أبي الذي لم يمت
الأربعاء، 10 يناير 2018 04:06 م
بعد أيام تحل الذكرى الخامسة لوفاة والدي- الحاج دياب رحمة الله عليه- ولم أفكر طوال السنوات الخمس في الكتابة عنه، إلا أنني فوجئت بيدي تمسك القلم، وتُسطر بانسيابية، مشاعر القلب التي تفيض، وتعبر بالحروف والكلمات عن الألم- الذي خلفه موته، والأمل- الذي أحيا به إلى أن ألقاه في جنة الخلد بإذن الله.
عشتُ مع والدي- رحمه الله- 25 عاما، وكان بيننا ما يقرب من 59 عاما، حيث ولد هو في بداية عام 1930، وولدت أنا في نهاية عام 1988، وعلى الرغم من أنني تركت بلدتي، وانتقلت للإقامة في القاهرة- وحيدا- وأنا أبلغ من العمر 19 عاما، وقبلها كنت أتردد على المحافظات المختلفة مثل الجيزة، والإسكندرية، وقاهرة المعز، في الإجازات الصيفية للعمل بها، حتى أعود بما ينفعني، أو ما أقدمه له مساعدة مني في أمور المنزل، إلا أنني صادقته، وقَبل هو، بكرمه وأخلاقه، هذه الصداقة التي أعتقد أنني أنا الوحيد من أبنائه السبع- الذكور- التي حظيت بها.
الحق أقول، أنني أحببته أضعاف حبي له، في تلك السنوات التي ابتعدت فيها عن كنفه، حيث أدركت حينها قيمة جلوسي أمامه، حتى وإن كان الصمت سائدا.
كان والدي- رحمه الله- رجلا قلما يجود الزمان بمثله، وإطرائي هنا ليس فقط كونه والدي، وللأب دائما معزة خاصة، ويراه الأبناء في منزلة عالية، ولكن لأنه حقا هكذا، لم أعرفه سوى، طيبا، نقيا، شفافا، قويا، كريما، وذكيا، كان يحبه الجميع، وأحبني هو، وأكرمني بمحبته، وترك لي دعاءه الذي كان ومازال سببا في قدرتي على تخطي كل الصعاب التي واجهتني في الحياة.
في يوم من الأيام الأخيرة بحياته، اتصلت والدتي شاكية عدم رغبة والدي في الطعام، على الرغم من انقضاء النهار، فطلبت منها إغلاق الهاتف لاتصالي أنا به، ليرد والدي الذي أخبرته بجوعي الشديد، إلا أنني أكدت له عدم تناولي الطعام، إلا لو اتصلت والدتي، وأخبرتني أنه تناول طعامه، فما كان منه إلا أنه قرر أن يتناول طعامه- على مضض- لأفعل أنا.
الموقف السابق- وهو واحد من كثير- أحكيه الآن، تباهيا بما أحرزته من محبة والدي ورضاه، وهما سببا رئيسا في شعوري أنا بالرضا، وقناعتي الشديدة بما رزقني الله به، على الرغم من سعيي الدؤوب لإحراز ما هو أكبر، والوصول إلى ما هو أعلى.
"دع الأمور تجري في أعنتها.. ولا تبيتن إلا خالي البالي.. فكم من غمضة عين وانتباهتها.. يغير الله من حالٍ إلى حال.. دعها سماوية تسري على قدر.. ولا تعترضها برأي منك تنفسدِ".. كان والدي رحمه الله، دائم ترديد هذا البيت الشعري، بالإضافة إلى أبيات أخرى، ومواقف، وأحاديث، تدور كلها في فلك "الرضا والاطمئنان"، الذي دخلته- أي الفلك- بروح مطمئنة، وهمةٍ يُعلي من قدرها محبة والدي.
أدرك تماما، أنني لو تركت ليديّ الفرصة الكاملة للكتابة عن والدي، لن تتوقف عن استدعاء المشاعر من القلب والكلمات والأفكار من العقل، كما أنه لن تنتهي المواقف التي تُحكى، ولا المشاعر التي تظهر، ولكن أكتفي اليوم برسالتي له: " أعتذر عن تلك الأيام التي ابتعدت فيها عنك حتى وإن كان ذلك رغما عني، وأشكر اللحظات التي مكنتني من النظر إلى وجهك، وسمعت فيها صوتك، واقتربت من خلالها بك، رحمك الله وأنزلك منزلة الصديقين والشهداء وألحقني بك على خير".