عن مكان حُفِرت شوارعه باسم ودم أهله «المصريين»
الخميس، 01 فبراير 2018 01:46 م
عن أزمنة مختلفة اجتمعت فقط على حب تراب وطن ذاب في حالة عشقه هويات وجنسيات مختلفة.. فصاروا منها وصارت بهم.. تغيروا بها وتغير وجهها بهم.. هي حالة من العشق لا تدري لها سبب..
(2)
قابلته صدفة أمام واجهة محلهم القديم «بايوكي» في وسط االبلد، ووجدت نفسي أتساءل: لماذا إنسان مثل «بياترو بايوكي»- الذي جاء جده الأكبر من إيطاليا عام 1864 لمصرنا وبدأ مشروعه كجواهرج- لم يهاجر ويترك مصر؟
ما سر تلك الحالة التي جعلته- رغم تردي الأوضاع في مصرنا- لم يفكر للحظة هو أو أجداده، أن يهاجروا إلى موطنهم الأصلي في إيطاليا.. برغم حديثه عن مكانته وأهل زوجته، وعن والد زوجته الذي محافظ ميلانو..
توقف واسأل نفسك لوهلة من الزمن قد تعيدك من جديد لذاتك.. فما ذاتنا دونها!.. ومن نحن إذا لم نعش العمر كله لأجلها ولجعل رايتها مرفوعة أبد الدهر!
(3)
«البلد دي أنا مؤمن أنها هتتغير بستاتها».. كانت تلك هي جملة «بايوكي» لنا .. كنساء اجتمعن ليس لنذهب إلى إحدى النزهات الاستهلاكية، بل لنبحث ونفتش في جذور هويتنا المصرية في وسط البلد وتحديدا لنتعرف على تاريخ وسبب تسمية كل شارع باسمه.. أنا أيضاً مثله.. أؤمن أن التغيير بنا.. نحن نون النسوة المصرية.. عزيزتي أنتِ قوة لا يستهان بها..
«أكتر حاجة وجعاني.. هي هدم المباني التاريخية».. قالها «بايوكي» بوجع صادف في أنفسنا مثله.. خاصة وهو يشرح لنا كيف حافظ على أرضيات وحوائط محل أجداده ورممها؟ فجعلها مثل شكلها الأصلي الذي كانت عليه تماما.. وفي نفس الوقت هو يستخدم تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في تصنيع المجوهرات..
طوّر العقلية وأبقى على الأصالة والعراقة وهوية المكان وتلك هي المعادلة الصعبة.. «بايوكي» عندما سألناه عن جنسيته قال: «أمي مصرية وأبويا طلياني.. يعني القلب كله مصري..
(4)
القاهرة الخديوية.. الخديوي إسماعيل.. هذا الذي ظلمته كتب التاريخ.. دعوني أصف لكم مكان من زاوية رؤيتي، قد تكون صادفك رؤيته.. هو مكان بين «مسجد الكيخيا» وعمارة ملاصقة له تقع ضمن القاهرة الخديوية..
يتلاصقون الآن في المكان ويختلفون في تعاقب الأزمان فالعمارة بنيت بعد المسجد بحوالي 150 عاما.. تشابههم في تواصل البناء الحضاري للفسيفساء المصرية الأصيلة وخطها الزمني الممتد عبر السنين، منذ قدماء المصريين وحتى الآن..
تظهر الروعة في تلك النقوش البديعة الإسلامية التي ازدان بها المسجد.. وتلك التي ازدانت بها العمارة الملاصقة له، التي خطط لها الفرنسي الشهير «هوسمان».. المهندس الذي قام بتخطيط «باريس» في عهد الإمبراطور «نابليون الثالث».. الذي أسند له «الخديوي إسماعيل» مهمة تخطيط القاهرة الخديوية، حيث كانت قبل ذلك عبارة عن برك ومستنقعات فصارت وسط البلد وقتها تُلّقب بـ «باريس الشرق»..
الخديوي إسماعيل صاحب الحلم الذي تولي الحكم في عام 1863 وكانت وقتها حدود القاهرة تمتد من القلعة شرقاً إلى مدافن الأزبكية والعتبة غرباً ويغلب على أحيائها التدهور العمراني.. ولكنه حلم ونفذ حلمه في وطنه مصر برغم جذور أسرته العلوية الألبانية.. فأقام نهضة عمرانية واقتصادية وإدارية حقيقية بشكل مدروس ومخطط.. فصارت القاهرة الخديوية وروعة التصاميم المعمارية بها.. وإستحق أن يطلق عليه التاريخ لقب «المؤسس الثاني» لمصر الحديثة بعد جده محمد علي باشا لما قام به من إصلاحات مثل الإصلاح النيابي، والإداري، والقضائي، والعمراني، والاقتصادي، والتعليمي والثقافي..
ولك أن تعلم أن «علي مبارك»، وزير التعليم وقتها كان في عهده، الذي أقام تحت إدارته مدرسة لتعليم الفتيات وأوقاف أراضي للتعليم وقوانين تنظم شئونه..
عزيزي القارئ هذا وقت كان قبله وبعده وربما أثنائه.. المصريون يعملون بالسخرة في أراضي تقع تحت سيطرة «عثمانين» لأننا وقتها كنا تحت الاحتلال العثماني الغاشم.. لكن الخديوي إسماعيل صار مصرياً خالصاً وطنياً إلى الحد الذي بالطبع أقلق الدول الاستعمارية الأوروبية فخافت من نزعته الاستقلالية فطالبت الوالي العثماني في الأستانة بعزله وتولية ابنه توفيق، الذي كان عكس والده في كل شيء..
ألا ترى عزيزي القارئ أن التاريخ يعيد نفسه.. لكن بوجوه مختلفة؟
مازالت مصر هي الجائزة الكبرى لأمريكا وأوروبا وغيرهم .. وما زلنا أقوياء –رغم ضعف مواردنا – قادرون على صد أطماعهم طالما كنا وحدة واحدة في ظهر مصرنا.. لن نلين ولن نستكين إلا عندما نرى مصرنا في مكانتها بين الأمم.. عزيزي المصري اصنع لنفسك حلمك ورؤيتك الشخصية، وإبدأ تنفيذها فوراً ولا تيأس أبدا.. فحلمك هو حلم مصر وعندما تنجح فيه، سينجح الجزء الخاص بك في خط زمن حلمنا المصري.
(5)
شارع جواد حسني.. طالب كلية الحقوق جامعة القاهرة ذو الـ 21 عاماً، الذي كان في سنته الأخيرة الجامعية وقت العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.. تطوع بكامل إرادته للدفاع عن بلده هو وغيره من الفدائيين المصريين، فانطلق مع مجموعة من الشباب كونها بنفسه ككتيبة للدفاع عن الوطن إلى منطقة القنال وهناك قابلتهم دورية إسرائيلية فاشتبكوا معها ورغم إصابته برصاصة في كتفه الأيسر إلا أنه رفض أن يعود فتقدم زملاؤه وضمدوا له جرحه..
وفي ليل نفس اليوم تسلل جواد حسني من بين أفراد كتيبته ووصل حتى الضفة الشرقية التي احتلها الفرنسيون وقتها واشتبك معهم بمفرده وكان مدفعه سريع الطلقات فظن الفرنسيون أنهم يحاربون قوة كبيرة فطلبوا قوة تساعدهم وتقدموا تجاهه فوجدوا «جواد»، وحده ومعه مدفعه وقنابله اليدوية ودماؤه تنزف بغزارة حتى سقط مغشياً عليه.. فنقلوه لمعسكر الأسري وجاء قائد القوات الفرنسية لاستجوابه بنفسه فلم يبح له بأي من أسرار الوطن لينقذ نفسه بل مد إصبعه في جروحه وكتب على الحائط كلمات ظل التاريخ يسطرها إلى الآن..
جواد الذي أوهمه قائد القوات الفرنسية أنه سيطلق سراحه.. وبمجرد خروجه ضربه الجنود الفرنسيون برصاصاتهم ولكن، من ظهره.. عاش بطلاً ومات شهيداً بإذن الله رجلاً وهاهي آخر كلمات سطرها بدمه: «اسمي جواد.. طالب بكلية الحقوق.. فوجئت بالغرباء يقذفون أرضي بالقنابل فنهضت لنصرته.. وتلبية نداؤه .. والحمد لله لقد شفيت غليلي في أعداء البشرية.. وأنا الآن سجين وجرحي ينزف بالدماء.. أنا هنا في معسكر الأعداء أتحمل أقسى أنواع التعذيب.. ولكن يا تري هل سأعيش؟ هل سأرى حرة مستقلة؟ ليس مهم أن أعيش.. ولكن المهم أن تنتصر مصر ويهزم الأعداء».
(6)
لن أزيد حرفاً عن كلمات جواد حسني.. فمن سبقوه و عاصروه أو لحقوا به في أيامنا هذه من شهدائنا الأبرار سطروا تاريخاً لمصرنا بدمائهم الطاهرة.. الجميع إذاً -من ضحوا بأعمارهم أو أفنوها في خدمة الوطن-ليس لكي تعيش أيها المصري صاحب الحضارة من أجل ذاتك وفقط.. ولكن من أجل أن تكمل مسيرتهم حتى نصل بمصرنا لمكانتها التي تستحقها بين الأمم.
فماذا أعددت لذلك؟