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون في سنغافورة قبل أسابيع، واتفاق الرئيسين على التحرك باتجاه التهدئة في المنطقة، سواء بتخلي بيونج يانج عن ترسانتها النووية، أو رفع الولايات المتحدة للحظر والعقوبات المفروضة على كوريا الشمالية منذ سنوات بعيدة، بدأت الاتصالات بين الجارتين الكوريتين تأخذ منحى مختلفا عما كانت عليه طوال عقود من الصراع.
منذ قمة ترامب وكيم جونج أون لا يمر يوم دون خطوة إيجابية جديدة بين الكوريتين، رغم ما يبدو أنه تشدد مبالغ فيه من جانب الجارة الجنوبية، ربما قياسا على حقبة طويلة من الخوف والتوجس والشكوك المتبادلة، ففي الوقت الذي يسعى البلدان للتعبير عن بوادر حُسن النية واستكشاف الأرض تحت قدمي كل منهما، طالبت كوريا الجنوبية عقب القمة مباشرة بتحريك بطاريات وحوائط الصواريخ الكورية الشمالية من على خط الحدود، ثم تحدثت عن ضرورة تفكيك الترسانة النووية قبل أي تقارب اقتصادي أو رفع للعقوبات، ورغم ما عُرف به الزعيم الكوري الشمالي من عناد وغطرسة فإنه تعامل في هذه المرة بصورة مختلفة، واستطاع احتواء المخاوف الكورية الجنوبية، وعبور مساحات الشك التي كانت كفيلة في وقت سابق بنسف كل خطوات التقارب.
في ضوء هذه المساحة الإيجابية المتنامية بين البلدين، تتجه كوريا الجنوبية على ما يبدو لتطوير الأمر مع جارتها، فبحسب ما أعلنته وزارة الدفاع في "سول" فإنها أعادت فتح قناة الاتصال البحرية بين البلدين اليوم الأحد، لتجري سفن الدولتين اتصالات اللاسلكي بشكل مباشر وطبيعي، بعد 10 سنوات كاملة من القطيعة وانعدام التنسيق.
وقالت وزارة الدفاع في "سول"، إن زورق دورية من الجارة الشمالية تلقى اتصالا من قوات البحرية الجنوبية عبر قناة لاسلكي دولية، في تمام التاسعة من صباح الأحد، بينما كان يُبحر في البحر الغربي، وشدد مسؤول بالوزارة على أن الخطوة الأخيرة تؤكد اتخاذ الكوريتين خطوات عملية جادة باتجاه الالتزام بالاتفاقات المبرمة بينهما في أواخر أبريل الماضي، قبل أسابيع من القمة الأمريكية الكورية الشمالية، عنما قرر زعيما الكويتين نزع فتيل التوتر العسكري القائم بين البلدين بشكل تدريجي على المحاور المختلفة.
التقارب المتصاعد رغم حسبانه على إجراءات التهدئة، ربما يكون سببا مباشرا في إثارة صراع من نوع آخر، فمع اتجاه كوريا الجنوبية والولايات المتحدة لإيقاف المناورات المشتركة أو تقليل وتيرتها قريبا، ومع تقارب الكوريتين وحلول مساحة من السلام بينهما، وتوغل التنين الصيني في بيونج يانج، ربما تعني كل هذه التفاصيل خسائر استراتيجية لواشنطن في شبه الجزيرة الكورية، وبالتبعية في منطقة جنوب شرق آسيا.
الرؤية الجيوسياسية القائمة منذ عقود طويلة، تؤكد أن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الإبقاء على قدر من التوتر في شبه الجزيرة الكورية، وكل هدوء أو استقرار أو علاقات إيجابية فاعلة بين الجارتين الكوريتين قد يدفع "سول" صاحبة الاقتصاد الضخم والاستثمارات المتنامية إلى التخلص من الحماية الأمريكية، بما ترتّبه عليها من أعباء اقتصادية وسياسية، لا تطال فقط من اقتصاد البلاد، وإنما قد تطال أيضا من قرارها السياسي.