ماريا.. ابنة الفصول الأربعة
الثلاثاء، 17 أبريل 2018 08:06 م
على أريكة من خشب الصنوبر، تجلس ماريا ورأسها مسيج بكفيها، كمحارب لم يغمد سيفه بعد، تحاول وقف نزيف ذكرياتها المبتورة، ثم سرعان ما ترفع عينيها نحو المرآة العتيقة المنتصبة أمامها، فترى نفسها عجوزًا لم يزدها الشيب إلا سحرًا فضيًّا، تترقرق على صفحته أمواج الشمس المتساقطة من بين قضبان النافذة المطلة على نهر العمر.
تُنكس ماريا رأسها مرة أخرى وتحكم الضغط بكفيها على جبينها، ثم تعاود الكرَّة، فترفع عينيها إلى المرآة، لتجد نفسها هذه المرة فتاة في الثالثة عشرة، بنهدين متمردين، وجدائل تعانق كتفيها المنحوتتين من أبنوس أحمر لا ينبت إلا في الفردوس.
تمارس هي لعبتها تلك في اليوم والليلة مرات ومرات، وفي كل مرة تستكشف واحدًا من وجوهها، وعمرًا من أعمارها، لكنها حين نظرت في المرآة ووجدت نفسها امرأة فائرة في عقدها الرابع؛ وجه منحوت، خيوط من ذهب تتساقط من رأسها كشلال متدفق، قامة مشدودة، منحنيات تبيت فيها الفتنة، وساقان قُـدا من معبد روماني.
نهضت ماريا، وخطت نحو المرآة..
* مَن أنا؟
- ماريا.
* أنا لا أبحث عن اسم في كشوف الناجين.. أخبريني من أكون..
- ليس لي أن أنطق.
صرخت ماريا، وقذفت المرآة بقبس من غضب متجمد استحال كتلة من لهب، فاشتعلت تلك الزجاجية العاكسة لصورة تراقص اللهب..
لم تتوجع المرآة، بل ضحكت، فانزعجت ماريا، وأسرعت إلى مرآتها واحتضنتها لتوقف انتشار اللهب.. وبحكمة المتهدلة أثداؤهن، قالت المرآة:
- أنتِ تعلمين أنني أنتِ، وأنتِ أنا.. إن مـتُّ مـتِّ.. وإن متِّ متُّ.
عادت ماريا إلى أريكتها، لتضع رأسها بين يديها، ثم أجالت بصرها في الأرجاء، لتمسح بعينها كل ركن بهذا المنزل العجيب.. منزل بناه خبازٌ قبل مائة عام، لكنه مات قبل أن يكتمل البناء، لهذا فلا تندهش إن وجدت فجوة في هذا الجدار أو ذاك، ولا تتعجب إن شاهدت آشعة الشمس تتناثر في بقعة هنا وأخرى هناك، ساقطة من فتحات في السقف كجراحٍ لا تلتئم بمرور الزمن.
بيت متكور على نفسه، كصبِّية منزوية في ركن، بعد أن فضوا بكارتها في ليلة عرس بلا قمر.
بيت يلفظ أي غريب، ولا تسع بطنه، رغم اتساعه، سوى ماريا والمرآة، وآنية من الفخار.. تلك الآنية التي كان صاحب هذا البيت يعجن فيها مزيجه السحري ليعدَّ خبزة السلطان.
نهضت ماريا تجر غضبها، وراحت تركل الآنية بقدمها حتى تشققت وانفلقت، فخرج منها جني صغير، بخصلة شعر واحدة زرقاء، لكن ماريا لم تفزع، بل اقتربت من الجني وثبتت ناظريها نحوه، فانحنى أمامها وحيَّاها:
- مولاتي..
تلفتت ماريا حولها، فلم تجد أحدًا.. فقط هي والمرآة وأشلاء الفخار، الذي بدا كقطع لحم وردية، إلى أن سمعت الجني يهتف:
- أنتِ مولاتي.. ماريا ابنة الـ...
لم يكمل الجني كلامه، إذ انكمش كثمرة جف ماؤها، وهو يسد أذنيه تفاديًا لصرخة مأفونة أطلقتها المرآة، فاهتزت جدران المنزل وتساقطت أحجارها..
أجالت ماريا نظرها بين المرآة والجني وجدران المنزل، ثم انحنت فالتقطت حجرًا وقذفت به المرآة، التي أخذت تصرخ لتحذِّر ماريا من الاستماع إلى كلام الجني.
- في حكايته نهايتك.
تناثرت شظايا المرآة، واختلطت بأشلاء الفخار، والجني يحكي:
«قبل الزمان بزمان، كان الخباز يبحث عن وصفة سحرية من أجل السلطان التعس، لقد أراد الخباز أن يصنع خبزة إذا أكلها السلطان سرت في دمائه السعادة، ولهذا سافر الخباز إلى أربع ممالك.. هي ممالك الصيف والربيع والشتاء والخريف، وأحضر من كل مملكة شيئًا نادرًا ليس له مثل.. من الصيف أحضر الذهب.. ومن الربيع أحضر الكاكاو، ومن الشتاء أحضر زهرة النسيان، ومن الخريف أحضر العسل.
لقد خلط الخباز كل هذه الأشياء معًا، داخل آنية من فخار كان أهداها له ملك الجن، ولم يكن ينقص تلك الخلطة سوى تعويذة سحرية قرأها الخباز ثم مات، قبل أن يختمر العجين، لم يكن يعرف أن تلك التعويذة السحرية تقتل مَن يقرأها..
اختمر العجين، وظل ينمو وينمو، إلى أن أصبح ماريا.. أنتَ العجين المختمر يا ماريا، أنتِ ابنة الفصول الأربعة، في عينكِ يبيت السحر، وفي قلبك يولد الشغف، وفي عقلك تصنع الحكمة، وفي روحك يكمن السر..».
انتهت حكاية الجني، فذاب كشمعة يتراقص اللهب من رأسها، وسال في الأرض نهرًا من الفضة، بينما تحولت ماريا إلى ألف ألف فراشة ملونة.. فراشات ترقص حول الضوء وهي تتلو صلاتها الأخيرة، قبل أن تسقط.
لم تكن ماريا تعلم أنه «من عرف السر.. هلك».