صباح العيد يا مصر
الجمعة، 15 يونيو 2018 11:05 ص
«عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ/ بما مضى؟ أم لأمر فيك تجديد؟» هكذا تساءل شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي قبل أكثر من ألف سنة، وهو يستقبل عيدا كان على ما يبدو جديد الأيام قديم الحوادث، أثقل التكرار ساعاته وجفّف منابع البهجة في نفوس مستقبليه، وهذا ما يفعله التعليب وإعادة إنتاج الأحداث طوال الوقت على صورة واحدة، وهذا ما يمكن الجزم بأن مصر لم تفعله اليوم وهي تستقبل عيدا جديدا ومختلفا على كل المستويات.
المشهد الأول في عيد مختلف، أننا إزاء حكومة جديدة، تبدأ عهد العمل من يوم بهيج وطقوس احتفالية، والرسالة الأهم في الأمر أن الإجازة وكرنفالات الاحتفال للناس، وليست للمسؤولين، وإصرار القيادة السياسية على إنجاز التشكيل الجديد للحكومة برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي، وإنهاء مراسم أداء اليمين الدستورية وتسلم المهام رسميا، أمس الخميس، وقبل ساعات من العيد وإجازته، إشارة حاسمة إلى أننا بصدد صيغة جديدة للمسؤولية التنفيذية، وليس رحلة في أروقة الوجاهة كما يتخيل البعض، ولو لم تكن الرغبة المباشرة في أن يبدأ الوزراء الجدد والقدامى ضمن تشكيل الحكومة الأولى في ولاية الرئيس الثانية عملهم من يوم إجازة، لأجّلت القيادة السياسية إعلان التشكيل الجديد، وتركت حكومة تسيير الأعمال برئاسة المهندس شريف إسماعيل في موقع المسؤولية لحين انتهاء إجازة العيد.
ما يؤكد أننا بصدد حكومة آتية بفلسفة مختلفة، أن التغيير طال اثنتي عشرة حقيبة وزارية، منها اثنتان سياديتان، وأن هيكل الحكومة تضمن زيادة تمثيل المرأة لثماني وزيرات، بنسبة 25% من إجمالي الحقائب، بجانب الوصول بعدد نواب الوزراء إلى خمسة عشر نائبا، مع النزول بمتوسط أعمار الوزراء ونوابهم بصورة ملحوظة، وأن يطال التغيير حقيبتي الدفاع والداخلية وسط أداء جيد ومتماسك للغاية خلال الشهور الأخيرة، ونجاح في جهود حصار الإرهاب، ونتائج إيجابية في العملية الشاملة «سيناء 2018»، وأيضا أن يبدأ وزير الداخلية الجديد المعروف بدوره الكبير في ضبط الحالة الأمنية واصطياد عناصر الإرهاب وميليشياته، ساعاته الأولى في المنصب بتعديل محدود طال اثني عشر موقعا قياديا في عدد من الإدارات الحيوية بالوزارة، يعني أننا بصدد خطة جديدة، جاهزة بالفعل، لهيكلة القطاع الأمني، وإنجاز المرحلة الأخيرة من معركة القضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه.
ثاني الرسائل المهمة في صبيحة الاحتفال بالعيد، أن يفيق المصريون على مشهد شجي ومهيب، يحتشد فيه عشرات الأطفال في ساحة قصر الاتحادية، يشاركهم رئيس الدولة أجواء العيد واحتفالاته وإفطاره وألعابه، ويوزع عليهم الأطعمة والهدايا والمشروبات، في تقليد من فرط دهشته ربما لم يستوعبه البعض، أو سالت دموعهم كما حدث معي وأنا أرى أبناء شهداء الجيش والشرطة يلعبون في حديقة مقر رئاسة الجمهورية، في رسالة أعمق ما فيها أن مصر للمصريين وأبنائهم، من أكثر أماكنها تواضعا حتى أعلاها، ومن شوارعها حتى مقر إدارتها السياسية والتنفيذية.
أعظم ما في مشهد تكريم أسر الشهداء واستقبال أبنائهم في القصر الرئاسي، بجانب ما يحمله من رمزية ورسائل مباشرة عن تصور القيادة السياسية للعلاقة مع الشارع، أنه يمسح مرارة يفجرها العيد ولا يعرفها إلا الأطفال اليتامى، وباعتباري يتيما عتيدا، فقدت أبي في الثامنة من عمري، فقد اختبرت لسنوات وعشرات الأعياد حجم الوجع الذي تفجره هذه المناسبة في العيد، وأنا أرى الأطفال في عمري قابضين على كفوف آبائهم في رحلة الصلاة وطقوس العيد، بينما أذهب وحيدا، وأستشعر البهجة في البيوت جميعا، بينما يتشح بيتنا بالسواد لأن العيد جدد مشاعر الحزن والفقد والوحشة في قلب أمي وأقاربي، أو أجلس أمام تلفاز عتيق كعجوز أكلت الأيام روحه، لا أنتظر أحدا ولا شيئا، بينما يجلس الأطفال في لمّة العائلة منتظرين الهدايا والألعاب والقبلات والأحضان. عظمة مشهد اليوم أنه سرق من هؤلاء الأطفال فرص المعاناة التي جربتها قديما، ومنحهم فرصا ضخمة للبهجة لم يكن متوقعا أن تشق طريقها إليهم وهم محاصرون باليتم والفقد وسواد ملابس الأمهات والجدات.
ثالث المشاهد المهمة في عيد مختلف، أن عيون 100 مليون مصري ودعواتهم المشحونة ببهجة العيد ونفحاته الإيمانية، تتجه صوب الملاعب الروسية استعدادا لانطلاق المباراة الأولى للمنتخب الوطني لكرة القدم ضمن منافسات كأس العالم «روسيا 2018»، في حضور بالغ الأهمية في ضوء أنه الثالث في تاريخ مصر، والأول بعد انقطاع دام ثمانية وعشرين عاما، أو ست دورات متتابعة، في ظل توقعات إيجابية وطموحات واسعة للمنتخب المصري صاحب الترتيب التاسع والأربعين عالميا والخامس أفريقيا، متفوقا في ترتيبه على منتخبي السعودية وروسيا، شريكيه في المجموعة الأولى، ومساويا لمنتخب أوروجواي في ترتيبه القاري.
المباراة المرتقبة صعبة بالتأكيد، وربما كانت حظوظ منتخب أوروجواي أكبر، وهو حائز اللقب مرتين، ويشارك للمرة الرابعة عشرة بغياب 7 دورات فقط عن المونديال، ولكن الزخم المحيط المنتخب بالمصري، ووجود ترسانة المحترفين في عدد من الدوريات العالمية الكبرى، في مقدمتهم الدولي الأشهر محمد صلاح، وأيضا النتيجة الصادمة للمنتخب السعودي الشقيق في افتتاحية البطولة وأولى مباريات المجموعة الأولى، كلها تمثل حافزا للمنتخب الوطني على خوض مباراة قتالية، وتعويض الغياب الطويل عن البطولة بحضور مميز اليوم، ما قد يقود منتخبنا اليوم لتحقيق مفاجأة كبرى، على الأقل بانتزاع نقطة من منتخب أوروجواي القوي في الإطلالة الأولى للفريقين بالبطولة.
خلاصة الحال، أننا أمام مشاهد عديدة تُكسب العيد نكهة مختلفة، لا تشبه سوابق أعيادنا، حكومة جديدة تبدأ عملها في يوم إجازة رسمية، ووسط أجواء بهيجة واحتفالية، قيادة سياسية تخرج على مراسيم البروتوكول المعهودة في هذه المناسبات، وتحتفل مع مئات المصريين، يتقدمهم عشرات من أطفال الشهداء، في صورة تُقدم أبناء من ضحوا بأرواحهم ودمائهم على الواجبات الاجتماعية التقليدية، حتى أن رئيس الدولة يترك أبناءه وأحفاده ليحتفل مع أبناء رجال الواجب والبطولة، ويكون أبا بالمسؤولية والرعاية والاحتضان لهؤلاء الأيتام، في يوم يوجه كل والد أبوّته لأبنائه بالدم والرحم. ومنتخب يحمل آمال وأحلام ملايين المصريين، وعزيمة وتحدي لاعبين ونجوم يملؤون السمع والبصر في أنحاء العالم، ليضفي على العيد بهجة مضاعفة في يوم ليس كباقي الأيام.
ربما تكون الظروف الاقتصادية صعبة وضاغطة، وننتظر قرارات أخرى ضمن خطة الإصلاح وإعادة هيكلة الاقتصاد، وتحديات الحكومة والشعب قوية ومتداخلة، بينما نقف جميعا مشدودين بين موارد محدودة وأعباء متضخمة، وأيضا حظوظ المنتخب الوطني ليست الأكبر أمام منافسه، في ضوء فارق الخبرة والتاريخ، ولكننا أمام مشاهد إيجابية محفزة، وباعثة على الأمل، ترسم صورة مختلفة ومغايرة لما اعتدناه في العيد، بما يكفي لأن نبتسم ابتسامة مختلفة ومغايرة في هذا اليوم، ممتنين لهذا القدر من البهجة غير الاعتيادية.
صباح الخير.. صباح العيد يا مصر.